التفكر خاصة الإنسان، ومبدأ همّه وإرادته ودافع سعيه وجهده. وللتفكر فضل فهو عبادة، وله مجالاته التي يجب أن ينظر فيها، وأخرى لم يُعط مقوماتها. وقد غفل الكثير عن هذه العبادة فوجب التنبيه.

الغفلة عن التفكير الصحيح

إن المتأمل في أحوالنا اليوم وأحوال الناس بعامة – لا أقول الكفار منهم بل الكثير من المسلمين – يرى البعد الشديد عن التفكير الصحيح النافع الذي يقود صاحبه إلى الخير في الدنيا والآخرة، وإنما نجد أن جُل التفكير وقوّته وكثافته قد وُجه فيما لا ينفع في الآخرة؛ بل فيما يضر صاحبه هنالك من التفكير في شهوات محرمة أو في خواطر وشبهات وأماني باطلة ورديئة.

والموفَّق من وفقه الله عز وجل فصرف فكره وهَمه في معرفة ربه سبحانه، وذكره وشكره وعبادته، والاستعداد للقائه في الدار الآخرة، ولا يعني ذلك ترك التفكير في الدنيا وما فيها من المعاش والتمتع بما فيها من الطيبات، وإنما المقصود ألا تكون هي الهمَّ الشاغل الذي ينسي صاحبه الآخرة والاستعداد لها، أو تُنسيه ربه سبحانه والتعبد له بأسمائه وصفاته.

أهمية التفكر وأنفعه

“أصل الخير والشرِّ من قِبَل التفكر؛ فإن الفِكْرَ مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والتَّرْك والحب والبغض.

وأنفعُ الفِكْرِ الفكرُ في مصالح المعاد، وفي طريق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجَلُّ الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها.

فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.

ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونِعَمِهِ، وأمرِهِ ونهيه، وطرُق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسُنة نبيه صلى الله عليه  وسلم وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة، فإذا فكَّر في الآخرة وشرفِها ودوامِها، وفي الدنيا وخِسَّتِهَا وفَنَائِها، أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، وكلما فكَّر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجدَّ والاجتهاد، وبذل الوسع في اغتنام الوقت.

وهذه الأفكار تُعْلي همته، وتُحْييها بعد موتها وسُفولها، وتجعله في وادٍ والناس في واد”. (1)

“فها هنا خمسة أمور: الفكر وثمرته العلم، وثمرتهما الحالة التي تحدث للقلب، وثمرة ذلك الإرادة، وثمرتها العمل.

فالفكر إذن هو المبدأ والمِفتاح للخيرات كلها، وهذا يكشف لك عن فضل التفكُّر وشرفه وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له حتى قيل: “تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة”.

وبالجملة فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكر”. (2)

معاني التفكر

وقد ورد للفكر والتفكير معان متقاربة، منها:

التذكر، والنظر، والاعتبار، والتدبر، والاستبصار… إلى غيرها من المعاني المتقاربة.

مجالات التفكر والحث عليه

تعددت مجالات التفكر الذي أمر الله تعالى به وحث عليه، لنعرف أنها مجالات تستغرق الانسان وجهده البشري، في مقابل الغيب الذي حجبه تعالى عن الانسان.

الحث على التفكر والتدبر لآيات الله المتلوة

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (سورة ص:29).

وقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد:24).

الحث على التفكر في آيات الله عز وجل في الآفاق

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:190-191).

الحث على التفكر والتبصر في الإنسان وخلقه

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ (الروم:8).

وقوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت:53).

الحث على التفكر والتبصر في آلاء الله ونعمه

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية:12-13).

وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ (النحل:10-13).

الحث على التفكر في سير الأنبياء مع أقوامهم

ومن ذلك  قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (يوسف:111).

الحث على التفكر في النفس ومحاسبتها

ومدى قبولها للحقِّ والنظر فيما قدمت وأخرت من الخير والشر؛ ومن ذلك:

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18).

الحث على التفكر في الدنيا والآخرة وحقيقة كل منهما

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ (البقرة: 219-220).

التفكر في منهج الإسلام وواقع الأمة

وفي رقيه وسموه، مقارنة بالمناهج المطروحة، والتفكر في حال الأمة كيف كانت وكيف صارت إذا اختلفت المناهج..

والتفكر في كيفية خروج الأمة من مأزقها وإنقاذها من النفق المظلم، وانفكاكها من التبعية وإخراجها من غربتها الى دينها، وكيفية نجاحها في التحديات والعوائق الموضوعة أمامها كي تبقى داخل القفص.

التفكر في البدائل والطرق المتاحة والوسائل الممكنة للتأثير في الأمة ورفع الالتاس عنها في المفاهيم والتوجهات.

الآثار عن السلف ومأخذهم في التفكر

وأما الآثار الواردة عن السلف في فضل التفكر والحث عليه فكثيرة أذكر منها ما أورده الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ حيث قال رحمه الله تعالى:

وعن الحسن البصري أنه قال: “تَفكُّر ساعة خير من قيام ليلة”. وقال الفضيل: “قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حَسَناتك وسيئاتك”.

وقال سفيان بن عيينة: “الفكرة نور يدخل قلبك”، وربما تمثل بهذا البيت:

إذا المرء كانت له فكرة                     ففي كل شيء له عبرة

وعن عيسى عليه السلام أنه قال: “طوبى لمن كان قِيلهُ تذكرًا، وصَمْته تفكرًا، ونظره عبرًا”.

وعن لقمان الحكيم: “إن طول الوحدة ألهَمُ للفكرة، وطولَ الفكرة دليل على طَرْق باب الجنة”.

وقال وهب بن مُنبِّه: “ما طالت فكرة امرئ قَط إلا فهِم، وما فهِم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل”.

وقال عمر بن عبد العزيز: “الكلام بذكر الله عز وجل حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة”.

وقال مغيث الأسود: “زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرَف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكرَ النار ومقامعَها وأطباقها”.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: “ركعتان مقتصدتان في تفكُّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه”.

وقال الحسن: “يا بن آدم، كلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة”.

وقال بعض الحكماء: “من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغفلة”.

وقال بشر بن الحارث الحافي: “لو تفكَّر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه”.

وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: “سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر”. (3)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “بينما رجل مستلْقٍ ينظر إلى السماء وإلى النجوم فقال: والله إني لأعلم أن لك خالقًا وربًّا؛ اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له”.(4)

وسأل رجل أم الدرداء بعد موت أبي الدرداء عن عبادته فقالت: “كان نهاره أجمعه في بادية التفكر”. (5)

الدوافع إلى الكتابة عن التفكر

أولًا: ندرة التفكير أو ضعفه عند كثير منا؛ وذلك فيما ينفع العبد في آخرته، وبخاصة بعد هذا الانفتاح الشديد على الدنيا.

ثانيًا: تبلُّد التفكير والإحساس تجاه آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، وفي آيات الله المتلوة.

ثالثًا: جنوح بعض الناس في تفكيرهم إلى ما وراء حدود العقل، واقتحامهم لأمور لم يُعْطَ العقل القدرة على إدراكها والتفكير فيها؛ مما نشأ عنه الحيرة والشكوك، والقول على الله تعالى بلا علم.

رابعا: تعطيل بعض الناس تفكيره، وإسلامُ عقلِه وتفكيره لعقل غيره وتفكيره؛ فلا يرى إلا بعين غيره ولا يفكر إلا بتفكير غيره، وهذا هو التقليد الذميم الذي لا ينشأ عنه إلا التعصب والتفرق والتحزب.

خامسا: ما خرج علينا في الآونة الأخيرة مما يسمى بـ “الإبداع الفكري”، و”البرمجة العصبية” مع ما تحمل من مخالفات وبُعدٍ عن المنهج الشرعي؛ لأن مصدرها من الشرق أو الغرب الكافريْن الذين لا ينضبطون بدين ولا شرع، ومع ذلك تلقَّفها بعض أبناء المسلمين بالانبهار والقبول وشغلوا أوقاتهم وأذهانهم بها.

تفكر يمنع التضيل

نحن أحوج ما نكون اليوم الى التفكر، لنمتنع عن تبعية الباطل، ولنستعصي على الاستخفاف، ونرتفع على مبدأ القطعان.

إن حجم التضليل المتدفق عبر وسائل الإعلام، بل وفي مناهج التعليم، ثم في وسائل التواصل، في بيئة يتم فيها إنفاق الأموال لتغييب الخلق عن دينهم وعما ينفعهم، وسيطرة أرباب الشهوات ـ بأموالهم الحرام رغم كثرتها ـ على أجهزة التوجيه؛ مستهدفين زحزحة الناس عن صراط الله، إذ يبغونها عوجا.

لا بد من التفكر في الواقع وحقيقته، وفي دين الله وتميزه، وفي الفتن التي تموج فتبتلع فئاماً من الناس الى النار والهاوية، ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾.

إن الوقوف اليوم للتدبر والتفكر قد يكون سببا في نجاتك فلا تزهد في النصيحة، فغدا تحمد عقباها إن شاء الله.

………………………………………….

الهوامش:

  1. «الفوائد» (ص344-345).
  2. «مفتاح دار السعادة» (188-189).
  3. تفسير ابن كثير، عند الآية (191) من سورة آل عمران.
  4. «الدر المنثور» (1/196) وعزاه إلى الديلمي وأبي الشيخ.
  5. «مفتاح دار السعادة» (1/185-186).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة