الرغبة في الآخرة حالة للقلب، لا تعني ترك الدنيا؛ بل الزهد فيها وإصلاحها من أجل الآخرة. والرغبة في الآخرة لا تتحقق إلا بالعمل وإصلاح الدنيا بمنهج الله ومقتضى شرعه.

مقدمة

إن من معجزات هذا الدين العظيم أنه خرَّج رجالًا أفذاذًا زاهدين في هذه الدنيا الفانية، ولم يغتروا بزينتها وزخرفها، ومع ذلك كانوا فاعلين في دنيا الناس، لم يمنعهم زهدهم في الدنيا وحذرهم منها أن يصلحوا فيها ويدفعوا الفساد عن حياة الناس، ويجاهدوا في سبيل الله تعالى حتى فتح الله لهم الدنيا، وعلَت كلمة الله عز وجل، وصار الدين كله لله؛ فلما أقبلت الدنيا عليهم رفضوها، ولم تعشعش في قلوبهم؛ بل كانت في أيديهم وسخَّروها لنصرة دين الله تعالى والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، وتقديمها لأنفسهم في الدار الآخرة.

والمقصود من هذه المقدمة ألا يُفهَم من عرض حياة السلف وحذَرِهم من الدنيا وزهدهم فيها أنهم تركوها لعدم قدرتهم وحيازتهم لها، بل تركوها مختارين بعد أن وصلت إلى أيديهم، كما ينبغي ألا يُفهَم أنهم كانوا منعزلين عن الناس أو أنهم كانوا سلبيين مع ما يحصل في حياة الناس من فساد وشر، بل كانوا رحمهم الله تعالى كما وصفهم الواصف: عُبَّادًا في الليل فرسانًا مجاهدين في النهار.

نماذج مضيئة من تفكير السلف في حقيقة الدنيا والآخرة

زهد القلوب وما يبلّغ المقيل

في «الزهد» لابن المبارك:

“قدم عمر رضي الله عنه الشام، فتلقاه الأمراء والعظماء، فقال: أين أخي أبو عبيدة..؟ قالوا: يأتيك الآن، قال: فجاء على ناقةٍ مخطومةٍ بحبل، فسلَّم عليه، ثم قال للناس: انصرفوا عنا، فسار معه حتى أتى منزله، فنزل عليه، فلم يَرَ في بيته إلَّا سيفَه وتُرسَه ورحْلَه، فقال له عمر: لو اتخذتَ متاعًا، أو قال شيئًا، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا سيبلغنا المقيل”. (1«سير أعلام النبلاء» (1/ 16))

وعن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

“أنتم أطول صلاةً وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أفضل منكم. قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم”. (2«صفة الصفوة» (1/ 420))

وروى الإمام أحمد قال عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه ابن مسعود قال:

“بينما رجل فيمن كان قبلكم كان في مملكته، فتفكَّر، فعلم أن ذلك مُنْقَطِعٌ عنه، وأن ما هو فيه قد شغَله عن عبادة ربه، فتَسرَّب فانساب ذاتَ ليلةٍ من قصره، فأصبح في مملكةِ غيره، وأتَى ساحلَ البحر، وكان يَضرِبُ اللَّبِنَ بالأجر، فيأكل ويتصدق بالفَضْل، فلم يزل كذلك حتى رَقِيَ أَمرهُ إلى ملِكهم وعبادتُه وفضلُه، فأرسل ملِكُهم إليه أن يأتيه، فأَبى أن يأتيه، فأعاد، ثم أعاد إليه، فأبى أن يأتيه، وقال: ما له وما لي..؟!

قال: فركب الملكُ، فلما رآه الرَّجلُ ولى هاربًا، فلما رأى ذلك الملكُ ركَضَ في أثره، فلم يدركه، قال: فناداه: يا عبد الله، إنه ليس عليك مني بأسٌ، فأقام حتى أدركه، فقال له: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا فلان بن فلان، صاحب مُلْك كذا وكذا، تفكرتُ في أمري، فعلمتُ أن ما أنا فيه منقطعٌ، فإنه قد شغلني عن عبادة ربي، فتركتُه، وجئت هاهنا أعبدُ ربي عز وجل، فقال: ما أنت بأحْوَج إلى ما صنعتَ منِّي، قال: ثم نزل عن دابته فسَيَّبها، ثم تبعه، فكانا جميعًا يعبدَانِ الله عز وجل ، فدعَوَا الله أن يميتهما جميعًا، قال: فماتا.

قال عبد الله: لو كنتُ بِرُمَيْلة مصرَ لأريتكم قبورَهما، بالنعتِ الذي نعتَ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». (3«مسند أحمد» (4312)، وحسنه أحمد شاكر)

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إياكم وما شغل من الدنيا؛ فالدنيا كثيرة الأشغال؛ لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب». (4«حلية الأولياء» (2/ 153))

طلاق باتٌّ

وعن أبي صالح قال: «قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لضرار بن ضمرة: صف لي عليًّا. فقال: أَوْ تُعْفِنِي يا أمير المؤمنين؟ قال: بل تصفه لي. قال: أو تعفني؟ قال: لا أعفيك.

قال: أما إذ لا بد، فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته.

كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلّب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب ـ أي: ما غلظ أو ما كان بلا أدم.

كان والله كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم.

يعظِّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لَرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم ـ يعني: القريص ـ ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرَّضْتِ، أم لي تشوَّقْتِ، هيهات هيهات، غُرِّي غيري؛ قد بَتَتُّكِ ثلاثًا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آهٍ من قلة الزاد، وبُعْد السفر، ووحشة الطريق.

قال: فذرفت دموع معاوية رضي الله عنه، فما يملكها، وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء. ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن؛ كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار..؟

قال: حزن من ذُبِحَ ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها..». (5«غذاء الألباب» للسفاريني (3/ 544))

وعن زياد بن ماهك قال: «كان شداد بن أوس يقول: إنكم لن تَروْا من الخير إلا أسبابه، ولن تَروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عَرَضٌ حاضر يأكل منها البَرَّ والفاجر، والآخرةُ وعْد صادق يحكم فيها ملك قاهر، ولكلٍّ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا». (6«صفة الصفوة» (1/ 709))

وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: «إن مَن كان قبلكم كانوا يجعلون للدنيا ما فضل عن آخرتهم، وإنكم اليوم تجعلون لآخرتكم ما فضل من دنياكم». (7«حلية الأولياء» (4/ 242))

الهِمّة نحو الآخرة

ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «هِمَّةُ المؤمن متعلقة بالآخرة؛ فكلُّ ما في الدُّنيا يُحرِّكُهُ إلى ذكر الآخرة، وكلُّ مَن شغله شيءُ فهمَّته شغله؛ ألا ترى أنَّه لو دخل أربابُ الصنائع إلى دارٍ معمورةٍ رأيت البزَّازَ ينظرُ إلى الفرشِ ويحرزُ قيمته، والنَّجَّارَ إلى السَّقْفِ، والبنَّاءَ إلى الحيطان، والحائكَ إلى النسيج المخيط…

والمؤمن إذا رأى ظلمة، ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلمًا ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نيامًا ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذةً ذكر الجنة؛ فهمتُهُ متعلقةٌ بما ثَمَّ، وذلك يشغله عن كل ما تمَّ.

وأعظمُ ما عندَه أنه يتخايلُ دوام البقاء في الجنة، وأنَّ بقاءه لا ينقطع ولا يزالُ ولا يعتريه منغصٌ، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللَّذَّات الدائمة التي لا تفنى يطيشُ فَرَحًا، ويسهُلُ عليه ما في الطريق إليها من ألم، ومرض، وابتلاءٍ، وفقد محبوبٍ، وهُجوم الموت ومعالجةِ غُصَصِهِ.

ثم يتخايلُ المؤمن دخول النار والعقوبة، فيتنغص عيشهُ ويقوى قلقُه، فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان». (8«صيد الخاطر» (ص644-645) (باختصار))

خاتمة

الآثار في تفكُّر السلف في الآخرة والاستعداد لها كثيرة جدًّا، فأين نحن منهم..؟ نعم؛ أين نحن من حال سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى..؟ مع أنهم يتميزون عنا بقوة الإيمان، وكثرة الأعمال الصالحة، وقِلة الذنوب، وشدة خشيتهم لله تعالى، كما أن زمانهم يتميز عن زماننا بصلاح أهله، وبكون الدنيا لم تفتح عليهم انفتاحها علينا اليوم. نسأل الله عز وجل أن يوقظنا من غفلتنا، وأن يرزقنا الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور.

لا يُفهم من ذكر الآثار السابقة اعتزال الدنيا والرهبنة وترك طلب العيش والكفاف منها بالطريق الحلال؛ وإنما المقصود التحذير من الانهماك فيها وجعلها هي الهَمّ الشاغل الذي يستولي على التفكير حتى يُنسي هَمَّ الآخرة والاستعداد لها، كما هو الحال عند أكثرنا في هذا الزمان.

أما إذا عمل المسلم في الدنيا بنيّة عمارتها بطاعة الله تعالى، ونشر الخير ومدافعة الشر والفساد، وجعل الدنيا مزرعة للآخرة؛ فهذا مما يثاب عليه العبد؛ لأنه عبادة الله عز وجل، بل قد يأثم العبد بتركه ذلك.

………………………………

الهوامش:

  1. «سير أعلام النبلاء» (1/ 16).
  2. «صفة الصفوة» (1/ 420).
  3. «مسند أحمد» (4312)، وحسنه أحمد شاكر.
  4. «حلية الأولياء» (2/ 153).
  5. «غذاء الألباب» للسفاريني (3/ 544).
  6. «صفة الصفوة» (1/ 709).
  7. «حلية الأولياء» (4/ 242).
  8. «صيد الخاطر» (ص644-645) (باختصار).

اقرأ أيضا

التعليقات غير متاحة