يأتي نصر الله بالإخلاص والإيمان والثبات ومعركة ملاذ كرد ملهمة للمجاهدين في كل زمان.

لله سنن لا تتبدل ولا تتغير

في تاريخنا الإسلامي، صفحات مشرقة كثيرة تطرد داء اليأس خصوصًا في هذا الزمن الصعب الذي أقبلت فيه الفتن كقطع الليل المظلم حتى جعلت الحليم حيرانًا، والمؤمن القابض على دينه كالقابض على الجمر، قال صـلى الله عليه وسلم: « بادِرُوا بالأعْمالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيا ». 1[رواه مسلم (118)].. وإنَّ لله سننًا لا تتبدل ولا تتغيَّر كما قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران/137].. وفي مقالتنا هذه نقف مع صفحة مشرقة من تاريخنا العظيم نتلمس منها الدروس والعبر ونرفع بها الهمم في ظل هذه الأحداث الجسام التي تمر بها أمة الإسلام اليوم..

جهاد السلطان ألب أرسلان ضد الشيعة والنصاري

معركة ملاذكر الشهيرة التي كان بطلها السلطان السلجـوقي الملقب ألب أرسلان -وتعني الأسد الشجاع-، قال الذهبي في ترجمته: “هو السلطان الملك العادل ألب أرسلان محمد بن جغريبك داود بن سلجوق التركماني من عظماء ملوك الإسلام وأبطالهم (صاحب الممالك المتَّسعة, مَلَك بعد عمِّه طغرلبك) كان السلطان في أواخر الأمر من أعدل الناس وأحسنهم سيرة وأرغبهم في الجهاد وفي نصر الدين وكان يتصدَّق في كلِّ رمضان بأربعة آلاف دينار. مات سنة 465هـ”. 2[تاريخ الإسلام حوادث (461هـ-470هـ) ص(162)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (18/414)].

تولَّى “ألب أرسلان” حُكمَ دولة السلاجقة سنة (455 هـ/ 1063 م)، بعد وفاة عمه طغرلبك، وكانت تمتد في بلاد فارس وبلاد ما وراء النهر، وكان ألب أرسلان -كعمّه طغرل بك- قائدًا ماهرًا مقدامًا، وكان خيِّرًا صالحًا ذا نظر وطموح؛ فعمد إلى إِذكاء روحِ الجهاد بين جنوده، وحاصر التمدد الشيعي الرافضي في إمارات الشام الشيعية الموالية للخلافة الفاطمية العبيدية في مصر فكان له ولسلفه طغرلبك النقيبة الميمونة في كبح جماح التشيع والرفض في العراق والشام، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية السنيَّة ونفوذ السلاجقة،  ولـمَّا استتبَّ له الأمن في دولته، قام بحملةٍ كبيرة ضدَّ الأقاليم النصرانيَّة المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشَه نحو جنوب أذربيجان، واتَّجه غربًا لفتح بلاد الكَرَج والمناطق المطلَّة على بلاد البيزنطيِّين، وقد بدأ في محاولة التوسُّع على حساب الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة الغافلة في ذلك الوقت، واستمرَّت فتوحاته الكبيرة في الأراضي الأرمينيَّة، حتى اضطرَّ كثير من ملوك تلك النواحي إلى مهادنته ومصالحته، ونتيجة لهذا التوغُّل السلجوقي أضحى الطريق مفتوحًا أمام السَّلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد أن سيطروا على قلب أرمينيَّة، فتحرَّك إلى الأناضول واستولَى على نيكسار وعموريَّة وقُونيَّة، وهنا انتبه الإمبراطور البيزنطي من غفلتِه، وقرَّر الخروجَ بنفسه لتأديب ألب أرسلان وإنهاء دولة السلاجقة بصورةٍ تامَّة لا رجعة فيها. وكان ذلك سبب موقعة ملاذكرد..

معركة ملاذ كرد من أيّام المسلمين الخالدة

وتعدُّ معركة “ملاذكرد” من أيّام المسلمين الخالدة، تشبه بدرًا، واليرموك، والقادسية، وحطين، وعين جالوت، والزلاقة، وغيرها من المعارك الكبرى التي غيَّرت وجه التاريخ، وأثَّرت في مسيرته، وكان انتصار المسلمين في ملاذكرد نقطة فاصلة؛ حيث قضت على سيطرة دولة الروم على أكثر مناطق آسيا الصغرى وأضعفت قوتها، ولم تعد كما كانت من قبل شوكة في حلق المسلمين، حتى سقطت في النهاية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.

كما أنها مهدت للحروب الصليبية بعد ازدياد قوة السلاجقة المسلمين وعجز دولة الروم عن الوقوف في وجه الدولة الفتية، وترتب على ذلك أنَّ الغرب الأوروبي لم يعد يعتمد عليها في حراسة الباب الشرقي لأوروبا ضدَّ هجمات المسلمين، وبدأ يفكر هو في الغزو بنفسه، ما نتج عن ذلك الحملة الصليبية الأولى.

وقد وقعت هذه المعركة الفاصلة في سنة 463ه،  وقاتل المسلمون و”ألب أرسلان” وقتَها قِتال من لا يهاب الموت وكان عددهم قليلًا مقابل جيش الروم، وسطَّروا أروعَ آيات البطولة والاستشهاد، وما لبث أن دارَت الكفَّة لصالحهم على “رومانوس” والجيشِ البيزنطي، فقَتلوا منهم وأَسروا، ووقع الإمبراطورُ البيزنطي نفسه في الأَسْر، أسره أحدُ غِلمان المسلمين المماليك، وأُحضر إلى ألب أرسلان مقيَّدًا محمولًا، وكان بينهما حوارٌ يشهد بعون الله للمسلمين في تلك المعركة الحاسمة وعظمةِ السلطان “ألب أرسلان” وتواضُعِه مع عدوِّه الأبرز وقتها.

نزول نصر الله وهزيمة الروم

قال الذهبي في وصف هذه المعركة: “وفيها الوقعة العظيمة بين الإسلام والروم في هذه السنة خرج أرمانوس طاغية الروم في مائتي ألف من الروم والفرنج والروس والبجناك والكرج وهم في تجمُّلٍ عظيم، فقصدوا بلاد الإسلام ووصل إلى ملاذ كرد بُلَيدَة من أعمال خلاط [قلت: مدينة خلاط في وسط أرمينية]، وخاف السلطان ألب أرسلان السلجوقي من كثرة جند ملك الروم، فقال له الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنَّك تقاتل عن دينٍ وَعَدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجوا أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح. فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين، فلما كان تلك الساعة صلَّى بهم وبكى السلطان، ثم لبس السلطان البياض وتحنَّط وقال إن قُتِلتُ فهذا كفني وكان عدد جيش المسلمين خمس عشرة ألف ثم زحف ألب أرسلان إلى الروم فلما قاربهم أكثر الدعاء ثم ركب وحمل الجيش معه فحصل المسلمون في وسطهم فقتلوا في الروم كيف شاؤوا وأنزل الله نصره وانهزمت الروم وقتل منهم ما لا يحصى وأُسِر ملك الروم أرمانوس”. 3[تاريخ الإسلام حوادث (461هـ-470هـ) ص(11-12)].

قال ابن كثير: “فلما أُوقِف ملك الروم بين يدي ألب أرسلان ضربه بيده ثلاثة مقارع. وقال ألب أرسلان: لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل قال: كلَّ قبيح. قال ألب: فما ظنُّك بي؟ فقال: إما أن تقتل وتشهرني في بلادك وإما أن تعفو وتأخذ الفداء. قال ألب أرسلان: ما عزمت على غير العفو والفداء. فافتدى نفسَه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، فقام بين يدي ألب أرسلان وسقاه شربة ماء وقبَّل الأرض بين يديه وقبَّل الأرض إلى جهة الخليفة العباسي”. 4[البداية والنهاية (12/91)].

قال ابن الجوزي عن هذه المعركة: “هذا الفتح في الإسلام كان عجبًا لا نظير له، فإنَّ القوم اجتمعوا ليزيلوا الإسلام وأهله”. 5[المنتظم لابن الجوزي (16/128)].

وعد الله بالنصر والتمكين نافذ متي توفّرت شروطه

وفي أحداث هذه المعركة دروس وعبر، فنقول وبالله التوفيق:

أولًا: إنَّ هذه الأمة قد تنام أو تمرض لكنها لا تموت، والله يبعث لها بين فينة وأخرى من يجدِّد لها دينها، كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَــلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا». 6[رواه أبوداود (2491) وصحّحه الألباني]. ففي الوقت التي ضعفت فيه الخلافة العباسية وتسلَّط فيه البويهيون على بغداد والشام ونشروا فيها الرفض والتشيع حتى كان سبّ الصحابة مكتوبًا على أبواب المساجد لسنوات، في هذا الوقت قيَّض الله السلاجقة لنصرة السنَّة وتطهير العراق والشام من الروافض، فما نراه من تسلُّط الروافض في بعض البلاد ومن ورائهم حلفاؤهم من الصهيونية والصليبية العالمية، فإنَّه يزول ولا محالة، ووعد الله نافذ متحقق بالنصر والتمكين لهذا الدين متى ما توفرت شروطه في الأمة من الإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور/55]، فيجب على الدعاة والمصلحين السعي في إصلاح الأمة لتحقيق شروط التمكين كما وعد الله تعالى..

سُنّة الاستبدال سُنّة ماضية من سنن الله الكونية

ثانيًا: أنَّ سنَّة الاستبدال سنَّة ماضية من سنن الله الكونية، فإنَّ العرب لـمَّا تخلَّوا عن نصرة هذا الدين وركنوا إلى مطامع الدنيا ولذاتها وتشاغلوا عن الجهاد في سبيل الله وحفظ بيضة الدين، استبدلهم الله تعالى بالأتراك السلاجقة فحملوا راية الجهاد في سبيل الله وذادوا عن حياض الأمة، وكانوا سببًا في دحر أعدائها من الداخل والخارج، وتتكرر هذه السنَّة كلما تخاذل قوم عن نصرة هذا الدين كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد/38]. أخرج الطبري في تفسيره بسندٍ صحيح عن مجاهد: ﴿يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ من شاء. وهكذا تجد أنَّ راية هذا الدين لم تقتصر على قوميَّة من القوميَّات دون غيرها، بل تجد أنَّ أغلب القوميات المسلمة من غير العرب قد نالت شرف نصرة هذا الدين وحفظ بيضته، ففي الجهاد نجد الفرس، والسلاجقة الأتراك والرومان، والأكراد والمماليك الشراكسة، والعثمانيون، وفي العلم نجد البخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الحديث وعلماء الإسلام..

سنة الاستبدال من سنن الله

أمة الجسد الواحد هي التي تنتصر

إنَّ قوَّة الإسلام تتمثل في صهره لجميع القوميات في بوتقة هذا الدين وجمع كلمتهم على نصرته، وهذا ما فطن إليه أعداء الله من اليهود والنصارى فعمدوا إلى تفتيت أمة الجسد الواحد تارة باسم القومية وتارة باسم الوطنية وأخرى بإثارة النعرات المناطقية والقبلية والطائفية، حتى جعلوا منها أحزابًا وشيعًا متنافرة يقتل بعضها بعضًا، ولن تعود للأمة قوتها حتى تتخلص من هذه الأصنام المستحدثة، والحدود المصطنعة التي ما أنزل الله بها من سلطان وحتى يعودوا كما وصفهم نبيهم صـلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». 7[رواه مسلم (2586)].

النصر يأتي بالإيمان والثبات وليس بالعدد والعُدّة فقط

ثالثًا: أنَّ ميزان القلَّة والكثرة لا يكون بالعدد والعدَّة، وإنما يكون بالإيمان والثبات، فانظر كيف تواجه خمسة عشر ألفًا من المسلمين، ضد أكثر من مائتي ألف من الروم فكانت الدائرة على أعداء الله تعالى، وذلك حين فوض المسلمون أمرهم لله وتوكلوا عليه وخرجوا من حولهم وقوتهم إلى حوله وقوته جلَّ وعلا..

وهذا هو الظنُّ بالله كما قال تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة/249]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران/123].

ولو نظرت إلى معظم معارك الإسلام مع الكفار ستجد أنَّ المسلمين كانوا دائمًا هم الأقل عددًا وعدَّة، لكنهم كانوا هم الأقوى إيمانًا وثباتًا، فمكنهم الله من أعدائهم مصداقًا لوعد الله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم/47].

حماس وتثبيتٍ من الله

ونحن اليوم نشاهد كيف ثبتت عصابة من المسلمين في غزة وفلسطين، أمام الصهيونية العالمية وحلفائها من الصليبيين والمنافقين، ولو قارنت بين الفريقين لرأيت عجبًا في فرق القوة العسكرية بينهم، فحماس المحاصرة في غزة -والتي يخنقها الصهاينة وعملاؤهم بمنع دخول السلاح إليهم- تهزُّ بصواريخها البدائية البسيطة الكيان الصهيوني المدجج بأعتى أنواع الأسلحة، وتضربه في عقر داره، فتذعرهم وتقذف الرعب في قلوبهم كما ذكر الله عن إخوانهم من يهود بني النضير: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر/2]. وصدق خالد بن الوليد حينما قال له رجل: ما أكثر الروم وأقلَّ المسلمين، فقال له خالد على الفور: “بل ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان”.

العلماء الربّانيون هم محور ثبات الأمة وتمكينها

رابعًا: العلماء هم قادة الأمة ومعاقل الثبات فيها.. فانظر كيف ثبَّت الله السلطان حين خاف كثرة جيوش الروم بقول الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنَّك تقاتل عن دينٍ وَعَدَ الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان وأرجوا أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح. فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين..

فكانت تلك الكلمات هي وقود المعركة وشرارة نصرها، إنَّ العلماء الربانيين هم محور صلاح الأمة وتمكينها، وإن المتتبع لحركات الجهاد والإصلاح في تاريخ الإسلام سيجد أنَّ قادتها الفاتحين كان من بين يديهم ومن خلفهم علماء ربانيون، يرسمون لهم الطريق الصحيح للصلاح والإصلاح، ويقيمون لهم معالم النصر والتمكين كما أرادها الله تعالى، فأول مجدد في هذه الأمة وهو الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز كان وراءه علماء من أمثال صالح بن كيسان وغيره رحمهم الله، وكذلك كان القاضي الفاضل مع صلاح الدين الأيوبي، وعبدالله بن ياسين الذي أخرج للأمة دولة المرابطين التي أنجبت يوسف بن تاشفين..

العلماء الربانيون محور صلاح الأمة

ومتى كان دور العلماء حاضرًا في الأمة، وكلمتهم مسموعة عند حكامها فاعلم أنَّ الأمة لا تزال بخير وإلى خير، ومتى ما رأيت علماء الأمة الربانيين لا يسمع لقولهم ولا يؤخذ بنصيحتهم فاعلم أنَّ الأمة في خطر عظيم وإلى فساد كبير.. فإنَّ العلماء الراسخين هم صمام الأمان للأمة من الزيغ والضلال، فعن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَــلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». 8[رواه البخاري (100) ومسلم (2673)].

وعلى العلماء والدعاة والمصلحين أن يقوموا بدورهم المنشود في توجيه الأمة والحفاظ على مبادئها وحماية ثوابت الأمة من تحريف المبطلين، وتأويل المتلاعبين، فإن الله تعالى قد أخذ عليهم العهد والميثاق بذلك فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران/87].

وعلى الأمة حكامًا ومحكومين طاعة العلماء الربانيين والامتثال لقولهم في طاعة الله ورسوله كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء/59].

يقول ابن قيم الجوزية مرجِّحا أنَّ المراد بأولي الأمر: العلماء والأمراء: والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية، والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعًا، فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فإن العلماء، ولاته حفظًا وبيانًا وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحد فيه وزاغ عنه.

والأمراء ولاته قيامًا وعناية وجهادًا وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس، وسائر النوع الإنساني تبع لهما ورعية. 9[زاد المهاجر ص41].

 

نسأل الله أن يردَّ المسلمين إلى الإسلام ردًّا جميلًا .. وأن ينصر دينه ويعزَّ أولياءه إنه سميع قريب..

الهوامش:

  1. رواه مسلم (118).
  2. تاريخ الإسلام حوادث (461هـ-470هـ) ص(162)، وسير أعلام النبلاء للذهبي (18/414).
  3. تاريخ الإسلام حوادث (461هـ-470هـ) ص(11-12).
  4. البداية والنهاية (12/91).
  5. المنتظم لابن الجوزي (16/128).
  6. رواه أبوداود (2491) وصحّحه الألباني.
  7. رواه مسلم (2586).
  8. [رواه البخاري (100) ومسلم (2673)].
  9. [زاد المهاجر ص41].

اقرأ أيضاً:

 

التعليقات غير متاحة