تربطنا وشائج القربى بالأولاد، وتربطنا حاجات الدنيا مصالحها ـ وأحيانا زخرفها ـ بالأموال. ولكن في كل منهما اختبار؛ فوجب الحذر وابتغاء الآخرة.
مقدمة
المقصود بفتنة الدنيا هي كل ما أَلْهى عن الآخرة من متاع الأرض الزائل، مما تميل إليه النفوس وتحبه، وقد أجمله الله، عز وجل، في قوله سبحانه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبٌّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
أشد مظاهر الدنيا فتنة
أ- فتنة الأموال والأولاد: وقد ذكرها في الآية السابقة في قوله تعالى: ﴿وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ﴾.
ب- فتنة النساء: وقد ورد ذكرها عند قوله تعالى: ﴿حُبٌّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ﴾.
ج فتنة الجاه والشهرة وحب الرئاسة.
أولا: فتنة الأموال والأهل والأولاد
وقد ورد التحذير من هذه الفتنة في أكثر من آية من كتاب الله، عز وجل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولادِكُم عَدُوّاً لَكُم فَاحذَرُوهُم وَإِن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ﴾ [التغابن: 14-15]
وقوله تعالى: ﴿وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 28] وقوله تعالى: ﴿يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلَا أَولَادُكُم عَن ذِكرِ اللَّهِ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون: 9]. وقوله تعالى: ﴿فَلا تُعجِبكَ أَموَالُهُم وَلا أَولادُهُم إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَتَزهَقَ أَنفُسُهُم وَهُم كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55].
يقول الإمام البغوي عند تفسير آية التغابن:
“وقال عطاء بن يسار: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي؛ كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، وقالوا: إلى من تدَعنا..؟ فيرق لهم ويقيم، فأنزل الله: ﴿إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولادِكُم عَدُوّاً لَكُم﴾ بحملهم إياكم على ترك الطاعة، فاحذروهم أن تقبلوا منهم.
﴿وَإِن تَعفُوا وَتَصفَحُوا وَتَغفِرُوا﴾، فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم فإن الله غفور رحيم.
﴿إَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ﴾، بلاء واختبار وشغل عن الآخرة، يقع بسببهما الإنسان في العظائم، ومنْع الحق وتناول الحرام، ﴿وَاللَّهَ عِندَهُ أَجرٌ عَظِيمٌ﴾، قال بعضهم: لما ذكر الله العداوة أدخل فيه “من” للتبعيض، فقال: ﴿إِنَّ مِن أَزوَاجِكُم وَأَولادِكُم عَدُوّاً لَكُم﴾، لأن كلهم ليسوا (بأعداء)، ولم يذكر “مِن” في قوله: ﴿إَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ﴾ لأنها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب”. (1تفسير البغوى عند الآيتين (14، 15) من سورة التغابن)
وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله من المنبر، فحملهما، فوضعهما بين يديه، ثم قال: «صدق الله: ﴿إَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَة﴾ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما». (2أبو داود في الصلاة (9 0 1 1) والترمذى في المناقب (3776) وقال: حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الجامع (3757))
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية التغابن هذه أيضاً فيقول:
“ولكن النص القرآني أشمل من الحادث الجزئي، وأبعد مدى وأطول أمداً فهذا التحذير من الأزواج والأولاد كالتحذير الذي في الآية التالية من الأموال والأولاد معاً: ﴿إَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَولادُكُم فِتنَةٌ﴾.
والتنبيه إلى أن من الأزواج والأولاد من يكون عدواً، إن هذا يشير إلى حقيقة عميقة في الحياة البشرية، ويمس وشائج متشابكة ودقيقة في التركيب العاطفي، وفي ملابسات الحياة سواء؛ فالأزواج والأولاد قد يكونون مَشغلة ومَلهاة عن ذكر الله، كما أنهم قد يكونون دافعاً للتقصير في تبعات الإيمان، اتقاء للمتاعب التي تحيط بهم لو قام المؤمن بواجبه، فلقي ما يلقاه المجاهد في سبيل الله..! والمجاهد في سبيل الله يتعرض لخسارة الكثير، وتضحية الكثير.
كما يتعرض هو وأهله للعنَت، وقد يحتمل العنَت في نفسه ولا يحتمله في زوجه وولده، فيبخل ويجبن ليوفر لهم الأمن والقرار، أو المتاع والمال، فيكونون عدواً له، لأنهم صدّوه عن الخير، وعوقوه عن تحقيق غاية وجوده الإنساني العليا.
كما أنهم قد يقفون له في الطريق يمنعونه من النهوض بواجبه، اتقاءًا لما يصيبهم من جرّائه، أو لأنهم قد يكونون في طريق غير طريقه، ويعجز هو عن المفاصلة بينه وبينهم والتجرد لله. وهي كذلك صور من العداوة متفاوتة الدرجات.
وهذه وتلك مما يقع في حياة المؤمن في كل آنٍ، ومن ثم اقتضت هذه الحال المعقدة المتشابكة، التحذير من الله، لإثارة اليقظة في قلوب الذين آمنوا، والحذر من تسلل هذه المشاعر، وضغط هذه المؤثرات، ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد، وكلمة “فتنة” تحتمل معنيين:
الأول: أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم، فانتبهوا لهذا، وحاذروا وكونوا أبداً يقظين لتنجحوا في الابتلاء، وتُخلصوا وتتجردوا لله، كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب..!
والثاني: أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم تُوقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله”. (3في ظلال القرآن عند الآية (14، 15) من سورة التغابن)
تحذير رسول الله من فتنة الأموال
أما الأحاديث الواردة في التحذير من انفتاح الدنيا وكثرة الأموال والفتنة بها فكثيرة من أصحها وأشهرها:
قوله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم. أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال: «أو غير ذلك..؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون». (4مسلم. ك. الزهد (2962))
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم». (5البخاري 6/ 258، ومسلم 4/ 3274)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يُصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، ويُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا». (6مسلم. ك. الإيمان (118) والترمذى في الفتن (2196))
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال أمن الحلال؟ أم من حرام؟». (7البخاري. ك. البيوع (2083))
تحذير السلف من الافتتان بالدنيا
ومن أجل ذلك خاف السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ من الافتتان بزهرة الدنيا وأموالها وزخرفها، والنماذج التالية تشهد بذلك:
عن إبراهيم بن عبد الرحمن: أن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أُتي بطعام وكان صائماً، فقال: «قُتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كُفِّن في بُردة: إن غُطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطّي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة، وهو خير مني. ثم بُسط لنا من الدنيا ـ أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أعطينا ـ وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجّلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام». (8البخارى في الجنائز (1274) (1275))
وعن أبي حازم قال: جعل عروة بن الزبير لعائشة طعاماً فجعل يرفع قصعة ويضع قصعة، قال: فحوَّلت وجهها إلى الحائط تبكي، فقال لها عروة: كدَّرت علينا، فقالت: «والذي بعثه بالحق! ما رأى المناخل من حين بعثه الله حتى قُبض». (9المطالب العالية 3/ 160)
وعن ميمون بن أبي شبيب قال: «كان معاذ بن جبل في ركب من أصحاب رسول الله فمرَّ بهم رجل فسألهم فأجابوه، ثم انتهى إلى معاذ بن جبل وهو واضع رأسه على رجله يحدث نفسه؛ فقال: عم سألتهم..؟ فقال: سألتهم عن كذا، فقالوا: كذا، وسألتهم عن كذا فقالوا: كذا. فقال معاذ، رضي الله عنه: ” كلمتان إن أنت أخذتَ بهما أخذتَ بصالح ما قالوا، وإن أنت كنتَ تركتَهما تركت صالح ما قالوا: إن أنت ابتدأت بنصيبك من الدنيا يفُتْك نصيبك من الآخرة، وعسى أن لا تدرك منها الذي تريد. وإن أنت ابتدأت بنصيبك من الآخرة يمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظم لك انتظاماً، ثم يدور معك حيثما تدور». (10المطالب العالية 3/ 204)
وكان عبد الواحد بن زيد يحلف بالله لَحرْصُ المرء على الدنيا أخوف عليّ عندي من أعدى أعدائه، وكان يقول: يا إخوتاه لا تغبطوا حريصاً على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يُرْديه غداً في المعاد ثم يتكبر.
وكان يقول: الحرص حرصان: حرص فاجع، وحرص نافع. فأما النافع: فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع: فحرص المرء على الدنيا. (11أورد هذه الأقوال الإمام ابن رجب، رحمه الله تعالى، في شرحه لحديث (ما ذئبان جائعان) ت. محمد حلاق ص 26)
خاتمة
هكذا رأى الأولون الخيّرون الأمر؛ أمْر الدنيا بفتنها وأموالها وأولادها، وأمر الآخرة ببقائها وامتداداها. وهكذا آثروا الآخرة وارتحلوا من الأولى عن رضا وطواعية فكانوا هم السابقين.
……………………………
الهوامش:
- تفسير البغوى عند الآيتين (14، 15) من سورة التغابن.
- أبو داود في الصلاة (9 0 1 1) والترمذى في المناقب (3776) وقال: حسن غريب وصححه الألباني في صحيح الجامع (3757).
- في ظلال القرآن عند الآية (14، 15) من سورة التغابن.
- مسلم. ك. الزهد (2962).
- البخاري 6/ 258، ومسلم 4/ 3274.
- مسلم. ك. الإيمان (118) والترمذى في الفتن (2196).
- البخا ري. ك. البيوع (2083).
- البخارى في الجنائز (1274) (1275).
- المطالب العالية 3/ 160.
- المطالب العالية 3/ 204.
- أورد هذه الأقوال الإمام ابن رجب، رحمه الله تعالى، في شرحه لحديث (ما ذئبان جائعان) ت. محمد حلاق ص 26.