تؤدي البشرية ضريبة فادحة من الشقاء والقلق والحيرة والخواء حين لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسّق.

مقدمة

ما بين منهمك في الدنيا لا يفيق إلا في عسكر الآخرة وبين أبنيتها؛ فيهلك في أودية الدنيا ويهلك حين لقاء الله ويضيّع أثمن فرصة يُعطاها الانسان؛ فرصة إصلاح دربه.

وبين من يطلب الآخرة فيخطيء في الأدوات فيطلب الآخرة بترك الدنيا؛ فيتمزّق ويضطرب ويقطع الطريق على نفسه، ويخسر أبواباً للخير ولج منها غيره الى الجنة..!

لأجل هذا نوضح هنا الجمع بين الدارين، وابتغاء الآخرة بما ملك العبد في الدنيا.

ابتغاء الآخرة لواجِد الدنيا

قال الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص:77)

يقول السعدي، رحمه الله تعالى، في تفسير هذه الآية:

“… أي: قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله، وتصدّق، ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذّات. ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ أي لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعًا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يثلُم دينك ولا يضر آخرتك”. (1تفسير السعدي 4 /40)

وقال الإمام ابن كثير، رحمه الله تعالى، عند هذه الآية:

“أي: استعمِلْ ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزَوْرك عليك حقًّا، فآت كل ذي حق حقه”. (2تفسير ابن كثير، عند الآية (77) من سورة القصص)

ويقول سيد قطب، رحمه الله تعالى:

“وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم، المنهج الذي يعلّق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة، بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.

لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض؛ ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها.

والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبُّل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.

وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكِّنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة”. (3في ظلال القرآن 5 /2711)

مواقف الناس ونظرهم للدنيا والآخرة

والناس في نظرهم للدنيا والآخرة طرفان ووسط:

(الطرف الأول): من جعل هَمّه للدنيا وقصَر نظره عليها، وكأنه مخلّد فيها.

(الطرف الثاني): انصرف إلى الآخرة وانقطع عن الدنيا وأهلها، وترك الدنيا لأهل الفساد يعيثون فيها ويفسدون.

(الطرف العدل والوسط): وهم أهل الحق الذين توجهوا إلى الدنيا بعمارتها وإصلاحها، ومدافعة المفسدين فيها، وعدُّوها مزرعة الآخرة فجعلوها في أيديهم لا في قلوبهم، ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها للآخرة، وأنها فانية لا تساوي شيئًا في مقابل النعيم الأبدي في الدار الآخرة.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“والناس أقسام:

أصحاب «دنيا محضة»: وهم المعرضون عن الآخرة.

وأصحاب «دين فاسد»: وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهادات.

و«القسم الثالث»: وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق”. (4مجموع الفتاوى 10 /622، 623)

ويقول الشيخ سفر الحوالي، حفظه الله تعالى:

“وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية:

فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان يلي بعض المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل.

وفي أصحاب رسول الله ﷺ الأسوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى، كما كان في أصحاب النبي ﷺ أيضًا أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي ﷺ أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومَنْ بعدَهم حصل عندهم الاضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا، وركن إليها، ولم يتحرز من قبول أي ولاية، ولم يتحرز من قبول أي منصب، ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛ فتوسعوا في ذلك توسعًا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلّل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله تعالى.

ومنهم طائفة مالت إلى العكس: فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا، حتى أنهم حرَّموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من يأخذ شيئًا من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق.

فهذا الأمر وإن كان أمرا واقعيًا ـ أي: في التطبيق العملي ـ إلا أنه يوصّلنا ويدلّنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه.

خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة؛ وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله ويجمعون الدين كله”. (5عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: «وسطية أهل السنة والجماعة»)

طريق واحد لا طريقان

يجلّي هذه الحقيقة سيد قطب، رحمه الله تعالى؛ حيث يقول:

“لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي ـ وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة ـ لا يرى أن هنالك سبيلًا للالتقاء بين الطرفين، ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع.

حقيقةً؛ إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تُباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتّم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلّوا عن طريق الآخرة، وأن يضحّوا بالتوجيهات الدينية والمُثُل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحضّ عليه الدين..

كما تحتّم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنّبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مُرْضِيَة لله سبحانه، ولكن تراها ضَرْبَةَ لازِبٍ! ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة!

كلا؛ إنها ليست ضربة لازب! فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل، بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلًا، إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ!

إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي، هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية.

ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة.

والمنهج الإسلامي ـ بهذا ـ يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق؛ فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي”. (6في ظلال القرآن (2/931 – 934) باختصار)

خاتمة

“تؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسّق”. (7المصدر السابق)

إن الدنيا في حسّ المسلم فرصة، ومرحلةٌ للزرع والبذْر، ومعبره نحو الآخرة، والمحدِد لما سيكون عليه الحال بعد هذا بإذن الله.. دارٌ ليكتسب فيها ويهيء المقعد هناك والمهاد.

وأكثر الأعمال إيجابية بمقياس أهل الدنيا من حاكم عادل وآمرٍ بالخير وناهٍ عن الشر والعمل المعمِّر للحياة ليصلحها للآخرين، والتيسير على الخلق وإيصال الخير لهم، والإيجابية الكاملة تجاه الأحداث والأشخاص، ونواتج عمله أيضا وآثاره..

كل هذا طريقه الى ربه، يقطعه من أجل الآخرة.

فكيف وبأي وجه يمكن أن ينفصلا؟! إلا في ذهن من لا يتصور الأمور على ما هي عليه..!

ذلك تصور المسلم؛ فكيف يكون سواه إلا في قلب محروم؟

…………………………………..

الهوامش:

  1. تفسير السعدي 4 /40.
  2. تفسير ابن كثير، عند الآية (77) من سورة القصص.
  3. في ظلال القرآن 5 /2711.
  4. مجموع الفتاوى 10 /622، 623.
  5. عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: «وسطية أهل السنة والجماعة».
  6. في ظلال القرآن (2/931 – 934) باختصار.
  7. المصدر السابق.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة