لله آيات بثها في الكون منظورة للعيون، لكنها تحتاج الى قلوب تعقلها، والقلب لا يعقل إلا بتذكر وتعبد وأن يصل ما يراه بالمنهج الأصيل.

مقدمة

كما أنزل تعالى آيات تتلى؛ فإنه تعالى بث آيات تُنظر وتُشاهد، تدل عليه وعلى أسمائه وصفاته، وهي تسكب في القلوب يقينا وتعظيما ومعرفة بعظمة الخالق وضآلة المخلوق.

وقد أشار القرآن مرارا الى هذه الحقائق العظمى المبثوثة، وعاب على من مرّ عليها غافلا ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف:105)

فالشأن ليس شأن العين فقط؛ إذا الكل يرى.. لكن الشأن شأن القلب الذي يتلقى من العين ويوجهها، ويتلقى ليصل الى من فطر وبرأ.

آيات متلوّة تشير الى الآيات المنظورة

يقول الله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت:53).

ويقول سبحانه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:190-191).

ويقول الله عز وجل: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ (الذاريات:20).

كم هي الآيات العظيمة التي نشاهدها في الآفاق، وعظيم صنع الله عز وجل فيها، وإتقانه سبحانه في خلقها، ولكن تكرار ذلك أمام الحِسّ والنظر جعلها مألوفة، وتعطل، أو قلَّ التفكير والتأمل في كونها آيات عظيمة توقظ الحس، وتملأ القلب رهبة وتعظيمًا لخالقها سبحانه.

ولكن ما أن ينتقل العبد بفكره من إلف العادة والتكرار إلى التفكير في هذه الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة حتى يكون له شأن آخر في تعامله مع هذه الآيات، وما تثمر في القلب من تعظيم ومحبة وإجلال وتعظيم وخشوع لخالقها جل وعلا.

يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

“عَرَضَ لي في طريق الحجِّ خوفٌ من العرب، فسِرْنا على طريق خَيْبَرَ، فرأيت من الجبال الهائلة والطُّرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عَظَمَةُ الخالق عز وجل في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر الطُّرُق نوع تعظيمٍ لا أجده عند ذكر غيرها.

فصحتُ بالنفس: ويحك! اعْبُري إلى البحر، وانظري إليه وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالًا هي أعظم من هذه.

ثم اخرجي إلى الكون والتفتي إليه؛ فإنَّك تريْنَهُ بالإضافة إلى السموات والأفلاك كَذَرَّةٍ في فلاةٍ.

ثم جولي في الأفلاكِ، وطوفي حولَ العرشِ، وتلمَّحي ما في الجنان والنيران.

ثم اخرُجي عن الكُلِّ، والتفتي إليه؛ فإنك تشاهدين العالم في قَبْضَةِ القادر الذي لا تقفُ قدرتُهُ عند حدٍّ.

ثم التفتي إليكِ، فتلمَّحي بدايتكِ ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية وليس إلَّا العدمُ، وفيما بعد البِلَى وليس إلَّا الترابُ.

فكيفَ يأنسُ بهذا الوجودِ من نَظَرَ بعين فِكْرِهِ المبدأَ والمنتهى؟! وكيف يغفُلُ أربابُ القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم؟!

بالله لو صحت النفوس عن سُكْر هواها لذابت من خوفه، أو لغابت في حبّه؛ غير أنَّ الحسَّ غَلَبَ فَعَظُمَتْ قدرةُ الخالق عند رؤية جبل، وإن الفطْنَةَ لو تلمَّحت المعاني لدلت القدرة عليه أوفى من دليل الجبل”. (1«صيد الخاطر» (ص275-276))

الاقتران بين التفكر والتذكر

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى:

“وأولو الألباب؛ أولو الإدراك الصحيح، يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية، ولا يقيمون الحواجز، ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات، ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، فتتفتح بصائرهم، وتشفُّ مداركهم، وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله إياه، وتدرك غاية وجوده، وعلّة نشأته، وقوام فطرته بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود…

وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ﴾ وبين التفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة، ويجعله جانبًا من مشهد الذكر، فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين”. (2«في ظلال القرآن» (1/544-546))

التفكر عبادة

ويقول رحمه الله:

“الحقيقة الأولى أن التفكر في خلق الله، والتدبر في كتاب الكون المفتوح، وتتبّع يد الله المبدعة، وهي تحرك هذا الكون، وتقلب صفحات هذا الكتاب هو عبادة لله من صميم العبادة، وذكر لله من صميم الذكر.

لو اتصلت العلوم الكونية التي تبحث في تصميم الكون، وفي نواميسه وسننه، وفي قواه ومدخراته، وفي أسراره وطاقاته؛ لو اتصلت هذه العلوم بتذكُّر خالق هذا الكون وذكره، والشعور بجلاله وفضله؛ لتحوّلت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة، ولاستقامت الحياة ـ بهذه العلوم ـ واتجهت إلى الله، ولكن الاتجاه المادي الكافر، يقطع ما بين الكون وخالقه، ويقطع ما بين العلوم والحقيقة الأزلية الأبدية؛ ومن هنا يتحول العلم ـ أجمل هبة من الله للإنسان ـ لعنة تطارد الإنسان، وتحيل حياته إلى جحيم منكرة، وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار!”. (3المصدر السابق)

من تتجلّى لهم حقائق الكون

يقول رحمه الله:

“والحقيقة الثانية أن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها الموحية إلا للقلوب الذاكرة العابدة، وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ـ وهم يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ـ هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائقُ الكبرى المنطوية في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح.

فأما الذين يكتفون بظاهرٍ من الحياة الدنيا، ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية ـ بدون هذا الاتصال ـ فهم يدمّرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار، ويحوّلون حياتهم إلى جحيم نكد، وإلى قلق خانق، ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف!..

إنها لحظة العبادة، وهي بهذا الوصف لحظة اتصال، ولحظة استقبال، فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر، وأن يكون مجرد التفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، ملهمًا للحقيقة الكامنة منها، ولإدراك أنها لم تخلق عبثًا ولا باطلًا، ومن ثمَّ تكون الحصيلة المباشرة للخطة الواصلة”. (4المصدر نفسه)

ويقـول ابن كثـير رحـمه الله تعـالى عنـد قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾

“أي: فيـها مـن الآيـات الـدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمِهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس، وما جُبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفُهوم والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحِكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه”. (5«تفسير ابن كثير» عند الآية (20) من سورة الذاريات)

من ينتفع بهذه الرحلة والعجائب

“غير أنه لا يدرك هذه العجائب، ولا يستمتع بالرحلة هذا المتاع، إلا القلب العامر باليقين، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾.

فلمسة اليقين هي التي تحيي القلب فيرى ويدرك، وتحيي مشاهد الأرض فتنطق للقلب بأسرارها المكنونة، وتحدثه عما وراءها من تدبير وإبداع.

وبدون هذه اللمسة تظل تلك المشاهد ميتة جامدة جوفاء؛ لا تنطلق للقلب بشيء، ولا تتجاوب معه بشيء، وكثيرون يمرون بالمعرض الإلهي المفتوح مغمضي العيون والقلوب؛ لا يُحِسُّون فيه حياة، ولا يفقهون له لغة؛ لأن لمسة اليقين لم تُحْي قلوبهم، ولم تبث الحياة فيما حولهم! وقد يكون منهم علماء ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7).

أما حقيقتها فتظل محجوبة عن قلوبهم؛ فالقلوب لا تفتح لحقيقة الوجود إلا بمفتاح الإيمان، ولا تراها إلا بنور اليقين، وصدق الله العظيم”. (6«في ظلال القرآن» (6/3378) باختصار يسير)

خاتمة

يمتليء العالم اليوم بالعلوم ومعطيات الحضارة المادية، لكنه منقطع عن الله تعالى، ومحارب له.

لم يسعد الانسان ولن يسعد بهذا القصور؛ إذ الشعور الذي وفّرته له هذه المعطيات العلمية والحضارية هو الشعور الحيواني والتلذذ الهابط، والحرمان من العلاقة بالله تعالى عُجبا بالنفس وعمىً عن ربه واستغناء عن خالقه ﴿أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 7).

في الاسلام هناك امتداد للنظرة البادية للكون، وهناك أصالة تبدأ من مشاهدة الآيات لتصل العبد بمنهج خالقه، ولقاء خالقه.. ثم ينعكس هذا على الانسان قيما وأخلاقا، تقوى وأحكاما، وميلاد إنسان جديد بمشاعر تقيّ. و”التقيّ” هو أفضل أنموذج يخرج للحياة.

………………………………………..

الهوامش:

  1. «صيد الخاطر» (ص275-276).
  2. «في ظلال القرآن» (1/544-546).
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر نفسه.
  5. «تفسير ابن كثير» عند الآية (20) من سورة الذاريات.
  6. «في ظلال القرآن» (6/3378) باختصار يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة