النفاق أشد وأخطر من الكفر، وأهله في الدرك الأسفل من النار؛ لعموم الابتلاء بهم، وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته، وهم أشد أعدائه.

النفاق الأكبر (النفاق الاعتقادي)

يقول ابن رجب رحمه الله: (النفاق الأكبر وهو: أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه) 1(1) جامع العلوم والحكم ص 430، ط. دار المعرفة..

وأساس النفاق الذي بني عليه: أن المنافق لا بد أن تختلف سريرته وعلانيته، وظاهره وباطنه، ولهذا يصفهم الله في كتابه بالكذب، کما يصف المؤمنين بالصدق، قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة:10]، وقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ [المنافقون: 1]، وأمثال هذا كثير).

إن أخص وأهم ما يميز به المنافقين الاختلاف بين الظاهر والباطن، وبين الدعوى والحقيقة، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8]، قال الإمام الطبري: (أجمع جميع أهل التأويل على أن هذه الآيات نزلت في قوم من أهل النفاق، وأن هذه الصفة صفتهم) 2(2) تفسير الطبري 1/268..

وقد يطلق بعض الفقهاء لفظ الزنديق على المنافق، قال شیخ الإسلام رحمه الله: (ولما كثرت الأعاجم في المسلمين تكلموا بلفظ (الزنديق) وشاعت في لسان الفقهاء، وتكلم الناس في الزنديق: هل تقبل توبته؟ والمقصود هنا أن (الزنديق) في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أأبطن دينا من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم، أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة…) 3(3) الإيمان الأوسط ص13..  وصاحبه مخلد في الدرك الأسفل من النار، لخروجه من الملة بإبطانه الكفر وإظهاره الإسلام.

ويمكن اختصار تعريفه بما ذكره الحافظ ابن رجب، حيث قال رحمه الله: (النفاق الأكبر هو: أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار)4(4) جامع العلوم والحكم ص 431..

ذكر بعض الصور للنفاق الأكبر

أولا: النفاق الاعتقادي

ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض هذه الصور، فقال: (فمن النفاق ما هو أكبر، يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار، کنفاق عبد الله بن أبي وغيره، بأن يظهر تکذیب الرسول أو جحود بعض ما جاء به أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه، ونحو ذلك: مما لا يكون صاحبه إلا عدوا لله ورسوله، وهذا القدر كان موجودا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه على عهده) 5(5) مجموع الفتاوی28/ 434..

ونقل هذه الأنواع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال: (… فأما النفاق الاعتقادي فهو ستة أنواع: تکذیب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار)6(6) مجموعة التوحيد ص 7..

ويعلق الدكتور محمد الوهيبي على هذين النقلين، فيقول: فيتحصل مما ذكره هذان الإمامان بعد دمج الأنواع المتشابهة أو المتقاربة خمس صفات أو أنواع هي:

1- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تكذيب بعض ما جاء به.

2- بغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو بغض ما جاء به.

3- المسرة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الكراهية بانتصار دین الرسول صلى الله عليه وسلم .

4- عدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر.

5- عدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر.

وبالنظر إلى الآيات التي ذكرت أحوال المنافقين، وكلام المفسرین حولها، يمكن أن يضاف إلى هذه الصفات صفات أخرى، وهي:

6- أذى الرسول صلى الله عليه وسلم أو عيبه ولمزه.

7- مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين.

8- الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

9- التولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

فالوقوع في أي صفة من هذه الصفات يخرج من الملة)7(7) عن مقال (النفاق حقيقته – أنواعه) مجلة البيان، العدد 82..

وما أكثر ما نلاحظ بعض هذه الصفات في منافقي زماننا اليوم من الرافضة وبعض الساسة والإعلاميين، ممن يسمون أنفسهم بالليبراليين والعلمانيين، حيث الإعراض والتولي عن حكم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومظاهرة الكافرين على المؤمنين، والمسرة بهزيمة الإسلام وأهله، والكراهة لانتصار دین الرسول صلى الله عليه وسلم وحزبه الموحدین .

وعن هذه الصورة من النفاق عند منافقي زماننا يقول الدكتور عبد العزیز کامل حفظه الله تعالى:

(لا نستطيع أن نرجع ذلك السلوك المعادي للدين وأهله عند مؤسسات النفاق المعاصر وكياناته وأدواته المعبرة عنه في الصحافة والإعلام والفكر العلمانيين إلا لسبب واحد هو: (كراهية ما أنزل الله)؛ ذلك السبب الذي تتفرع عنه أسباب أخرى كالاستكبار، وتقديم الهوى، وإيثار الدنيا، وسوء الظن، وفساد الطوية؛ فكراهية ما أنزل الله خلق دائم للكافرين، وتبعهم فيه المنافقون بدرجات تتفاوت بحسب دركات النفاق عندهم.

فعندما تمرض القلوب بالشهوات أو الشبهات أو بهما معا، تفسد تلك القلوب، وينتج عن فسادها انحراف في الفطرة، وانكفاف في البصيرة، فيصبح المرء محبا لما أبغض الله، ومبغضا لما أحب الله، وقد يبلغ هذا البغض والكره حدا من الغلو يصل بالمرء إلى أن يكره كل داع إلى الله وكل دعوة إلى سبيل الله ؛ بل يكره أن يذكر أمامه شيء يذكره بالله ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [ الزمر: 45]، فلا عجب ممن هذه أحوالهم أن نرى البغضاء قد طفحت من قلوبهم على ألسنتهم، لتعبر عن مدى كراهيتهم لدين الله وشرعه والمتمسكين به والمنافحين عنه والمضحين في سبيله، ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [ آل عمران: 118].

يكفيك أن تطالع الأعمدة اليومية والأسبوعية لكثير من أعمدة النفاق، لترى مصداق ذلك من أقوام جل همهم فيما يتقيئون على أوراق الصحف والمجلات أن يحزن الذين آمنوا وألا ينقلب المؤمنون بأهليهم إلى سلامة أبدا، وألا يمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم أو يبدلهم من بعد خوفهم أمنا… صحيح أن كراهية ما أنزل الله عمل قلبي، ولكن آثاره تنعكس على المواقف في صور شتی، مثل تلك السياسات الثابتة في الصد عن سبيل الله، و محاربة أولياء الله، والطعن في شريعة الله، أو السماح بذلك عن طريق إفساح المجال لكل مستهزئ بشعائر الله، متهكم على حدود الله، ساع في أذى المؤمنين بأنواع الأذى؛ إنها صور شتی تعكس آثار الكراهية الواضحة لما أنزل الله )8(8) عن مقال (رايات النفاق والحرب المعلنة على الإسلام)، مجلة البيان، العدد (173) (باختصار)..

ثانيا: النفاق السياسي

إن مما يلحق بالنفاق الأكبر ما يسمى اليوم في عالم السياسة “بالنفاق السياسي” أو النفاق الدولي، وهذا النوع من النفاق يصدر من فئتين من الدول:

الفئة الأولى: دول الكفر والطغيان، وعلى رأسها أمريكا ودول الغرب الذين زادوا على كفرهم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. انغماسهم في حمأة النفاق والدجل والخداع والمواقف المتناقضة حتى افتضحوا – والحمد لله – بين الناس، وتعرى نفاقهم للمسلمين، وعرف القاصي والداني أن الباعث لهم في مواقفهم كرههم للإسلام، ومصالحهم التي يستميتون في تحقيقها، ولو على حساب احتلال البلدان وتدميرها وسفك دماء أهلها، ثم تدعي في الوقت نفسه أنها تحارب الإرهاب، وتسعى لنشر الحرية والسلام والأمن في هذه الدول المعتدي عليها!! فأي نفاق ودجل أكبر من هذا النفاق والدجل.

يقول الدكتور عبد العزيز كامل حفظه الله تعالى:

(والجدل الدائر حول التساؤل عن طبيعة الحرب الأمريكية، وهل هي ضد الإرهاب أم ضد الإسلام؛ إنما هو في حقيقته مجرد جدل (بيزنطي)، سبق أن أثير مرات عديدة كليا حورب الإسلام وأهله، تحت أي ذريعة من الذرائع. وإلا فأين هي أمريكا وحلفاؤها من محاربة الإرهاب اليهودي في فلسطين، ومحاربة الإرهاب الهندوسي في كشمير، والإرهاب الروسي في الشيشان، والإرهاب النصراني في الفلبين وإندونيسيا وغيرها من بلدان المسلمين؟! ثم …. أين هو الإرهاب عند الجماعات التي عدتها أمريكا إرهابية، وهي تدافع دفاعا مشروعا عن حقوقها الإنسانية والدينية في فلسطين ولبنان، وكشمير والشيشان والفلبين؟ إن حرب أمريكا المعلنة على الإسلام قد شملت كل طائفة مسلمة مضطهدة، تنافح عن دينها وأرضها وعرضها في مشارق الأرض ومغاربها، وشملت كل مظهر من مظاهر التمسك بما تبقى من عرى الإسلام في الحكم والتحاكم، والشعائر والشرائع، والإعلام والتعليم، فهي حرب “المواجهة الشاملة”)9(9) عن مقال (رايات النفاق والحرب المعلنة على الإسلام) مجلة البيان. العدد (173)..

والحقيقة التي يشهد لها التاريخ أن السياسة الأمريكية لا تعترف بمبدأ ولا تشريع کما تدعيه وتروجه، وليس ثمة إلا مصلحة أمريكا، بل مصلحة أصحاب الأموال فيها، لا سلام ولا عدالة ولا حقوق إنسان ولا عهود دولية. إنها مجرد واجهات تحتكرها الآلة السياسية الأمريكية وتركبها للتمكين للديانة الجديدة، فالسياسات المعلنة شيء وما تخفيه وتخطط له شيء آخر، ويمكن تسميتها بسياسة ذي وجهين التي نفيها إثبات وإثباتها نفي. وهي سياسة الكيل بمكيالين التي تظهر ما لا تبطن.

الفئة الثانية: كثير من الدول التي تنتسب إلى الإسلام وتنافق مع شعوبها المسلمة، وتظهر لهم حبها للإسلام ومقدساته، وتخادعهم بإظهار العناية بالمواسم الإسلامية: كالاحتفال بعيد المولد وليلة النصف من شعبان والهجرة والإسراء والمعراج، وتظهر عداءها لليهود أو الغرب والشرق، وهم في الباطن عملاء للشرق أو الغرب، قد والوهم من دون المسلمين، ونبذوا شريعة الله عز وجل وراءهم ظهرا، وحكموا في أديان الناس وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم بحكم الطاغوت والقانون، الذي يستحلون فيه ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله عز وجل، ولقد انخدع بهم كثير من الناس، ردحا من الزمن، ولكن ها هم اليوم يتعرون ويفتضحون، وتظهر خباياهم وفساد طوياتهم ونفاقهم للناس بعد هذه النوازل والابتلاءات التي تمر بها أمة الإسلام.

ونفاق الحاكم لرعيته ينعكس في العادة على نفاق المحكوم لحاكمه، فكما تدين تدان.

وعلى سبيل المثال لهذه الدول لا الحصر: دول الرفض الباطنية کدول إيران المجوسية، وسوريا النصيرية القرمطية، فلقد قدر الله عز وجل الأحداث الأخيرة في سوريا والعراق، ليفضحهم ويبين نفاقهم وكذبهم للناس، الذين كانوا مخدوعين بهم وبما يظهرونه من دفاعهم عن الإسلام، وزعمهم أن عداءهم وحربهم على اليهود والأمريكان، وتسميتهم أنفسهم بدول الممانعة، وأبى الله إلا أن يفضحهم، ويخرج نفاقهم، وفي ذلك خير عظيم ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ [محمد: 29].

ثالثا: النفاق الوطني

وهذا النوع من النفاق ينتشر بين شريحة كبيرة من الليبراليين والنفعيين أصحاب الشهوات والأهواء، الذين يتشدقون بحب الوطن ومصالح الوطن، وهم في الحقيقة أعداؤه بما يسعون به من إفساد دين الوطن ونشر الفساد وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وإفساد أعراضهم وأمن نفوسهم وعقولهم وأموالهم، قال الله عز وجل في وصفهم: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [ النساء: 27]، وقال أيضا عنهم: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾  [ البقرة: 221]، ووصفهم الله تعالى بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ﴾ [ البقرة: 11 – 12].

الهوامش

(1) جامع العلوم والحكم ص 430، ط. دار المعرفة.

(2) تفسير الطبري 1/268.

(3) الإيمان الأوسط ص13.

(4) جامع العلوم والحكم ص 431.

(5) مجموع الفتاوی28/ 434.

(6) مجموعة التوحيد ص 7.

(7) عن مقال (النفاق حقيقته – أنواعه) مجلة البيان، العدد 82.

(8) عن مقال (رايات النفاق والحرب المعلنة على الإسلام)، مجلة البيان، العدد (173) (باختصار).

(9) عن مقال (رايات النفاق والحرب المعلنة على الإسلام) مجلة البيان. العدد (173).

اقرأ أيضا

مصطلحات وتعريفات “النفاق”

خطر النفاق .. حقيقة أم خيال؟

النفاق المعاصر .. بين التعدي على أمهات المؤمنين ومدح أمهات الصهاينة

التعليقات غير متاحة