محاسبة النفس واجبة، وثمة مجالات للمراجعة بين الماضي والمستقبل، والتفريط في الطاعة واقتحام المعاصي، والتفريط في حقوق العباد. ولهذا يجب الاستعتاب والإصلاح.

مقدمة

نحن مقبلون على لقاء ربنا تعالى. والحياة ليست عبثا؛ بل هي مسؤولية كبيرة، يُنظر فيها الى القول والعمل، والطاعات واستيفائها والمعاصي واقتحامها، وآثار هذه وتلك. للوصول الى حقيقة التقوى ومراجعة الأعمال؛ سواء فيما بين العبد وربه، أو بينه وبين خلق الله تعالى.

وذلك كان من العزم وحسن المأخذ أن يحاسب الانسان نفسه، ويعدها للقاء الله ويهيئها له قبل أن تلقى الله فتفاجأ بأمور كان يمكن له إصلاحها لو راجع حاله وعمله؛ فمن الخير محاسبة النفس كما أوصى عمر رضي الله عنه.

مأخذ محاسبة النفوس

الأصل في محاسبة النفس قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الحشر:18).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الكيِّس من دانَ نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله». (1رواه الترمذي، أبواب صفة القيامة، باب: الكيس من دان نفسه، وقال: هذا حديث حسن، وذهب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى إلى تضعيفه. انظر: «ضعيف سنن الترمذي» (436))

وقال الترمذي:

“ومعنى قوله “من دان نفسه” يقول: حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب يوم القيامة.

ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وتزينوا للعرض الأكبر. وإنما يخفّ الحساب يوم القيامة على مَن حاسب نفسه في الدنيا».

ويُروى عن ميمون بن مهران قال: «لا يكون العبد تقيًّا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه من أين مطعمه وملبسه»”. (2المصدر السابق)

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾؛ يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدّم ليوم القيامة من الأعمال: أمِن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي توبقه؟

قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد.

والمقصود: أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها». (3«إغاثة اللهفان» (1/ 84))

حقيقة حالة التقوى

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظِلاله، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها، حالة تجعل القلب يقظًا حساسًا شاعرًا بالله في كل حالة، خائفًا متحرجًا مستحييًا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن ألا يراه؟!

﴿وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾.. وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته؛ لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة، وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف، ومواضع نقص، ومواضع تقصير، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلًا، ونصيبه من البر ضئيلًا؟ إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدًا، ولا يكف عن النظر والتقليب!” (4«في ظلال القرآن» (6/ 3531))

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة: معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا.

ويعينه عليها أيضًا: معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه. وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى.

فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم؛ فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها”. (5«إغاثة اللهفان» (1/ 80-81))

ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

“واعلم أن أعدى عدوٍّ لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلقت أمَّارة بالسوء، ميَّالة إلى الشر، وقد أُمِرْتَ بتقويمها وتزكيتها وفطامها عن مواردها، وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملْتَها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها”. (6«مختصر منهاج القاصدين» (ص377-378))

أنواع محاسبة النفس

وتشمل نوعين:

الأول: محاسبة النفس على ما فرّطت في جنب الله فيما سلف من العمر.

الثاني: محاسبة النفس على ما تستقبل من الأعمال.

محاسبتها على تفريطها في جنب الله تعالى فيما سلف من العمر

وهو أنواع: أحدها:

المحاسبة على التفريط في الطاعة

محاسبتها على طاعة لله تعالى قصّرت فيها؛ إما بتركها أو عدم إيقاعها على الوجه الذي ينبغي لله عز وجل.

وأول هذه الطاعات: الواجبات القلبية من أعمال القلوب كالمحبة والتوكل والإخلاص، ثم الطاعات الواجبة على اللسان والجوارح.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور، وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله”. (7«إغاثة اللهفان» (1/ 82))

فيحاسب العبد نفسه في مدى إتيانه بهذه الحقوق لله تعالى؛ فإن وجدها متوفرة في العمل فليحمد الله تعالى، وإن وجد نفسه قد فرّط في شيء منها فليتب إلى الله تعالى، وليتدارك بقية عمره في المحافظة على أعماله بما يجعلها مقبولة عند الله عز وجل.

المحاسبة على اقتراف المعاصي

الثاني: محاسبتها على ما ارتكبت من معاصي الله عز وجل وغشيت من محارمه، وذلك من المنهيات التي بين العبد وربه، والمبادرة إلى التوبة النصوح منها بالإقلاع عنها والندم على فعلها، والعزْم على ألا يعود إليها، ويبدأ بالمحرمات القلبية لأنها أشد تحريمًا وإثمًا، ثم ينظر إلى المحرمات الظاهرة التي اقترفتها جوارحه؛ كالعين والأذن واللسان والرجل واليد، ويتوب إلى الله عز وجل مما بدر منها قبل أن يسأله الله عز وجل عنها.

المحاسبة على حقوق العباد

الثالث: محاسبتها على ما فرطت فيه من حقوق العباد، أو ارتكبت ظلمًا وعدوانًا نحوهم، والمبادرة إلى إرجاع الحقوق لأهلها، ورد المظالم إلى أربابها، ويشتد الإثم إذا كان المظلوم ذا قرابة ورحم، وظلم الناس يكون في أديانهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

وإن لم ترجع الحقوق إلى أهلها في الدنيا رجعت يوم القيامة، ولكنها لا تكون يومئذ بالدينار والدرهم، وإنما بالحسنات التي تؤخذ من الظالم أو السيئات التي تطرح عليه من أصحاب الحقوق. (8انظر تفصيل هذه المظالم وكيف تكون التوبة منها في رسالة: «وقد خاب من حمل ظلمًا» للمؤلف)

المحاسبة على ترتيب الأعمال

الرابع: محاسبة النفس على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله ففعله. (9ينظر: «إغاثة اللهفان» (1/ 82))

المحاسبة على العمل لدين الله

الخامس: محاسبة النفس على ما قدمت لدين الله عز وجل، وما يجب عليها في ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله تعالى، والجهاد في سبيله سبحانه، وهل قامت بهذا الواجب أم قصرت فيه؟ ولاسيما في هذه الأزمنة التي تداعت فيه أمم الكفر على بلدان المسلمين كما تتداعى الأَكَلة على قصعتها، ورمتها عن قوس واحد بمساعدة المنافقين من هذه الأمة يريدون إفساد الأديان والأعراض والعقول والأموال.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“ومَن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا والله المستعان.

وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورئاستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين”. (10«أعلام الموقعين» (2/ 164) مكتبة ابن تيمية)

المحاسبة على التفريط في النية

السادس:

“أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحًا؟ أو أراد به الدنيا وعاجلها فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به”. (11«إغاثة اللهفان» (1/ 82))

المحاسبة على النعم

السابع: محاسبة النفس على نعم الله عز وجل العظيمة؛ هل قامت بواجب الشكر فيها أم قصرت في ذلك؟

محاسبتها على ما تستقبل من الأعمال

وذلك بأن ينتفع من محاسبته لنفسه فيما مضي من عمره، وما قصر فيه من الواجبات الظاهرة والباطنة، وارتكب فيه المحرمات الظاهرة والباطنة؛ بأن يتدارك ما بقي من عمره فيقوم فيه بحق الله تعالى وحقوق عباده ولا يفرط في شيء من ذلك، هذا في الحقوق والواجبات بصورة عامة.

أما القُرُبات التطوعية، ولا سيما التي يتعدى أثرها إلى الغير؛ فينبغي للعبد أن يحاسب نفسه فيما يستقبل من هذه الأعمال قبل الشروع فيها؛ وذلك بما فصله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله:

“أن يقف عند أول هَمِّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.

قال الحسن: «رحم الله عبدًا وقف عند هَمِّه؛ فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر»”.

وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال وهَمَّ به العبد، وقف أوَّلًا ونظر: هل ذلك العمل مقدور له، أو غير مقدور ولا مستطاع؟

فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه.

وإن كان مقدورًا وقف وقفة أخرى ونظر: هل فعلُه خير له من تركه، أو تركه خير له من فعله؟

فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه.

وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله تعالى وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟

فإن كان الثاني لم يُقْدِم عليه.

وإن أفضى به إلى مطلوبه، لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخفّ عليها العمل لغير الله؛ فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى، حتى يصير أثقل شيء عليها.

وإن كان الأول وقف وقفة أخرى، ونظر: هل هو مُعانٌ عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟

فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبي ﷺ عن الجهاد بمكة حتى صار له شوْكة وأنصار.

وإن وجده مُعانًا عليه فليقدم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا مَنْ فَوَّتَ خصلة من هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح.

فهذه أربع مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل؛ فما كل ما يريد العبد فعله مقدورًا له، ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خيرًا له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خيرًا له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه». (12«إغاثة اللهفان» (1/ 81-82))

خاتمة

ليس من شيء أنفع للإنسان من المحاسبة لنفسه واسترجاع أمره واستدراك حاله، والانتباه قبل اللقاء الأعظم مع رب العالمين؛ فلا يضيع العمر ولا تنفلت الحياة على غفلة.

…………………….

الهوامش:

  1. رواه الترمذي، أبواب صفة القيامة، باب: الكيس من دان نفسه، وقال: هذا حديث حسن، وذهب الشيخ الألباني رحمه الله تعالى إلى تضعيفه. انظر: «ضعيف سنن الترمذي» (436).
  2. المصدر السابق.
  3. «إغاثة اللهفان» (1/ 84).
  4. «في ظلال القرآن» (6/ 3531).
  5. «إغاثة اللهفان» (1/ 80-81).
  6. «مختصر منهاج القاصدين» (ص377-378).
  7. «إغاثة اللهفان» (1/ 82).
  8. انظر تفصيل هذه المظالم وكيف تكون التوبة منها في رسالة: «وقد خاب من حمل ظلمًا» للمؤلف.
  9. ينظر: «إغاثة اللهفان» (1/ 82).
  10. «أعلام الموقعين» (2/ 164) مكتبة ابن تيمية.
  11. «إغاثة اللهفان» (1/ 82).
  12. «إغاثة اللهفان» (1/ 81-82).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة