ينبغي تحرير وضبط ما ينادي به الغرب بمصطلح الحرية، وإدراك أنها دائرة على عبودية القلب وحريته، والعز والشرف منوط بالتحرر من عبودية ما سواه تعالى.

مقدمة؛ ضرورة ضبط المصطلحات

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإنَّ كثيرًا من الألفاظ والمصطلحات التي يتناولها كثيرٌ من الناس اليوم، تحتاجُ إلى تحريرٍ وتدقيق، وإلى أن تعرض على موازين الشرع، وتضبط بضوابطه، وبدون ذلك تختلط المفاهيم، وتنحرف القيم، وتختل النظرات والموازين، وتسمَّى الأشياء بغير أسمائها وحقيقتها، مما ينشأ عنه الخلل في التصورات والانحراف، في الأخلاق والقيم.

ومن بين هذه الألفاظ والمصطلحات التي تحتاج إلى تحريرٍ وضبط، ووزنٍ لها بالميزان الشرعي، الذي ينطلق من عقيدة التوحيد: مصطلح التحرر والحرية، فما هو الميزان الشرعي لهما؟ ومن هو الحرُّ الحقيقي في ميزان الشرع العظيم؟

حقيقة الحرية، وحقيقة العبودية

إنَّ الحريةَ الحقيقية في ميزان الشرع، هي حرية القلب.

والعبودية الحقيقية، هي عبودية القلب.

فمن أخلص عبوديته لله عز وجل، وخلص من عبودية الخلق، فهذا هو الحر حقيقة، وذلك لتحرر القلب من عبودية الخلق.

والعكس من ذلك، من ترك عبادة الله عز وجل أو قصر فيها، فلا بد أن تسترقَ القلبَ عبوديةُ المخلوق، حسب ما تعلق به القلب من العبوديات لما سوى الله عز وجل.

أمَّا عبودية البدن أو حريته، فليست هي الميزان الحقيقي للعبودية والحرية، إذ قد يكونُ الإنسان مملوكًا لإنسانٍ آخر، لكنه أخلصَ عبوديتهُ لله عز وجل، فصار بذلك حُرًّا من عبوديةِ ما سوى الله عز وجل، وقد يكونُ الإنسان سيدًا وملكًا لكنهُ في الحقيقة مسترقُ القلب، عبدًا لشهوتهِ أو هواهُ أو زوجته، أو منصبه أو جنودهِ وأتباعه.

إذن فالمقصودُ بالحرية والعبودية هنا حرية القلب وعبوديته، لا حريةَ البدن وعبوديته.

يقولُ شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى:

“إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رقُّ القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فالقلبُ عبده، ولهذا يقال:

“العبدُ حُرٌ ما قنع، والحرُ عبدٌ ما طمع”

وكلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائهِ، لقضاءِ حاجتهِ، ودفعِ ضرورته، قويت عبوديته وحريته عمَّا سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجبُ عبوديته له، فيأسهُ منه يوجب غنى قلبه عنه، فإنَّ أسرَ القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن.

فإنَّ من استعبد بدنه واسترق وأسر، لا يبالي ما دام قلبهُ مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنهُ الاحتيال في الخلاص.

وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقًا مستعبدًا، متيمًا لغير الله، فهذا هو الذلُ والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب، فالحرية حريةُ القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس»”. (1البخاري (6446)، ومسلم (1051)(2العبودية (32 ـ 38) باختصار)

ويقول في موطنٍ آخر:

“وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو يهدوه، خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا لهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظرُ إلى الحقائق لا إلى الظواهر..

فالرجلُ إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكمُ فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنَّهُ زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا درت بفقرهِ إليها وعشقه لها، وأنَّهُ لا يعتاض عنها بغيرها، فإنَّها تحكم فيه حينئذٍ حكم السيد القاهر، الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه..”. (3المصدر السابق)

ويقولُ في موطنٍ ثالث: عن مستعبد القلب لغير الله تعالى:

“فتارةً تجذبه الصور المحرمة وغير المحرمة، فيبقى أسيرًا عابدًا لمن لو اتخذه هو عبدًا له لكان ذلك نقصًا وعيبًا وذمًّا.

وتارةً يجذبه الشرفُ والرئاسة، فترضيهِ الكلمة وتغضبه الكلمة، ويستعبدهُ من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق.

وتارةً يستعبدهُ الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوب، والقلوب تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبعُ هواه بغير هدىً من الله.

ومن لم يكن مخلصًا لله عبدًا له، قد صار قلبه مستعبدًا لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون هو أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً خاضعًا له، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين”. (4المصدر السابق)

الدينونة في ظل المناهج

ويقولُ سيد قطب، رحمه الله تعالى:

“إنَّ الدينونة لله تعالى تحرر البشر من الدينونة لغيره، وتخرجُ الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية..

هذه الحرية وتلك الكرامة اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظامٍ آخر غير النظام الإسلامي، والذين لا يدينون لله وحده يقعونَ من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله، في كل جانب من جوانب الحياة، إنَّهم يقعون فرائسَ لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط”. (5في ظلال القرآن 3/ 1939، 1940)

الرق الحسي والرق المعنوي

ويقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري، رحمه الله تعالى، في تفسير: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5].

“بتحقيق العلم بمدلول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ينجو الإنسان ويسلم من الرق المعنوي، الذي هو أفظعُ وأنكى من كلِّ رقٍ حسي؛ لأنَّ الرق الحسي يشعر به صاحبه، فيتمنى انتهاءه، ويسعى لإزالته والتخلص منه حسب مجهوده، ولكن الرق المعنوي لا يشعر به صاحبه، بل على العكس ينقلبُ تصوره له تحررًا وتقدمًا، فيتمادى باستحسان حاله، دون أن يخالجه أدنى شيءٍ من الامتعاض والإحساس.

والمسلم المؤمن الصادق لا يرتبط في جميع أحوال سيره بعجلة أحد ولا تبعية أحد، لسلامته من الرق المعنوي بإخلاص مقاصده لله، وكونه مستعينًا به فقط، فلا يخشى من أي قوة، ولا يستعينُ بكتلة على كتلة أخرى؛ حتى لا يصغي إلى ما تمليه.

وأصحاب الرق المعنوي يعادون الحر الذي على هذه الشاكلة، بدافع من طبيعتهم السافلة، أو بإملاءٍ من أسيادهم الذين يركنون إليهم، ولا سبيل لتطهير قلوبهم من ذلك إلاَّ بما يحرر أرواحهم من القيام بتحقيق مدلول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾”. أ.هـ (6صفوة الآثار والمفاهيم 1/ 231 باختصار)

حقائق عن العبودية

مما سبق من النقولات النفيسة حول حقيقة الحر والحرية، يتضحُ لنا ما يلي:

أولا: بلوغ الكمال

أنَّ الإنسان لا يبلغ الكمال في العزة والشرف والحرية، حتى يتخلصَ من عبودية البشر، ويُخلص عبادته لله وحده لا شريك له، بكل ما تعني العبادة من معانيها الشـاملة.

وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله عز وجل ورسله، عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم إمامهم نبينا محــمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث خاطبهُ ربه سبحانه في أعلى مقاماته التي وصل إليها: مقام تلقي الوحي، ومقام الإسراء: بوصف العبودية، باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلةً يرقى إليها الإنسان.

قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف:1]. وقال عز وجل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ [الإسراء: 1].

ثانيا: ذلة التعلق بالمخلوق

أن من علق قلبه بمخلوقٍ وأحـبه، وذل له وعلق عليه نفعه وضره، فقـد سقط في ربقة الرق والعبودية له، وأصبح أسيرَ القلب لمن تعلق به ذليلاً له.

وهذه حقيقة الرق والأسر والذل، ولو كان فيما يظهر للناس سيدًا حرًّا طليقًا.

إذ المأسور حقيقةً من أُسر قلبه عن ربه، والمحبوسُ من حُبس قلبه عن عبادة ربه، وأسرُ القلب أعظم من أسر البدن.

والحرُّ حقيقةً هو من أخلص عبوديته لله عز وجل ورفض عبودية من سواه، ولو كان مملوكًا أو مأسورًا أو مسجونًا، أو تحت القهر والتعذيب، لأنَّ غاية ما يملكه المالك أو الآسر والقاهر هو جسد المملوك أو المأسور.

أمَّا قلبه فلا يستطيعون عليه صرفًا ولا تحويلا، لأنَّ فيه قوة رفضٍ لا يملكون التصرف فيها، وذلك بما فيه من العبودية الخالصة لله عز وجل، والتي أورثت صاحبها الحرية والعزة والشرف والاطمئنان، وهذا هو الذي يفسر لنا ذلك الثبات العظيم لأنبياء الله عز وجل، ودعاته الصالحين، وهم يتعرضون لصنوف الأذى والسجن والتعذيب.

ثالثا: المتشدقون بالحرية غارقون في وحل العبودية

إن الذين يتشدقون وينادون بالحرية، ويطالبون بتحقيقها في المجتمعات، ثم هم ينشدونها في نظم جاهليةٍ بعيدةٍ عن المصدر الحقيقي للحرية، وهو عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، إنَّما هم ضالون مضلون، صادون عن سبيل الله عز وجل، إذ لا حرية حقيقية إلاَّ في نقل الناسِ من عبادة غير الله عز وجل إلى عبادة الله وحده، وبدون ذلك فهو الرق والاستعباد، والذلة والشقاء، مهما تشدق أصحاب هذه المطالب باسم حقوق الإنسان أو غيرها.

والواقعُ المرير الذي تعيشه البشرية اليوم أكبر شاهد على ذلك، حيثُ تحولت البشرية اليوم إلى استعباد القوي للضعيف والكبير للصغير، وذلك على مستوى الأفراد والطوائف والدول..

ثم إذا نظرنا إلى الحرية التي يطالبون بها، وجدنا معناها عندهم التحرر من عبادة الله عز وجل وأوامره ونواهيه، وانطلاق الناس في حياتهم كالبهائم بل أضل، وهم بذلك قد ركسوا في الرق الحقيقي والعبودية الدنسة، حيث أصبحوا عبيدًا لشهواتهم وكبرائهم ومناصبهم ونسائهم، فاستبدلوا بعبادة الله عز وجل التي فيها العزة والكرامة والحرية، عبادة بعضهم لبعض، وعبادة الأهواء، حيث الذلة والمهانة والرق الحقيقي.

رابعا: حقيقة مصطلح “تحرير المرأة”

ويحسن بهذه المناسبة التعريج على ما يسمى بـ “تحرير المرأة”، هذا المصطلح الخبيث الذي يرفعهُ اليوم المتبعون للشهوات، ويريدون أن يميلوا بالناس ميلاً عظيمًا، فماذا يقصدون بتحرير المرأة ؟

إنَّ الجواب أحسبهُ قد صار واضحًا في ضوء ما سبق تقريرهُ حول التحرر والحرية.

إنَّهم يقصدون بتحريرها هنا ذلك المفهوم الجاهلي الدنس، الذي يرمي إلى أن تتفلت المرأة من عبادة ربها عز وجل ومن كل فضيلة وعفة وحياء، لتصبح مستعبدة رقيقة لشهوات الشياطين، وبيوت الأزياء وصيحات الموضات، التي تخلع عن المرأة أجمل شيءٍ ركّبه الله عز وجل فيها وهو حياؤها وعفتها، فهل هذا هو تحرير المرأة، أو هو إذلالها واستعبادها واسترقاقها؟

إنَّ التحرر الحقيقي للمرأة ولغيرها، لا يكون إلاَّ في هذا الدين الذي جاءَ لتحرير الإنسان من عبودية الأشخاص والأصنام والأهواء إلى عبودية الله عز وجل الواحد القهار، والتي فيها وحدها العزة والكرامة والحرية والتحرير.

إرهاق العبودية..!

يتحدثُ سيد قطب، رحمه الله تعالى، واصفًا بعض ما تتعرض لهُ المرأة المعاصرة من الذلة والعبودية والاسترقاق فيقول:

هذه الأزياء والمراسم التي تفـرض نفسها على الناس فرضًا، وتكلفهم أحيانًا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسدُ أخلاقهم وحياتهم.

ومع ذلك لا يملكون إلاَّ الخضوع لها، أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، والأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينـة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ..

من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءهُ شركات الإنتاج! ويقفُ وراءهُ المرابون في بيوت المالِ والبنوك. (7في ظلال القرآن 3/ 1219)

عليهم من الله ما يستحقون.

خاتمة

وها نحن ندعو أولئك جميعا من مختلف مواطن عبودياتهم، لأهوائهم وشهواتهم وأوضاعهم. الى التحرر الحقيقي المتمثل في رفع الرأس عن آلة الأرض وأوضاعها الى رب السماء والعبودية لله، والتي تُسكب العزة في النفس، وتُكسبها للعبد، وللأمة. هذا هو الطريق الشريف.

الهوامش

  1. البخاري (6446)، ومسلم (1051).
  2. العبودية (32 ـ 38) باختصار.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. في ظلال القرآن 3/ 1939، 1940.
  6. صفوة الآثار والمفاهيم 1/ 231 باختصار.
  7. في ظلال القرآن 3/ 1219.

اقرأ أيضا

  1. حُماة الفضيلة .. وحِلف الرذيلة (1-3) طبيعة الصراع
  2. حماة الفضيلة وحلف الرذيلة (2-3) علاقة الفضائل بالعقيدة
  3. فوائد مستنبطة من سورة التكاثر

التعليقات غير متاحة