العقيدة الإسلامية ووجودها، ومقتضياتها القيمية والاجتماعية، للمسلمين المغتربين في أوروبا ـ وفرنسا على وجه الخصوص ـ هذا يقلق أوروبا؛ فأوروبا ـ وفرنسا ـ لا تقلق من السقوط بل من الفضيلة!

الخبر

“طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من قيادات إسلامية في بلاده قبول “ميثاق قيم الجمهورية”، كجزء من حملة واسعة النطاق على المتشددين. ومنح ماكرون المجلس الفرنسي للعقيدة الإسلامية الأربعاء مهلة (15) يوما لقبول الميثاق. وينص الميثاق على أن الإسلام دين وليس حركة سياسية، ويحظر “التدخل الأجنبي” ـ اي الدول الإسلامية ـ في شؤون الجماعات الإسلامية، فلا يكون للمسلمين علاقة بعلماء الإسلام من بلدان أخرى.

ووفقا لـ “فرانس 24” فإن “مجلس الأئمة لن يكون مخولا إصدار التصاريح للأئمة ومنحهم بطاقة رسمية فحسب، بل سيكون قادرا أيضا على سحب هذه البطاقات منهم إذا ما خرقوا ’ميثاق قيم الجمهورية‘ سيتم الاتفاق عليه، واعتمادا على دور كل منهم: إمام صلاة وخطيب مسجد وداعية، سيتعين على كل إمام الإلمام بمستوى مختلف من اللغة الفرنسية وحيازة شهادات دراسية يمكن أن تصل إلى المستوى الجامعي”. (1موقع ” BBC”:ماكرون يمهل قيادات إسلامية في فرنسا 15 يوما لقبول ميثاق “قيم الجمهورية“.
موقع “CNN”: مهلة ماكرون لقادة المجتمع الإسلامي بفرنسا لوضع “ميثاق للقيم” تثير تفاعلا
)

التعليق

موقف ماكرون” قديم!

عند الإفلاس تصل الأمور الى هذا الحد؛ فبعد سقوط الحجج العقلية والفطرية البدهية، وبعد ضعف المواجهة مع تمدد هذا الدين والتقاط النفوس له، واتساع مساحته في النفوس والحياة، وتلهّف النفوس اليه، ونفورها من الأوضاع النجسة للإلحاد والإباحية أو التثليث والتصليب والوثنية..

عند الإفلاس يتحول ” ماكرون” كما تحول أخوه فرعون، بعد سقوط الحجج ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الشعراء:25-28] إذ يقول عقبها مباشرة ﴿لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء: 29]

وهنا يقوم “ماكْرون” كما قام فرعون، وكما قال إخوانه من أمم الكفر عموما الذين أجملهم الله في قوله ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ﴾ [إبراهيم:9] فلما ردت عليهم رسلهم شبهاتهم وأسقطوا حججهم انتقلوا الى مرحلة “ماكْرون”!! ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم:13] وبعد المجادلة وسقوط الحجج أطلقوا تهديدهم.

وهو المأخذ نفسه لإخوانه من كفار مدين ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾ [الأعراف: 87-88].

سياق متزامن يظلم الفرنسيين!

في جانب آخر تراه يضيق الخناق على قومه، بالتزامن مع تضييقه على المسلمين؛ حتى خرجت مظاهرات في الأيام الأخيرة تناهض قوانين جديدة مفروضة تضيق مساحة الحريات وتعطي لحكومته ميزات سلطوية أشد ـ “قانون الأمن الشامل”. ومن بنوده منع تصوير رجال الشرطة من قبل الرجال “الخبثاء!!” كما يسميهم القانون..!! ـ وهذا عجيب؛ فهذا يحدث في البؤرة التي خرجت منها الثورة التي غيرت وجه أوروبا، وأفرزت الشعارات التي شاعت فيها، وأعطت لأوروبا وجهها الحديث.. وهذا يؤكد أننا في ظرف تاريخي يمثل انعطافة وتغييرا تاريخيا، وتُسطر التراجع عن الحريات إذ رأوها قد يسري الحق من خلالها وقد تختار النفوس في ظلها، وقد يكون للإنسان حقوق حقيقية..!

وفي العموم فلأوروبا الحالية ميل الى التسلط والدكتاتورية..!

فرض احترام المسلمين

ومن جانب ثالث فمما يجب أن يعلمه “ماكْرون” وأربابه ـ وبهدوء ونصح ووعظ ـ أن الإسلام له طبيعة يجب أن يفهموها؛ فهو أولا عقيدة مستقلة تمثل بناء عقيديا وفكريا وتصوريا للمسلم، ينظر من خلاله للحياة والوجود والأحياء، ولرب العالمين وللعلاقة به، ولقيمة الدنيا والآخرة، ولقيمة العمل، وللتعامل مع المسلمين وغير المسلمين.. إنه نسق من العقيدة والتصور الإسلامي الفريد والمتميز والرباني.. ثم للمسلم مواقفه من المناهج والعقائد المناقضة.

فالموافقة على بنود الجمهورية العلمانية، هي إقرار بفصل الدين عن الحياة ورد شرع الله وإسقاط والولاء لله ورسوله والمسلمين. ويعني التولي بغير ولاية الإسلام، وهي مناقضة لأصل الدين، ولعقيدة المسلم، وهي ردة عن دين الله تعالى. فلا يسع المسلم قبول هذه القيم ولا المباديء.

ومن ثم فلا يُطلب منه قطع ولائه للإسلام ولأمته، ولا يُفرض عليه ولاءٌ ولا شريعة لا يؤمن بها؛ لكن يُطلب منه الوفاء بعهوده وفعل الخير والدعوة الى الخير في البلاد التي يعيش فيها. وهذا يقوم به المسلم ويأمره به دينه.

ثم إن هذه العقيدة تقتضي أخلاقا للمسلم وعادات، سامية وراقية؛ هي من ناحية مفارقة للانحلال الأخلاقي الأوروبي، لكنها بَنّاءة وتعرف معنى الوفاء بالعهود، والبِناء وفعل الخير ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].

والمفروض أن المجتمعات الغربية تستفيد منهم، وتفرح بوجودهم؛ فهم يمثلون قيم النظافة الخلقية، والربانية..

ومن ثم فلا يُفرض عليه تغييرٌ أخلاقي يناقض دينه؛ فيكون المسلم متناقضا مع دينه إما عاصيا وإما مستحلا لما حرم الله فيكفر؛ بل ينبغي على الغرب أن يستفيد ويتعلم من الأخلاق التي جاء بها الإسلام فهي أمر الله الى البشرية وليس الى مجموعة من الناس..!

وللمسلمين بناء اجتماعي مباشر مترتب على العقيدة ومقتضَى لها؛ فتكوين الأسرة وأخلاقها وحجاب نسائها وتربية أبنائها؛ أمور مرتبطة بعقيدة المسلم، وهي تنمو بنمو أبناء هذا الدين في أي مكان؛ ومن ثم كلما سَرى هذا الدين في القلوب أثمر مظاهر جديدة وأُسرا مسلمة ونساءا محجبات وأبناء يحفظون كتاب الله ويرتلون كلامه، ونموا نحو النظافة الأخلاقية وتحريم الفواحش وترك الربا، واحترام أعراض الناس وأموالهم ودماءهم..

ومن ثم فيجب عليه ـ وعلى الغرب عموما ـ ألا يتوقع انحسار النمو الإجتماعي للمسلمين بينما العقيدة تنمو وتنتشر في الناس؛ هذا متناقض في نفسه، ومناقض لحقوق الإنسان كما قررها الغرب نفسه. وقد نرى الغرب يحترم خصوصية غير النصارى من البوذيين والهندوس والسيخ واليهود؛ فلا يعقل أن يحترم هذه الديانات المخرفة والوثنية ثم يأتي لدين الله الحق وكلمته الأخيرة وكتابه المهيمن ومنهجه الراقي؛ فيواجهه ليطفئ نوره..!

وفي النهاية لا ينبغي أن يخيرهم بين قيمه المناقضة لقيم الإسلام (الربانية)، وعقائده الملحدة المناقضة لدين (رب العالمين) وواقعه الاجتماعي المنحل والشاذ والفارغ من الخير أمام بناء الإسلام الاجتماعي المتميز بالاحترام والعفة والواجبات المتقابلة واحترام الرجل والمرأة واحترام أدوارهما في الحياة وحقوق الطفل وحقوق الأجداد والضعاف..الخ

خاتمة

ثم نوجه كلمة للمسلمين في الغرب والمسلمين في بلدانهم..

أما المسلمون في الغرب فيجب الصبر على ما يتعرضون له، واتخاذ الوسائل المناسبة، ومنها وسائل تضمنها قوانين تلك البلاد. ويجب التوكل على الله والصدق معه، وسيجعل الله لهم فرجا ومخرجا ويفرض ويقدّر لهم من الهيبة ما يحفظ حقوقهم ما صدقوا مع ربهم.

كما يجب عدم الاعتذار عن دين الله ولا الخجل منه ولا التواري، ولا الاستجابة لانحسار أخلاقي أو اجتماعي، ناهيك عن التراجع العقدي، فلا نعمة أعظم من الإسلام.

كما يجب عليهم اعتماد خيار الرجوع الى بلدانهم لمن قدَر على ذلك؛ تفاديا للذوبان في مجتمعات الكفار، وتفاديا من الوقوع تحت الاكراه على الكفر الذي يريده العدو.. ورب ضارة نافعة.

وأما المسلمون في بلدانهم فيجب أن يدركوا أنه يجب عليهم إكمال البناء لمجتمعاتهم بالمنهج الإسلامي، فمع البناء العقدي والخلقي والقيمي والاجتماعي؛ يجب استكمال إقامة منهج الله في الاقتصاد والسياسة ودور الجيوش، والانتاج الفني والفكري.. يجب إعطاء النموذج، واستكمال التكليف المفروض من الله تعالى، وأن يكفوا عن التناقض المزري بين الإسلام والعلمانية، وبين الإسلام والقومية والوطنية، وبين الإسلام وبين التغريب بسوءاته وقاذوراته الأخلاقية، وأن يدركوا ما يجب عليهم أخذه من العلوم الحديثة وما يجب تركه واسترذاله من القيم والأخلاق والعقائد والأفكار الجاهلية أيا كان مصدرها؛ سواءا كانت زبالة داخلية أو خارجية؛ غربية كانت أو شرقية.. وتلك هي المهمة الكبيرة والثقيلة، والفارقة.
……………………………..

هوامش:

  1. موقع ” BBC”:ماكرون يمهل قيادات إسلامية في فرنسا 15 يوما لقبول ميثاق “قيم الجمهورية
    موقع “CNN”: مهلة ماكرون لقادة المجتمع الإسلامي بفرنسا لوضع “ميثاق للقيم” تثير تفاعلا.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة