كما يجب على الداعية أن يبدأ طريقه متجردا لله تعالى، يجب كذلك أن ينظر الى طول الطريق، وأن يرصد في نفسه ملامح التغير أو الثبات، وأن يتعهد في نفسه أخلاقها وقيمها وما يتطرق اليها وما يطرأ عليها..

علامة التوفيق في زمان الفتنة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والـسـلام عـلـى نـبـينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فـإن مــن علامة توفيق الله ـ عز وجل ـ لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا؛ فلا تراه إلا حذِراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد ثبوتها.

وهذا دأبه في ليله ونـهـاره يفرّ بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه ـ عز وجل ـ في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غيرَ مبدّل ولا مغيّر.

وإن خوف المـؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقّق بعضها بعضاً، وما أخال زماننا الـيـوم إلا مـــــن هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزيّنت للناس بلَبوسها المزخرَف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله ـ عز وجل ـ وعصمه؛ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا منهم.

و هنا أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة “مسايرة الواقع” وضغط الفـسـاد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم.

وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفَّق من ثبته الله ـ عز وجل ـ كما قال تـعـالى: ﴿يُثَـبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: 27).

يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن هذه الآية:

“تحت هذه الآية كنز عظيم، من وُفِّق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم”. (1بدائع التفسير، 3/ 17)

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى: ﴿ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 74) فـسِـواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله ـ سبحانه وتعالى.

فتنة “مسايرة الواقع” عبر التاريخ

إن فـتـنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجِب للـخـلـود فـي الـنار ـ عياذاً بالله تعالى ـ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجّون عـلـى أنبيائهم ـ عليهم السلام ـ عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الـشـرك ـ بـأنـهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعـضـهـــم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم.

وسجّل الله عز وجل عن قوم نوح ـ عـلـيـه الصلاة والسلام ـ قولهم: ﴿مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ﴾ (المؤمنون: 24).

وقال تعالى عن قــوم هـود: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا…﴾ (الأعراف: 70)، وقال ـ تبارك وتـعـالى ـ عـن قــوم صـالـح: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا…﴾ (هود: 62).

وقال ـ سبحانه وتعالى ـ عـن قــوم فـرعون: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ (يونس: 78)، وقال عن مشركي قريش: ﴿وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا…﴾ (البقرة: 170) والآيـــات في ذلك كثيرة.

والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة مـا عـلـيـه الـنــاس وألِفوه لهــو مــن أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك.حتى لو تبين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عـلـيه وسلم رسول الله والحق معه! لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟

نعوذ بالله ـ تعالى ـ من الخذلان.

فتنة “مسايرة الواقع” في الواقع المعاصر

وإذا جئنا لعصرنا الحاضـر وبحـثـنـا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن مــن أهــم الأسباب:

مسايرتُهم للناس، وميلُهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سـيخـسرون دنياهم وجاههم بين الناس؛ فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعـتـقـادهـم ببـطـلان ما هم عليه.

وكذلك الحال في سائر الناس المقلِّدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة، لــو بــان لأحـدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم، إلا مــن رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله ـ تعالى ـ شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الـنــاس، ولا يـسـايـرونـهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سـخــط الله ســخـط الله عليه وأسخط عليه الناس». (2رواه الترمذي، ح/ 2338)

أثر الهوى في هذه الفتنة

والأصـــــل فـي مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البـصـيرة، حتى ترى المتّبع لهواه يضحّي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة.

ومـــن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي، رحمـه الله تعالى:

“فـكـذلـك صاحب الهوى ـ إذا ضل قلبه وأُشرب حبُّه ـ لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه”. (3الموافقات للشاطبي، 2/ 268)

أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائــر أو الصغائر، أو الترخّص في الدين، وتتبّع زلاتِ العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجـمة عــــن مسايرة الركْب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا.

نتاج الفتنة “إمعة”..!

ومَنْ هــــذه حاله ينطبق عليه وصف “الإمَّعة” الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حـيـث قــــــال: «لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا». (4تحفة الأحوذي، 6/ 145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب)

قال الشارح في تحفة الأحوذي: «”الإمعة” هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد “أنا معك”؛ لأنه لا رأْي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان».

والفتنة بمسايرة الواقـع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا مـن رحـم الله ـ عز وجل ـ وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفـسـديـن وترويـض الـناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايـرة الواقع فـي جــهـــــاد مـريـر مـــع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله علـيه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر». (5رواه الترمذي، ح/ 2186)

وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عِظم الأجر الذي يناله هذا القـابض علـى دينه المستعصِي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألِفه الناس.

ويكفي في ذلك قـولــــه صلى الله عليه وسلم: «فإن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله.

وزادني غيره قال: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم». (6أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004)

خاتمة

كما يجب على الداعية أن يبدأ طريقه متجردا لله تعالى، يجب كذلك أن ينظر الى طول الطريق، وأن يرصد في نفسه ملامح التغير أو الثبات، وأن يتعهد في نفسه أخلاقها وقيمها وما يتطرق اليها وما يطرأ عليها..

وذلك لئلا يتأثر بضغوط واقعه ولا يتسرب الى نفسه شيء من انحرافاته، بل يكون هو المؤثر وهو المحدد لما يجب أن يكون عليه المجتمع.

………………………………………………………..

الهوامش:

  1. بدائع التفسير، 3/ 17.
  2. رواه الترمذي، ح/ 2338.
  3. الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
  4. تحفة الأحوذي، 6/ 145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
  5. رواه الترمذي، ح/ 2186.
  6. أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة