الزهد والورع يبدآن بفعل الواجب وشبهه، وترك المحرم وشبهه، والسعي نحو الآخرة بترك ما يُثق لاعبد أو يضره، والخلل في مفهومهما قد يوقع في الحرام ويقطع الطريق..!

مقدمة

فإن من المفاهيم التي أصابها الخلل عند بعض المتنسّكة مفهوم “الورع” و “الزهد” حتى جاوزوا فيها منهج سلف الأمة المهديين وأتوا بتصورات ومواقف عدّوها من “الزهد” و “الورع” وهي ليست منها في شيء، لأنها إما جانحة إلى “الغلو والزيادة” أو إلى “التقصير والتفريط”، وحدث تلبيس في المفهوم الشرعي لهما.

كما أن الشيطان قد صوَّر لبعضهم بأنه من “أهل الورع والزهد” بتركه لبعض المباحات أو الشبهات مع أنه متلبّس ببعض المحرمات الواضحة أو تاركًا لبعض الواجبات الصريحة وهو يعلم بذلك أو لا يعلم..!

من أجل ذلك جاءت هذه المقالة السريعة في تحديد “الفهم الصحيح للورع والزهد” كما فهمه السلف الصالح رحمهم الله تعالى مع التحذير من نزغات الشيطان وتلبيسه في هذا الباب.

تعريف السلف للورع والزهد

جاء عن السلف عدة تعريفات لـ “الورع” و “الزهد” بعضها ذهـب إلى “مظهر” أو “نوع” من أنواع الزهد والورع وبعضها الآخر ذهب إلى مظهر أو نـوع آخر، ولذلك فالاختلاف فيما بينها إنما هو “اختلاف تنوّع” لا “اخـتلاف تضـاد”، لأنهـا تعـود في جملتها إلى تعريف عام منضبط هو الذي اختاره الإمـام ابن القـيم رحمه الله تعالى حيث يقول:

“سمعت شيخ الإسلام ابن تيميـة قدَّس الله روحه يقول:

“الزهــد”: هـو “ترك ما لا ينفـع في الآخرة”.

و”الورع”: “ترك ما تخاف ضـرره في الآخرة”.

وهـذه العبارة من أحسـن ما قيـل في الزهـد والـورع وأجـمعـها. اهـ (1)

فوائد من التعريفين

وبالتأمل في هذين التعريفين لـ “الزهد” و “الورع”، وبالتدقيق في مدلولهما نخرج بالفوائد التالية:

الزهد أرفع مقاما

أن مقام الزهد أعلى من مقام الورع، لأن الزاهد لا تراه إلا محـاسبًا لنفسه، شحيحًا بوقته؛ لا يضيع عمره في شيء لا يقربه إلى الله عز وجل ولا ينفعه في الآخرة؛ وإنما ينظر إلى ما يقوله ويفعله؛ فإن كان مما ينفـعه عند الله عز وجل أخذ به وعلّق همته به، وإن كان لا يرجو نفعـه في الآخرة زهد به وتركه ولو لم يكن منه ضرر في الآخرة.

ولا يعني هذا أن الزاهـد لا يتمـتع بالمباحات بل إنه يتـمتع بها من غير توسع، وينوي بها التقوِّى على طاعة الله عز وجل وبهذا تنفعه في الآخرة.

أما الورع فصاحبه يتجنب ما يخاف ضرره في الآخرة؛ فإذا خلا من الضرر فقد يأخذ به ولو لم ينتفع به في الآخرة، أي أنه يتجنب الحرام وشبهه ويفعل الواجب وشبهه، وما سوى ذلك فهو متوسع فيه تركًا أو فعلاً من دون استحضار نية التعبد بذلك.

وهذا مقام رفيع لكنه دون مقام الزهد.

وبذلك نستطيع القول بأن

“كل زاهد فهو ورع، وليس كل ورع زاهد”

التخلص من صور الفهم الخاطيء

بالفهم الصحيح للزهد والورع حسب التعريفات السابقة نتخلص من الفهم الخاطئ والغلط الذي قد يقع فيه بعض الناس في موضوع الزهد والورع، ولذلك صور منها:

قصْر الزهد على مظاهر معينة

في المأكل والمشرب والملبس والمسكن أو ترك الاكتساب، والتفرغ للذكر والقرآن ونوافل العبادات… الخ، ونسيان ما هو أهم من ذلك وهو “زهد القلب وميله إلى الآخرة” ومحبته وتوكله على الله عز وجل وترك ما يضره من الآثام الباطنة والظاهرة.

ولذلك فأول ما ينبغي أن ينصبّ إليه اهتمام الزاهد بحق: “زهده في ما حرم الله عز وجل وقيامه بما أوجب الله عز وجل”.

ويلي ذلك “زهده في مشتبهات الحرام وفعله لمشتبهات الواجب”.

ثم يصل بعد ذلك إلى “زهده في المباحات التي لا تنفعه في الآخرة”، وإن أخذ بها “نوى بها التقوِّى على طاعة الله سبحانه”؛ فتتحول “المباحات” في حقه إلى “عبادات” ينتفع بها في الآخرة.

عدم قصر “الزهد” و “الورع” على جانب التروك

اعتقاد بعض النـاس أن “الزهد” و “الورع” يختصان بجانب التروك فقط؛ فلا يرون الورع أو الزهد إلا في ترك الحرام أو مشتبهاته لا في أداء الواجبات ومشتبهاتها؛ مع أننا لو أمعنّا النظر في مفهوم الترك الوارد في تعريف الزهد والورع لرأيناه يشمل “ترك” المحرم ومشتبهاته و”فعل” الواجب ومشتبهاته، ومن قام بذلك فقد ترك ما يخاف ضرره في الآخرة.

ومن هذا الغلط تنشأ بعض الصور المتناقضة في حياة من يدّعي الزهد أو الورع.

فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يفصل هذه الحالة فيقول:

“يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات:

منها اعتقاد كثير من الناس أنه من باب “الترك”، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب.

وهذا ما ابتُلي به كثير من  المتدينة المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا؛ ومع  هذا يترك أمورًا، واجبة عليه؛ إما عينًا أو كفـاية وقـد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان، وذي علم، وعن أمرٍ بمعروف، ونهيٍ عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله… إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه.

أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك. أ هـ (2)

ترك بعض الواجبات أو فعل محرمات، على وجه الورع..!

وذلك بقيام بعض الناس ببعض الأعمـال التي قـد تكون محـرمة أو بترك بعض الأعمال التي قـد تكون واجبة اعتقادًا منهم أن ذلك من الورع.

وهذا يحصل في العادة عند تعارض المصالح والمفاسـد وعـدم المـوازنة لما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية، ويشرح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هذه المسألة فيقول:

“وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة، أو فجور، ويرى ذلك من الورع، ويمتنع من قبول شهادة الصادق، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة، ويرى ترك قبول سـماع هذا الحق الذي  يجـب سـماعه من الـورع”. (3)

فعل وترك ما لم يدل الشرع عليه

جهل بعض المتورعة أو المتزهدة بالكتاب والسنة فيفعلون بعض الأفعال ظنًّا منهم أنها واجبة أو شبه واجبة، ويتركون بعض الأعمال ظنًّا منهم أنها محرمة أو شبه محرمة.

ودافعهم إلى ذلك الورع والتدين لكن جهلهم ببعض الحلال والحرام قد يؤدي بهم إلى فعل ما لم يدل الدليل على وجوبه أو ترك مالم يدل الدليل على أنه حرام أو مشتبه بالحرام، وإنما قد يكون هذا الورع مبني على الظن أو الميل النفسي فحسب.

وعن هذا يتحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيقول:

“.. إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحـرم والمشـتبه؛ فينـبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكـتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه من أشياء لعادةٍ ونحـوها، فيكــون ذلك مما يقـوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهـم فى أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الـورع الفاسـد..

ومن هـذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصـحيح لمّا ترخص في أشياء فبلغـه أن أقوامًا تنزهوا عنها، فقـال: «ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخـص فيها؟ والله إني لأرجو أن أكون أعلمهـم بالله وأخشاهم». (4)

ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يُفسد تورعه الفاسد أكثر مما يُصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم”. (5)

إرادة الشهرة والصدارة والثناء

إرادة الإنسان بورعه وزهده من الدنيا الشهرة أو الصدارة أو ثناء الناس… إلخ.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

“.. واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمور به من الإخلاص.

أما الورع بفعل المأمور به فظاهر، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه.

وأما ترك المنهي عنه الذي يسميه بعض الناس ورعًا فإنه إذا ترك السيئات لغير وجه الله لم يُثَب عليها، وإن لم يعاقب عليها، وإن تركها لوجه الله أثيب عليها، ولا يكون ذلك إلا بما يقوم بقلبه من رجاء رحمة الله، أو خشية عذابه”. (6)

الزهد لطلب الراحة

إن الزهد في الدنيا قد يكون لطلب الراحة مما يلحق من ضررها، أو لعدم حصول المطلوب منها؛ وهذا كله ليس من الزهد في شيء وليس بمحمود عند الله عز وجل.

وإنما المحمود من ترك الدنيا وذمّها ما كان دافعُه إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة ولكون الدنيا تشغل عن ذلك.

ولولا كون الدنيا تشغل عن عبادة الله عز وجل والدار الآخرة لم يُشرع الزهد فيها؛ فلينتبه من يدّعي الزهد إلى هذا الأمر وليفتش عن نيته ولا يلبـس الحـق بالبـاطل.

إن  قومًا زهدوا فيما ينفعهم بلا مضرة فوقعوا به في ترك واجبات أو مستحَبَّات كمن ترَك النساء وأكَل اللحم ونحو ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني». (7)

زهد “البطالين” يوقع في الحرام

وقد يوقع “زهدٌ” في فعل محظورات، كمن ترك تناول ما أبيح له من المال والمنفعة، واحتاج إلى ذلك فأخذه من حرام، أو سأل الناس المسألة المحرمة، أو استشرف إليهم، والاستشراف مكروه.

ومن كان زهده زهد الكسل والبطالة والراحة لا لطلب الدار الآخرة بالعمل الصالح والعلم النافع، فإن العبد إذا كان زاهدًا بطّالاً فسد أعظم فساد، فهؤلاء لا يعمّرون الدنيا ولا الآخرة..

فمن ترك بزهده حسناتٍ مأمور بها كان ما تركه خيرا من زهده.

ومن زهد فيما يشغله عن الواجبات أو يوقعه في المحرمات فهو من المقصرين أصحاب اليمين.

ومن زهد فيما يشغله عن المستحبات والدرجات فهو من المقربين السابقين”. (8)

خاتمة

طريق رب العالمين يحتاج سالكه الى العلم، لئلا يضع جهده فيما لا ينفعه، ويترك ما لا يُثاب عليه بل قد يلام عليه..! ولئلا يفقد شرطا يُحبط عمله، أو يحرم نفسه ويمنعها مما لا يضرها في آخرتها بل قد يشغلها المنع مما تحتاجه عن طلب الآخرة.

فلا بد من العلم، ولا بد من فقه النفوس ومعرفة حقيقتها، فالاعتدال والأخذ بمأخذ رسول الله وصحبه، وعدم الابتداع؛ يجعل الوصول الى رب العالمين أسرع والطريق أيسر، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.

……………………………………………

هوامش:

  1. مجموع الفتاوى 20 / 139.
  2. مجموع الفتاوى 10 / 512 .
  3. البخاري، برقم 6101، مسلم برقم 2356.
  4. مجموع الفتاوى: 20 / 141 ، 142.
  5. المصدر السابق: 20 / 145.
  6. البخاري كتاب النكاح برقم 5063، مسلم برقم 1401.
  7. مجموع الفتاوى: 20 / 150، 151 (باختصار).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة