في الإسلام الغاية لا تبرر الوسيلة، والغاية المشروعة توصل اليها وسائل مشروعة، وأنصاف الحلول منزلق لبيع الدين جملة والتنازل الكامل. والأمان في الثبات.

الأمانة الكبرى

مرّ في الجزء الأول كيف عرض المشركون على رسول الله عروضا مغرية لترك هذا الدين وهذا الطريق، ثم هدّدوه وتوعدوه، ثم تخطّوا هذا وآذوه أذى شديدا، قال صلى الله عليه وسلم «لقد أُخفت الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد» (1)

لم يلِن رسول الله لشيء من ذلك، وحفظ الطريق لمن يأتي بعده..

كان يتطلع صلى الله عليه وسلم الى السماء، وكان ينظر الى الأجيال القادمة، وأمانة البشرية التي يحملها وأمانة الحق أن يؤديها.. فأدى أمانة الله ووجدنا الهُدى محفوظا الى اليوم بحفظ الله، وعلينا واجب الأداء لمن بعدنا..

لماذا رفض رسول الله المُلك لبلاغ الدعوة؟

ربما تساءل بعض الناس: لماذا لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ من باب الحكمة والسياسة ـ بالزعامة والملك على أن يقرر في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق الدعوة والدولة فيما بعد، خصوصاً وأنَّ للسلطان والمُلك تأثيراً قوياً في النفوس؟

ولعل الإجابة تكمن في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض سلوك هذه الوسيلة إلى دعوته؛ لأن ذلك ينافي مبادىء الدعوة نفسها، ولأن المساومة كانت للعدول عن الدعوة، وفي الإسلام: “الغاية لا تبرِّر الوسيلة”؛ فالله عز وجل تعبَّد المؤمنين بالوسائل كما تعبَّدهم بالغايات.

فليس لأحد أن يسلك إلى الغاية التي شرعها الله سبحانه إلا بالوسيلة الشرعية الخاصة التي شرعها الله عز وجل. (2)

استدراج صاحب الدعوة الى أنصاف الحلول

فقد حاول المشركون فتنة النبي صلى الله عليه وسلم عن دينه ودعوته في صور أخرى من أجل التنازل عن بعض دعوته..

منها: استدراجه بإظهار الوفاق والاستجابة لما يدعوهم إليه إن هو مسَّ آلهتهم ولمَّ بها.

وفي رواية أخرى: طلبوا منه الانتظار لمدة سنة حتى يهدي لآلهتهم ثم يسلموا بعد ذلك. (3)

فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاربهم ويدانيهم في بعض ذلك ، لكن الله امتنّ عليه وعصمه من كيدهم وثبته على ما أوحي إليه، ووقاه الركون إليهم ولو قليلاً، ووقاه عاقبة هذا الركون؛ وهو عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين النصير، كما في قوله تعالى:

﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء: 73 ـ 75).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في أحكام الله تعالى وشرائعه». (4)

وصورة أخرى للمساومة فيما رواه الإمام الطبري بسنده إلى سعيد بن مينا مولى البَخْتَري قال:

«لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونُشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا؛ كنا قد شركناك فيه  وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يدك؛ كنت قد أشركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ حتى انقضت السورة». (5)

رسائل هذه الأساليب الماكرة المتنوعة

من رسائل هذه الأساليب إن محاولات “الحكام” أو “الملأ” مع أصحاب الدعوات لا تكاد تهدأ أو تفتر؛ إذ يحاولون ترهيبهم وتهديدهم لينصرفوا عن دعوتهم بالكلية.

وإذا لم يفلحوا في هذا الجانب حاولوا إغراءهم بشتى الوسائل لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، وليرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها .

ومن ثَمَّ يطلبون منهم تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق؛ لأن الحكام يستدرجون أصحاب الدعوات؛ فإذا سلَّموا في جزء فقدوا مقاومتهم وحَصانتهم، وعرف “المتسلطون” أن استمرار المساومة سينتهي إلى تسليم الصفقة كلِّها.

وجدير بالإشارة أن “التسليم” في جانب ـ ولو ضئيل ـ من جوانب الدعوة لكسب الحكام إلى صفها؛ هو هزيمة نفسية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة  والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في نصرة الحق. (6)

إن “المفاصلة” التي أمر بها اللهُ جل ذِكْره رسوله صلى الله عليه وسلم ضرورية اليوم للدعاة.

إنه ليس هناك ترقيع مناهج، ولا أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق مع أعداء الدين من الكفار والمنافقين والمرتدين.

إنما هي الدعوة إلى الدين الخالص، إلى تطبيق الإسلام وشريعته في كل نواحي الحياة، وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ .

البحث عن المخرج

يحتاج الثبات الى طاقة وصبر عظيم، ليثبت أمام الضغوط بأشكالها ووقْعها ومغرياتها؛ لكن لا بد من هذا الطريق ولا مناص عنه. ولكن أيضا لا بد من البحث عن المخرج والتمكين لهذا الدين حتى لا يُفتن أهله ولا يبقى المسلمون تحت ضغوط الفتن..

لقد جعل الله تعالى لكل شيء قّدْرا؛ فالبلاء مقدور، والاستضعاف مرحلة، ولا بد من رفعها بإذن الله تعالى وقدَره ووعده.

………………………………………………

الهوامش:

  1. (الترمذي 2472)
  2. رواه الطبري بسند حسن إلى قتادة، جامع البيان، ج9، ص 130.
  3. المصدر نفسه، ج9، ص 130.
  4. القرطبي: أحكام القرآن، ج10، ص 300.
  5. رواه الطبري في تفسيره بسند حسن، ج15، ص 331.
  6. سيد قطب: في ظلال القرآن، ج4، ص 2245.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة