كم هي الآيات العظيمة التي نشاهدها في الآفاق، وعظيم صنع الله عز وجل فيها، وإتقانه سبحانه في خلقها، والتي تبين قبح الشرك بالله سبحانه صراحة، وأن إلهًا واحدًا قادراً هو الذي نظم كل ما في الكون أحسن تنظيم.
بيان اشتمال الآيات القرآنية على دليلي الخلق والعناية الدالين على قبح الشرك
إذا نظرنا إلى الآيات القرآنية الكونية نرى أنها تنبه على دليلي الخلق والعناية في الكون لكي يخرج الناس من ظلمات الشرك به سبحانه ويعترف العقل على قبحه، وهما دليلا الشرع، وقد يكون الدليلان معًا في الآية الواحدة، فآيات القرآن:
1 – إما أن تتضمن التنبيه على دليل الاختراع الدال على أن تعطيله عن مخترع قبيح.
2 – وإما أن تتضمن التنبيه على دليل العناية الدالة على أن هناك خالقاً لابد من العبادة له.
3 – وإما أن تتضمن التنبيه على الدليلين السابقين معًا.
ونكمل هذه الآيات التي بدأنها في المقال السابق [تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك (1)].
آية الشمس والقمر والليل والنهار الدالة على قبح الشرك
ذكرت آية الشمس والقمر مع آية الليل والنهار لورودها مجتمعة في بعض المواضع من آيات القرآن الكريم: من هذه الآيات:
1 – قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ).
في هاتين الآيتين تنبيه على أن الله وحده هو الذي خلق الشمس والقمر والليل والنهار بغير معين ولا شريك؛ فقوله: (هو) دلالة على الوحدانية أي هو الذي جعل الشعاع الصادر عن الشمس ضياء وجعل الشعاع الصادر عن القمر نوراً، وفاوت بينهما بأن جعل سلطان الشمس نهاراً وسلطان القمر ليلاً وقدر القمر منازل.
فالمتدبر لذلك يعلم حقيقة الوحدانية.
قال الطبري: (لقوم يعلمون إذا تدبروها، حقيقة وحدانية الله).
وانظر كيف وضعت الشمس في مكانها الخاص بها، والقمر في مكانه الخاص به، ووضعت الكواكب في أمكنتها الخاصة بها، ودوران ذلك كله كما قال تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). قال ابن عباس: (أي يدورون كما يدور المغزل في الفلكة). قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم، والشمس، والقمر لا يدورون إلا به، ولا يدور إلا بهن.
وانظر لهذا التقدير الحكيم بأن جعل الله الليل والنهار مرتبطين بدورة الشمس فلا يستطيع أحد إيقاف الشمس عن دورتها، أو حبس الليل والنهار عن جزء من الأرض؛ لأن الله وحده هو الذي يتولى ذلك كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).
يقول الطبري في تفسيره لهذه الآية: (فعلت هذا الفعل من إيلاجي الليل في النهار وإيلاجي النهار في الليل لأني أنا الحق الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ند وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلهًا من دونه هو الباطل الذي لا يقدر صنعه شيء بل هو المصنوع).
2 – قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
في هذه الآية يبين تعالى أن الليل، والنهار، والشمس، والقمر من دلائل وحدانيته ووجوب عبادته، ولا تستحق الشمس أو القمر العبادة، إنما يستحق ذلك خالقها دون كل شيء سواه.
يقول ابن كثير: (يقول تعالى منبهًا على قدرته العظيمة وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قدير: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)؛ أي أنه خلق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، وهما متعاقبان لا يفتران، والشمس ونورها وإشراقها، والقمر وضياؤه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه؛ ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والأعوام، ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات، ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره، فقال: (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)؛ أي لا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به).
إذا نظرنا إلى العلم وجدناه يقول بأن مجموعتنا الشمسية ليست إلا جزءًا من أجزاء المجموعة المجرية، ومجرتنا هذه واحدة من مجرات عديدة، ويقول العلم بأن هناك نجومًا كثيرة أكبر من الشمس وأشد حرارة منها، وأن الشمس التي يستفيد من حرارتها كل نبت وحيوان درجة حرارة سطحها 12000 درجة فهرنهايت، وأن الأرض موضوعة بالمكان المناسب لاستمرار الحياة عليها، ولو زادت درجة الحرارة أو نقصت عن حد معين قدره الله تعالى لمات كل الأحياء على سطح الأرض حرقًا أو تجمدًا، وأن مسار القمر له علاقة بالمد والجزر الذي يحصل في البحار مرتين في العام، ولو كان القمر غيّر هذا المسار الذي رسمه له خالقه لعم الماء جميع اليابسة وفاض عليها بحيث تصبح الحياة مستحيلة على ظهرها.
إن هذا الخلق العظيم والتنظيم الدقيق يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله وأنه المستحق أن يفرد بالعبادة دون كل شيء سواه، بل عبادة غيره سبحانه والشرك به قبيح.
آية الرياح والمطر والنبات الدالة على قبح الشرك
ذكرت الكلام عن هذه الآيات معًا لارتباطها ببعضها، ولأنه يرد في القرآن اقتران الرياح بإنزال المطر ثم إنبات المزروعات والثمار، وهي من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وفيما يلي بيان ذلك:
1 – يقول تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ).
في هذه الآية وصف الله تعالى الرياح بأنها لواقح؛ لأنها تلقح السحاب فتدر ماء، وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها فيبعث الله الرياح المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، أليس ذلك آية دالة على وحداينة الله المتصرف في هذا الكون، وعلى أن تعطيله عن مصنوعه قبيح؟
2 – يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
في هذه الآية نبهنا الله تعالى على أنه هو وحده الذي يشق الحب والنوى في الثرى فتنبت منه الزرع، والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها، ثم قال مشيرًا إلى وحدانيته تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): أي فاعل ذلك هو الله وحده لا شريك له فكيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل بعبادتكم غير الله تعالى؟
يقول الطبري: (وهذا تنبيه من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجته عليهم، وتعريف منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياهم، يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة أيها الناس دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان هو الله الذي فلق الحب؛ يعني شق الحب من كل ما ينبت من النبات فأخرج منه الزرع، والنوى من كل ما يغرس مما له نواة فأخرج منه الشجر … ).
3 – ويقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
الخضر: هو الزرع، والشجر الأخضر. والمتراكب: هو الحب والثمر، لأنه يركب بعضه بعضاً. والمشتبه وغير المتشابه: أي متشابه في الورق والشكل، وهو مختلف في الطعم واللون.
إن التفكير في النبات، والثمار، وكيفية تكونها من البذرة حتى صارت زرعًا أخضر وثمرًا طيبًا بعد جفافها، واختلاف ألوان الثمار وطعومها مع كونها متشابهة في الشكل والورق ـ لا شك يؤدي إلى معرفة الله ووحدانيته، ولذلك حثنا الله على النظر للثمار فقال: (انظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ)، فهي تدل دلالة واضحة على وحدانية الله وقبح الشرك به وبطلانه، لذلك ذم الله تعالى المشركين بعد هذه الآية مباشرة فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) ـ إلى قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ).
قال الطبري في تفسيره لهذه الآية: (يا أيها الناس، إذا نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره، وعند ينعه وانتهائه، فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموه؛ علمتم أن له مدبرًا ليس كمثله شيء، ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد).
وقد استنكر الهدهد على قوم بلقيس سجودهم للشمس من دون الله، مستدلاً على وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة وعدم الشرك به بأنه خلق الماء والنبات وأخرجه بعد أن كان مخبوءًا في السماء والأرض، وجعل ذلك حجة على المخالفين. حيث قال تعالى عنه: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).
المصدر
كتاب: “الشرك في القديم والحديث” أبو بكر محمد زكريا، ص1350-1356.
اقرأ أيضا
تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك (1)