من أساليب القرآن في تقرير عقيدة التوحيد وبيان قبح الشرك وبطلانه ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الذهن، وتوضيحه في القلب، وربطها بالواقع، فقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلين لأعمال المشركين، ومثلاً لما ينفقونه من الأموال في وجوه البر، وأنها لما لم تقم على التوحيد جعلها الله هباءا منثورا.

مثل أعمال المشركين بالسراب والظلمات

أ- أما مثل الأعمال: فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).

يبين الله سبحانه وتعالى أن مثل أعمال الذين أشركوا بالله مثل سراب بأرض منبسطة يرى وسط النهار وحين اشتداد الحر، فيظنه العطشان ماءً، فإذا أتاه ملتمسًا الشرب لإزالة عطشه لم يجد السراب شيئًا، فكذلك الكافرون في غرور من أعمالهم التي عملوها وهم يحسبون أنها تنجيهم عند الله من الهلاك كما حسب العطشان السراب ماءً، فإذا صار الكافر إلى الله واحتاج لعمله لم ينفعه وجازاه الله به بالجزاء الذي يستحقه.

وقوله تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ) الآية هذا مثل آخر لأعمال الكفار، إلا أن المثل الأول في انخداع الكافر بعمله في الدنيا وغروره به، وهذا المثل لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ وفساد وضلال وحيرة على غير هدى، فهي في ذلك كمثل ظلمات في بحر عميق جدًا كثير الماء، وفوق هذا البحر العميق موج عال مخيف، وفوق هذا الموج موج آخر، وفوقهما سحاب متراكم، فاجتمعت عدة ظلمات، وهكذا عمل الكافر ظلمات في ظلمات.

قال ابن عباس وابن زيد في مثل السراب: (هذا مثل ضربه الله لأعمال الذين كفروا)، وقال قتادة وأُبي بن كعب في مثل الظلمات: (هذا مثل آخر ضربه الله للكافر يعمل في ضلال وحيرة)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومثل أعمال الكافرين بالظلمة).

ولكن ابن كثير عدّ المثلين للكفار الدعاة وغير الدعاة، حيث جعل مثل السراب لعمل الكافر الداعية لمذهبه وكفره فيحسب أنه على كل شيء من الأعمال والاعتقادات وهو في واقع الأمر ليس على شيء.

وقال القرطبي: (ضرب الله مثلاً آخر للكفار أي أعمالهم كسراب بقيعة أو كظلمات، قال الزجاج: إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات).

وبهذا نرى القرطبي، والزجاج يجعلان المثلين مترادفين.

وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين كلامًا جيدًا حول هذين المثلين، حيث يقول: (ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة، وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان:

أحدهما: من يظن أنه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حالة أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك … ، وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة ـ وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم ـ فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابقة لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى، وتأمل ما تحت قوله: (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجد شيئًا بل خانه أحوج ما كان إليه، فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ولغير الله، جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئًا ووجدوا الله سبحانه ثَمَّ فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم …

النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل؛ حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان).

مثل أعمال المشركين بالرماد

ب- وضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لبطلان أعمال المشركين وحبوطها بالرماد الذي عصفت به الريح الشديدة فلم تبق منه شيئًا، فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ).

هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار التي كانوا يعملونها في الدنيا من المكارم وصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل وإغاثة الملهوف والإجارة وغيرها من أعمال البر يزعمون أنهم يريدون بها وجه الله، فمثلها كمثل رماد هبت عليه ريح عاصفة فنسفته وذهبت به، فلا يجد الكافرون من أعمالهم الخيرة شيئًا ينفعهم عند الله يوم القيامة؛ لأنهم كانوا يشركون فيها معه الآلهة والأوثان، فهي على غير هدى بل هي على جور وضلال.

والمثل هنا إنما هو للأعمال، ولكن الله تعالى قال: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ) حيث قدم الاسم على الخبر؛ (لأن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف، ثم تأتي بالخبر الذي تخبر عنه مع صاحبه، والمعنى مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد).

قال ابن كثير: (هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره وكذبوا رسله وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها).

وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (فشبه تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف، فشبه سبحانه أعمالهم ـ في حبوطها وذهابها باطلاً كالهباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان وكونها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره ـ برماد طيرته الريح العاصف فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه، فلذلك قال: (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرًا من ثواب ولا فائدة نافعة، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه موافقًا لشرعه … وفي تشبيهه بالرماد سر بديع؛ وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طعمة للنار وبها تسعر النار على أصحابها، وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذاباً، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا وروحًا، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار).

مثل إنفاق المشركين بالزرع الذي أصابته الريح فأهلكته

جـ – وضرب الله مثلاً لنفقة الكفار وعدم قبولها بالزرع الذي أصابته ريح شديدة تحمل ناراً ملتهبة فلم تبق منه شيئًا، قال تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

شبه الله سبحانه ما ينفق الكافر ويتصدق به على وجه القربة إلى الله وهو مشرك بالله وجاحد به ومكذب لرسله وأن ذلك غير نافعه وأنه مضمحل عند حاجته إليه ذاهب بعد ما كان يرجو نفعه، كشبه ريح فيها برد شديد وتحمل النار فأصابت زرع قوم أملوا إدراكه ورجوا ريعه لكنهم كفرة، فأهلكت الريح التي فيها الصر الزرع ولم ينتفع بشيء منه، وكذلك يفعل الله بنفقة الكافر وصدقته ويبطل ثوابها، والمراد بالمثل صنيع الله بالنفقة.

قال الطبري: (فتأويل الكلام مثل إبطال أجر ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر، وإنما جاز ترك ذكر إبطال الله أجر ذلك لدلالة الكلام عليه وهو قوله تعالى: (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)، ولمعرفة السامع ذلك معناه).

وقد رأى بعض العلماء أن هذا المثل مضروب لأعمال الكفار كلها ليس للنفقة فحسب، وإنما خص النفقة بالذكر لكونها أظهر وأكثر.

قال ابن القيم: (وهذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق في غير طاعته ومرضاته، فشبه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكاره والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر ولا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريح شديدة البرد جدًا يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته).

المصدر

كتاب: “الشرك في القديم والحديث” أبو بكر محمد زكريا، ص1381-1387.

اقرأ أيضا

تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك (1)

تنوع دلالات القرآن على قبح الشرك (2)

التعليقات غير متاحة