للقلب حياة هي أصل حياة البدن وأصل لحياة الآخرة والخلود. ولها أسباب يجب تحصيلها، وهي تابعة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

مقدمة

يسعى الإنسان الى الحياة، والحياة على الحقيقة هي حياة القلب والروح، فهي المهيئة لحياة الخلود؛ فحياة الآخرة تابعة لحياة الروح.

ولاكتساب حياة القلوب وسائل وأسباب؛ على المؤمن أن يحصّلها ففيها سعادته؛ فالناس تختلف في هذه الحياة الحقيقية ما بين حي وميت، وبين من هو حي ومن هو أكثر حياة؛ ﴿هم درجات عن الله﴾.

الاستجابة لله، عز وجل، وللــرســول، صلى الله عليه وسلم، في كــل ما أُمر به العبد أو نُهي عنه؛ فيه حياة القلب، بل حياة البدن، وعزة النفس، وقوة الهمة والإرادة إلى الخير.

إحياء القلوب بالجهاد

ومن ذلك: الجهاد في سبيل الله عز وجل، حيث إن فيه حياة الناس وإنقاذهم من حياة الذل والقهر وتسلط الأعداء، وفي تركه فساد للأبدان والعقول والأعراض والأموال.

يقول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِـمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 24].

يقول ابن القيم، رحمه الله تعالى، عند هذه الآية:

“تضمَّنت الآية أموراً؛ أحدها:

أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات؛ فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان.

ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول؛ فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.

قال مجاهد: ﴿لِـمَا يُحْيِيكُمْ﴾ “يعني: للحق”.

وقال قتادة: “هو هذا القرآن؛ فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة”.

وقال السدي: “هو الإسلام؛ أحياهم به بعد موتهم بالكفر”.

وقال ابن اسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: “﴿لِـمَا يُحْيِيكُمْ﴾ يعني: للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم”.

وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة؛ وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهراً وباطناً؛ قال الواحدي: “والأكثرون على أن معنى قوله: ﴿لِـمَا يُحْيِيكُمْ﴾ هو الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني؛ قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم؛ يريد أنَّ أَمْرَهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم”.

قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة؛ أما في الدنيا: فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد، وأما في البرزخ: فقد قال تعالى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]، وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم؛ ولهذا قال ابن قتيبة: ﴿لِـمَا يُحْيِيكُمْ﴾ يعني: الشهادة.

وقال بعض المفسرين: ﴿لِـمَا يُحْيِيكُمْ﴾ يعني الجنة؛ فإنهــا دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة، حكاه أبو علي الجرجاني.

والآية تتناول هذا كله؛ فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة؛ فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة». (1الفوائد، ص95)

إحياء القلوب بذكر الله عز وجل

ومما تُحيا به القلوب والبيوت والنفـــوس: ذكر الله عز وجل، وذلك كما جاء في قوله، صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت». (2البخاري (6407))، وقوله، صلى الله عليه وسلم: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت». (3مسلم (779))

ومن ذلك: حثّه، صلى الله عليه وسلم، على الصلاة في البيوت في قولــه: «اجعلـــوا فــي بيوتكـــم من صــلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً». (4البخاري (432)، ومسلم (777))

إحياء القلوب بتصحيح العمل

وذلك بالاهتمام بتصحيح العمل، وإيقاعه على الوجه المرضي لله تعالى؛ من الموافقة والإخلاص لله تعالى؛ لأن هذا النوع من العمل هو الذي تحيا به القلوب.

إحياء القلوب بمصاحبة أحياء القلوب

وذلك بمصاحبة أصحاب القلوب الحية الذين امتلأت قلوبهم بنور الوحي والهدى والعلم بالله وبشرعه، وعمّروا بواطنهم وظواهرهم بأنواع العبوديات التي تقربهم إلى الله، عز وجل، وتليّن قلوبهم وتزكّيها.

وفي مقابل ذلك: البُعْد عن أصحاب القلوب الميتة أو المريضة الذين عشعشت في قلوبهم أمراض الشبهات والشهوات؛ لأن في معاشرتهم الداء العضال، والسم الزعاف الذي هو أشد من داء الأبدان وسُمِّها.

إحياء القلوب بالدعوة الى الله

بالاجتهاد في الدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيله سبحانه، والسعي لإنقاذ الناس مما هم فيه من الموت والمرض الحقيقيين؛ وذلك بهدايتهم ـ بإذن الله عز وجل ـ إلى نور التوحيد والإيمان، والعلم الذي ينقلهم الله، عز وجل، به من ظلمات الجهل والشرك والعماية إلى النور الذي يحيون به بعد موتهم، وينعمون بثماره في الدنيا والآخرة.

خاتمة

كلما كملت حياة القلب ترحَّل إلى الآخرة وقرُب منها حتى يصير من أهلها.

وهذا يثمر في القلب الحرص على العمر النفيس والوقت الثمين، فيشحّ به أن يذهب في غير طاعة الله تعالى، والتزود للقائه سبحانه، وإذا فاته شيء من ذلك تألّم ألماً أعظم من تألُّم الفاقد لماله.

والألم وإن خفي اليوم لما ينشغل به الإنسان من أمور الدنيا؛ لكنه غدا يخلُص الأمر للقلب ويخلص الحكم للروح، ويرى سعادة القلب وألمه هو الحقيقة؛ ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ (الفجر: 24).

………………………………

الهوامش:

  1. الفوائد، ص95.
  2. البخاري (6407).
  3. مسلم (779).
  4. البخاري (432)، ومسلم (777).
  • اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة