من أمور التوحيد التي فصلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أمر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي يعرف بها العباد خالقهم ورازقهم ومعبودهم سبحانه حتى يقدروه حق قدره ، ويعبدوه حق عبادته ، ولتمتلئ النفوس بعظمته وجلاله وليتعبدوا له سبحانه ويدعونه بها.
من أسماء الله الحسنى: [العلي، الأعلى، المتعال]
جاء ذكر هذه الأسماء الحسنى في أكثر من آية في كتاب الله – عز وجل – حيث جاء ذلك في ثمان آيات، وقد مر أكثرها عند الكلام عن اسميه سبحانه (الكبير)، (العظيم).
ودليل اسمه سبحانه (العلي)، قوله تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255]، وأما دليل اسمه سبحانه: (الأعلى)، قوله – عز وجل -: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1]، وأما دليل اسمه سبحانه (المتعالي) قوله سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد:9].
المعنى اللغوي لهذه الأسماء الحسنى
واشتقاق هذه الأسماء واحد، ومعناها متقارب. قال في لسان العرب: “والله – عز وجل – هو العلي المتعالي العالي الأعلى ذو العلا والعلاء والمعالي، تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وهو الأعلى سبحانه بمعنى: العالي؛ وتفسير (تعالى): جل ونبا عن كل ثناء، فهو أعظم وأجل وأعلى مما يُثنى عليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قال الأزهري: وتفسير هذه الصفات لله سبحانه يقرب بعضها من بعض (فالعلي) الشريف، فعيل من علا يعلو، وهو بمعنى العالي، وهو الذي ليس فوقه شيء، ويقال: هو الذي علا الخلق فقهرهم بقدرته.
وأما (المتعالي): فهو الذي جل عن إفك المفترين، وتنزه عن وساوس المتحيرين، وقد يكون (المتعال) بمعنى: العالي.
(والأعلى): هو الله الذي هو أعلى من كل عالٍ، واسمه (الأعلى) أي: صفته أعلى الصفات. والعلاء: الشرف؛ وذو العلا: صاحب الصفات العلا، والعُلا: جمع العليا أي: جمع الصفة العُلْيا والكلمة العليا، ويكون (العُلى) جمع الاسم الأعلى؛ وصفة الله العليا – أي ما يصف به العبد ربه- شهادة أن لا إله إلا الله، فهذه أعلى الصفات، ولا يوصف بها غير الله وحده لا شريك له، ولم يزل الله عليًا عاليًا متعاليًا، تعالى الله عن إلحاد الملحدين، وهو العلي العظيم” 1(1) لسان العرب 4/ 3089..
المعنى في حق الله تعالى
يقول ابن جرير رحمه الله تعالى: “وأما تأويل قوله: (وهو العلي) فإنه يعني: والله العلي، والعلي الفعيل من قولك: علا يعلو علوًا إذا ارتفع فهو عالٍ وعلي، والعلي: ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته”2(2) تفسير الطبري 3/ 13..
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: ” (العلي، الأعلى) هو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر.
فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرياء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى”3(3) تفسير السعدي 5/ 487، طبعة دار المدني..
إثبات علو الذات الإلهية
والله – تبارك وتعالى – له جميع أنواع العلو، ومن أنكر شيئًا منها، فقد ضل ضلالاً بعيدًا، وقد جاءَت النصوص بإثبات أنواع العلو لله، وهي:
1 – علو الذات
فالله – تبارك وتعالى – مستو على عرشه، وعرشه فوق مخلوقاته، كما قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس: 3].
وقال: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5].
والله مستو على عرشه فوق عباده، كما قال تبارك وتعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام: 18].
وقال: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [النحل: 50].
وفي إثبات علو الذات الإلهية يقول ابن القيم في نونيته:
فهو العلي بذاته سبحانه
إذ يستحيل خلاف ذا ببيان
وهو الذي حَقّاً على العرش استوى
قد قام بالتدبير للأكوان4(4) النونية 2/ 213.
2 – علو القهر والغلب
كما قال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر:4]. فلا ينازعه منازع، ولا يغلبه غالب، وكل مخلوقاته تحت قهره وسلطانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد وصف الحق – تبارك وتعالى – نفسه بصفات كثيرة تدل على علو القهر والغلب كالعزيز، والقوي، والقدير، والقاهر والغالب ونحو ذلك. قال سبحانه: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) [الأنعام: 18].
3 – علو المكانة والقدر
وهو الذي أطلق عليه القرآن: “المثل الأعلى” كما في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [النحل: 60]، وقوله: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم: 27].
فالمثل الأعلى: الصفات العليا التي لا يستحقها غيره، فالله هو الإله الواحد الأحد، وهو متعال عن الشريك والمثيل والند والنظير: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد) [الإخلاص: 1 – 4].
كل أنواع العلو للعلي العظيم
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وهو العلي فكل أنواع العلو له فثباته بلا نكران5(5) النونية ابن القيم 2/ 214..
ويقول أيضًا: في نونيته مبينًا اسمي الجلالة (الأعلى، والعلي) ودلالتهما على علو الله تعالى على خلقه:
هذا وثانيها صريح علوه وله بحكم صريحه لفظان
لفظ العلي ولفظة الأعلى معرَّفة أتتك هنا لقصد بيان
إن العلو له بمطلقه على التعميم والإطلاق بالبرهان
وله العلو من الوجوه جميعها ذاتًا وقهرًا من علو الشان 6(6) النونية رقم الأبيات (1123 – 1126)..
من آثار الإيمان بهذه الأسماء الحسنى
1 – الخضوع لله تعالى والإخبات، والتذلل له مع محبته وتعظيمه وإجلاله، وهذان هما ركنا العبودية لله تعالى إذ إن حقيقة العبودية لله تعالى إنما تنشأ من غاية الحب لله تعالى مع غاية التذلل له.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول: طريق معبد أي: مذللٌ، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له حتى تكون محبًا خاضعًا”7(7) مدارج السالكين 1/ 74..
والمقصود أن الإيمان بعلو الله – عز وجل – ذاتًا وقدرًا وقهرًا يورث في النفس خضوعًا وإخباتًا لمن هذه صفاته، ولذا لمَّا نزل قوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1]، قال صلى الله عليه وسلم: (ضعوها في سجودكم)8(8) رواه أحمد وأبو داود (869) وابن ماجه (887) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح..
وعن سر ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال سقوطه، كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه ونزه ربه عما لا يليق به مما يضاد عظمته وعلوه”9(9) الصلاة وحكم تاركها ص 212..
2 – التواضع لله تعالى ولما أنزل من الحق
لأن الإيمان بعلوه سبحانه وقهره لعباده يورث في القلب تواضعًا وحياءً، وتعظيمًا لله تعالى وأوامره ونواهيه، ورضًا بأحكامه القدرية والشرعية، وإذعانه للحق إذا بان له وعلم أنه من عند الله تعالى وتقدس ولا يرد أحد الحق ويؤثر الباطل عليه إلا حين يغفل عن آثار أسماء الله – عز وجل – الحسنى، ومنها الأسماء التي فيها إثبات العلو، والعظمة، والملك، والحكمة لله تعالى.
3 – الحذر من العلو في الأرض بغير الحق
وتجنب ظلم العباد والتكبر عليهم وقهرهم والعدوان عليهم. ولا ينجو من ذلك إلا من تذكر علو الله تعالى وقهره وأن العبد مهما علا وظلم وقهر فإن الله (العلي المتعال) فوقه، يراه يقتص للمظلومين ممن ظلمهم. وما من جبَّار علا في الأرض وتجبر إلا وقصمه الله تعالى وأهلكه.
ولذلك لما ذكر سبحانه علاج من يخاف نشوزها من الزوجات في سورة النساء ختم ذلك باسميه سبحانه (العلي) (الكبير)؛ قال تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء: 34].
يقول القاسمي في محاسن التأويل عند هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) فاحذروه بتهديد الأزواج على ظلم النسوة من غير سبب.
فإنهن وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الإنصاف منكم فالله سبحانه عليّ قاهر كبير قادر ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يدًا منهن وأكبر درجة منهن، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن فختم الآية بهذين الاسمين فيه تمام المناسبة 10(10) محاسن التأويل 5/ 1222، 1223..
4 – الخوف من الله وحده وتخلص القلب من الخوف من المخلوق الضعيف.
فمهما أوتي المخلوق من قوة وعلو في الأرض فإن الله – عز وجل – فوقه مكانًا وقدرًا وقهرًا، وكلما تذكر العبد علو الله تعالى على خلقه وعظمته وكبريائه تمحض الخوف له سبحانه وحده، وتخلص من الخوف من المخلوق الضعيف. والذي عادة ما يكون عائقًا بين الداعية وقول الحق والصدع به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.
5 – تنزيهه – سبحانه وتعالى – عن كل نقص في ذاته وصفاته وأفعاله، وإثبات صفات الكمال له سبحانه وحمده على ذلك
ولذا نجد في القرآن الكريم أن قوله: (تعالى) يقرن كثيرًا بقوله: (سبحانه) كما في قوله عز وجل: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام: 100].
وقوله تبارك وتعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) [الإسراء: 42، 43].
وقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النحل: 1]، وقوله تعالى: (مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68]، وقوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67].
اقتران اسمه سبحانه (العلي) ببعض الأسماء الحسنى
(1) اقترانه باسمه سبحانه (الكبير): قال تعالى: (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر: 12].
وقد سبق ذكر بعض الأسرار في اقتران هذين الاسمين الكريمين عند الكلام عن اسمه سبحانه (الكبير).
للمزيد: [من أسماء الله الحسنى: الكبير]
(2) اقترانه باسمه سبحانه (العظيم): كما في قوله تعالى: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: 255].
وهذا أيضًا قد سبق الكلام عليه عند الكلام عن اسمه سبحانه (العظيم).
للمزيد: [من أسماء الله الحسنى [العظيم]]
(3) اقترانه باسمه سبحانه (الحكيم). وذلك عند قوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى: 51].
يقول الطاهر ابن عاشور عن هذين الاسمين الكريمين في هذه الآية: “والقول في موقع جملة: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) كالقول في جملة: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [الشورى: 50] السابقة، وإنما أوثر هنا صفة “العلي الحكيم” لمناسبتهما للغرض؛ لأن العلوّ في صفة (العليّ) علوّ عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تَحْظَ من جانب القُدس بالتصفية فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة فاقتضى علوّه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض … وأمّا وصف (الحكيم) فلأن معناه: المُتقِن للصنع، العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلا لحكمة إصلاحهم ونظام عالمهم، وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقّي خطابه، ووعيه دون اختلال فيه ولا خروج عن طاقة المتلقِّين”11(11) التحرير والتنوير 12/ 150..
الهوامش
(1) لسان العرب 4/ 3089.
(2) تفسير الطبري 3/ 13.
(3) تفسير السعدي 5/ 487، طبعة دار المدني.
(4) النونية 2/ 213.
(5) النونية ابن القيم 2/ 214.
(6) النونية رقم الأبيات (1123 – 1126).
(7) مدارج السالكين 1/ 74.
(8) رواه أحمد وأبو داود (869) وابن ماجه (887) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح.
(9) الصلاة وحكم تاركها ص 212.
(10) محاسن التأويل 5/ 1222، 1223.
(11) التحرير والتنوير 12/ 150.
اقرأ أيضا
أسماء الله الحسنى .. المعرفة للتعبد
أسماء الله الحسنى .. استقامة الرؤية والشعور.
من أسماء الله الحسنى: [القدوس]
من أسماء الله الحسنى: [السلام]