إصلاح القلوب والسريرة، وتوطين النفس على حب الخير للمسلمين، ومنع التحاسد والضغائن؛ مما يجمع كلمة المسلمين، وهي شرط لإصلاح أحوالهم المرتهنة بأيدي عدوهم.

مقدمة

المسلم الصالح السريرة، صاحب القلب السليم؛ لا ينطوي قلبه على غل أو غش أو حقد على أحد من المسلمين؛ بل يحب الخير لهم كما يحبه لنفسه ممتثلا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». (1البخاري: (13)، مسلم (45)، واللفظ للبخاري)

ومقتضى هذا الحديث أن يكره لهم ما يكره لنفسه، يفرح لفرحهم ويحزن لمصابهم. وفي ذلك يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى:

“وقد استحسن الإمام أحمد ما حُكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرَك أحد إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك..؟

فقال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه، أو معنى هذا، فقال أحمد: ما أعقله من رجل”. (2الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص 32))

ترك الحسد للمسلمين

ومن لوازم حب الخير للمسلمين طهارة القلب من الحقد والحسد.

و”الحسد” مرض من أمراض القلوب الشائعة بين الناس. وحقيقته الاعتراض على قدر الله، وحكمتِه في المنع والعطاء والشدة والرخاء.

وماهيَّة “الحسد” کراهية نعمة الله عز وجل على عبد من عباده، وتمنِّي زوالها عن صاحبها. وللحسد غوائل وأخطار مهلكة للدين، ويدل على فساد في السريرة.

أسباب الحسد

وله أسباب عدة منها:

1- العداوة والبغضاء. وهو أشد أبواب الحسد.

2- التعزز. وحاصله أن يثقل على الحاسد أن يترفع عليه المحسود في دنيا أو دين.

3- التكبر واحتقار الغير. وتوقُع انقيادهم ومتابعتهم له، فإذا أصابهم نعمة وارتفع حالهم خاف الحاسد أن ينقلب الحال عليه وينْفضّ الناس عنه.

4 – المماثلة والمساواة. وهذه في العادة تكون بين الأقران في دنيا أو دین.

5- الخوف من فوت المقاصد. وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كل منهما يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عونا له على الانفراد بمقصوده.

6- حب الرياسة وطلب الجاه والثناء. فينشأ الحسد من طالب ذلك لكل من يراه أو يسمع به ممن يساميه، أو يكون نظير له.

7- خبث النفس. وشحها بالخير لعباد الله تعالى، والفرح بالشرور عليهم. (3انظر: تصفية القلوب، یحیی بن حمزة اليماني: (ص 179-178))

والموفَق من وفّقه الله عز وجل، وأصلح سريرته، وطهّرها من هذا المرض العضال، ووفقه للأخذ بأسباب علاج الحسد.

أسباب علاج الحسد

أسباب علاج الحسد على قسمين:

الأول: قسم علمي

وهو مداواة الحسد بالعلم النافع لمرض الحسد، وهو الرضى بقدر الله ، وحكمته في منعه وعطائه وقسمه، والعلم بأن الحسد ضرر على صاحبه في الدنيا والآخرة، وأن المحسود لا يتضرر بحسد الحاسد، بل قد ينتفع.

الثاني: قسم عملي

وهو مداواة الحسد بالعمل النافع، وهو أن يكلِف الحاسد نفسه نقيض قصده؛ فإن بعثه الحسد على ذم المحسود، فإنه يكلف لسانه المدح والثناء على المحسود، وإن حمله التكبر ألزم نفسه التواضع والاعتذار إليه والدعاء له وبذل الأسباب في إيصال الخير له، وكبح الشر عنه.

جمع كلمة المسلمين

ومن لوازم حب الخير للمسلمين المحبة لاجتماع كلمتهم ـ ولاسيما دعاتهم ومجاهديهم. يحب ذلك من قلبه، ويفرح به، ويسعى بقوله وفعله لجمع الكلمة ونبذ الفرقة، وقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أروع الأمثلة في ذلك. وذلك في رسالته إلى تلاميذه، يأمرهم بجمع الكلمة، وتأليف القلوب، وإصلاح ذات البين؛ يقول رحمه الله تعالى:

“وتعلمون من القواعد العظيمة ـ التي هي من جماع الدين ـ تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، ويقول: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:105]، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف.

وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة…”.

إلى أن قال في الرسالة نفسها:

“وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي؛ فتعلمون ـ رضي الله عنكم جميعا ـ أني لا أحب أن يؤذَى أحد من عموم المسلمين ـ فضلا عن أصحابنا ـ بشيء أصلا، لا باطنا، ولا ظاهرا، ولا عندي عتْب على أحد منهم، ولا لوم أصلا، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كلٌ بحسبه.

ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدا مصيبا، أو مخطئا، أو مذنبا، فالأول: مشکور، والثاني: أجره على الاجتهاد، فمعفو عنه مغفور له، والثالث: يغفر الله لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، كقول القائل: فلان كان سبب هذه القضية، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام، إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء، وقد عفا الله عما سلف…”.

إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها:

“فلا أحب أن يُنتَصر من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي”. (مجموع الفتاوی: (428/ 51-57))

نبذ التعصب والحزبية المقيتة

ومن لوازم محبة الخير للمسلمين واجتماع كلمتهم الدالة على صلاح السريرة نبذ التعصب والحزبية المقيتة، ولاسيما بين المنتسبين لعقيدة واحدة ومنهاج واحد؛ فلا تری صاحب القلب السليم والسريرة الصالحة إلا محبا لكل داعية وجماعة تدعو إلى الله على بصيرة ولو لم يعرفهم، أو يلتقي بهم؛ يفرح بأي باب من الخير يفتحه الله عز وجل على يد مَن كان من عباده، ويفرح بأي باب من الشر يُغلق على يد من كان ذلك، يحبهم ويدعو لهم، ويعينهم إن كان قادرا على ذلك.

وعن الفرق بين التحزب الممدوح والتحزب المذموم يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

“وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب ـ أي تصير حزبا ـ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله، صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان؛ فهم مؤمنون؛ لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق أو الباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهَيا عن الفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهَيا عن التعاون على الإثم والعدوان. (5مجموع الفتاوی: (11/ 92))

وما سبق ذكره لا يعني ألا يوجد خلاف أبدا بين الأفراد أو الجماعات، کلا؛ فالخلاف ـ والله أعلم ـ أمر حتمي بحكم اختلاف الطبائع والمقومات الشخصية والفكرية والعقلية..إلخ، ولكن ليس كل اختلاف یوجب الفرقة والتنازع والتباغض، وأوضح مثال لذلك أن السلف رحمهم الله قد اختلفوا في كثير من المسائل، ومع ذلك كانت كلمتهم وقلوبهم مجتمعة ولم يتفرقوا، والكلام هنا منْصبٌّ على من هم في دائرة أهل السنة والجماعة ولم يختلفوا في أصولها، أما المخالفون لأهل السنة من أهل الأهواء والبدع، فإن خلافنا معهم أصيل ومتعين، ومثل هؤلاء ينبغي أن نفارقهم ونتبرأ من بدعهم وضلالاتهم.

وإن الأمة ـ منذ عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ قد وقع بينهم اختلاف في بعض المسائل، ولم يؤدّ هذا الاختلاف إلى الفرقة، وعندما دخل الشيطان أو أولياؤه من الجن والإنس، وفسدت بعض السرائر وصاحَب ذلك جهلٌ في مسائل الخلاف؛ ما يجوز الخلاف فيها وما لا يجوز، أدى هذا إلى تحول الخلاف ـ الذي تحتمله الشريعة، وتسَعُه أقوال الصحابة لنا، ومَن بعدهم مِن سلف هذه الأمة وأئمتهم ـ إلى عداوة وفرقة.

خاتمة

كم يؤتَى المسلمون من قبل نوازع شخصية وأحقاد النفوس، وكم صدَّت عن الخير وأوهنت روابط بين الخيّرين، ودفعت لإهمال أعمال صالحة أو تدمير مشاريع وحربها حتى لا تنجح على يد فلان دون فلان..!

وكم يحتاج المسلم الى نصرة أخيه في مواقف حاسمة؛ فيخذله صاحب الأحقاد ويغيثه ذلك القلب المخلص المحب للخير. إن ما في النفوس يغيث صاحبه أو يهلكه، ويدفعه للخير أو يدركه بهلاك؛ بحسب ما في القلوب.

ولذا كان إصلاح ما في القلب وتوطين النفس على حب الخير لعموم المسلمين والنظر الى نصرة الراية وقبول قسمة الله تعالى في خلقه؛ مما يريح النفوس ويستخرج ما فيها من الخير. طهَّر الله قلوبنا وقلوب إخواننا جميعا من السخائم والدخَل، وملأها بحبه وحب الخير للإسلام واهله، من كانوا واينما كانوا.

………………………..

الهوامش:

  1. البخاري: (13)، مسلم (45)، واللفظ للبخاري.
  2. الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص 32).
  3. انظر: تصفية القلوب، یحیی بن حمزة اليماني: (ص 179-178).
  4. مجموع الفتاوی: (28/ 51-57).
  5. مجموع الفتاوی: (11/ 92).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة