للأخلاق مكانتها في النظام الإسلامي، ولها تفصيلاتها ونظامها؛ ولكن مكانتها وتفصيلاتها مبنية على الإجابات العقدية للإسلام على الأسئلة المحورية الأولى عن مكانة الإنسان في الحياة.

الفطرة تعْرف الأخلاق

الشعور الخُلقي في الإنسان، شعور فطري، فطَره عليه الخالق تعالى، فيحمله على حب بعض صفات الإنسان وكراهة أخرى. وهو، وإن كان متفاوتا وعلى أقدار متنوعة في مختلف أفراد البشر؛ إلا أن الشعور العام ـ بقطع النظر عن الأفراد ـ لا يزال يحكم على بعض السجايا الخلقية بالحسن وعلى بعضها بالقبح في كل زمان..

فالصدق والأمانة والعدالة والوفاء بالعهد مثلا.. كل ذلك مما عدته الإنسانية من الصفات الخُلقية الجديرة بالثناء والمدح في كل دور من الأدوار. ولم يأت على الإنسانية حين من الدهر استحسنت فيه الكذب والظلم والغدر والخيانة. وهكذا أمْر المواساة والتراحم والسخاء وسعة الصدر والتسامح.

فإن كل ذلك مما لم تنظر إليه الإنسانية إلا بنظر التقدير والإجلال في كل زمن من الأزمان.. بخلاف الأثَرة وقساوة القلب والبخل وضيق النظر؛ فإن الإنسانية ما عدتها قط في شيء مما يستحق التوقير والإكرام. ثم إن الإنسانية ما زالت تكرم الصبر والأناة والثبات والحلم وعلوّ الهمة والبسالة وتنظر إليها بعين الإجلال، كما لم تزل تحتقر وتزدري الجزع وقلة الأناة والتلون وخور العزيمة والجبن. وكذلك لم تبرح الإنسانية تعُدّ ضبط النفس والأنَفة وحسن الخلق والمؤانسة من مكارم الأخلاق ومحاسنها..

أما اتباع الهوى والنذالة وقلة الأدب وسوء الخلق، فلم يكن لها مكان في ما تعُدّه الإنسانية من مكارم الأخلاق وكذلك لم تزل الإنسانية تجلّ قدر أداء الواجب وحفظ العهد والنشاط في العمل والشعور بالتبَعة، كما أنها لم تنظر قط بعين الاستحسان إلى الذين لا يقومون بواجباتهم ولا يوفون بعهودهم ومواعيدهم ولا يَنْشطون للعمل والجد ولا يأبهون لما يترتب عليه من التبعات .

هذه الصفات كلها شخصية فردية؛ أما الشؤون الاجتماعية وحسناتها وسيئاتها وصفاتها الحميدة والذميمة، فما فتئت تنظر إليها الإنسانية بعين واحدة وتزِنها بمیزان واحد.

فما عرف مجتمع من بين المجتمعات البشرية مستحقا للإجلال والتوقير إلا المجتمع الذي يتمتع بحسن الإدارة وجودة النظام ويرفرف عليه لواء التعاون والتكافل والتحاب والمناصحة والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس. ولم تنظر البشرية قط بعين الاعجاب والتوقير إلى مجتمع خيمت عليه عناكب التشتت والتفرق والفوضى واضطراب الأحوال، وأحاط به من كل جانب التباغض والتنافر والتحاسد والجور والتفاضل بين أفراد البشر.

وكذلك أمر السجايا والطباع؛ خيرها وشرها، لا يزال على ما كان عليه في كل الأزمان السالفة. فما نظرَت الإنسانية إلى أعمال السرقة والزنا والقتل والتلصص والتزوير والارتشاء والبذاءة وإيذاء الناس والغيبة والنميمة والحسد والقذف والإفساد في الأرض بنظر التقديس والتمجيد. كما نظرَت إلى بر الوالدين والإحسان إلى ذوي القربى وإکرام الجيران ومناصرة الأصدقاء على الحق والإشراف على حاجات اليتامى والمساكين وعيادة المرضى ومساعدة البؤساء وإعانة المنكوبين. وكذلك ما أنزلَت الختال والأشَر والمرائي والمنافق واللجوج والشره منزلة الإجلال والاحترام. كما أنزلت عفيف المئزر فکِه القول لين العريكة الناصح الأمين.

وجملة القول أن الإنسانية ما اعتبرت قوامها وما عدّت خير أهل الأرض وأكرمهم إلا الصادقين في أقوالهم؛ الذين يوثق بهم ويعتمَد عليهم في كل شأن، والذين ظاهرهم وباطنهم سواء وأعمالهم تطابق أقوالهم. والذين يَقنعون بحظوظهم وحقوقهم ويتسابقون إلى أداء ما عليهم من الحقوق والواجبات لغيرهم. والذين يعيشون عيشة الأمن والدعة ويأمن غيرهم شرهم ولا يرجى منهم إلا الرشد والخير .

فتبين من ذلك أن القواعد الخُلقية هي حقائق ثابتة عالمية ما زال جميع البشر على معرفة بها؛ فليس الخير والشر مما يَخفى على أحد حتى يكون بحاجة إلى البحث عنه إذا أراد معرفته والوقوف عليه؛ بل إنهما مما عهِده ابن آدم أول مرة. وقد وهب الله له الشعور بهما وأودعه جبلّته التي فطره عليها؛ ومن ثَم ترى أن القرآن يسمي الخير بـ “بالمعروف” والشر بـ “بالمنكر”. ومراده بذلك أن المعروف ما عرفه الناس ورغبوا فيه واستأنسوا به، وأن المنكر ما أنكره الناس واشمأزوا منه واستنکفوا عنه؛ وفي هذا المعنى نفسه ورد في التنزيل ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [سورة الشمس: 8]، أي النفس الإنسانية .

أسباب اختلاف الأمم في موقفها من الأخلاق

وربما يسائل القاريء في هذا المقام فيقول: إذا لم تزَل محاسن الأخلاق ومساوئها معروفة في العالم، ولم يزل أهل هذه المعمورة منذ عمروها على رأي واحد في حُسن بعض الصفات وقبح بعضها؛ فلِم هذه النُظم الخلقية المختلفة المثبتة في العالم..؟ وأي شيء سبّب الفرق بينها ومیّز بعضها من بعض..؟ وما الذي نستند إليه في قولنا إن الإسلام له نظام خلقي خاص..؟ ثم ما هي المزايا والخصائص التي يمتاز بها نظام الإسلام الخلقي من بين النظم الأخرى والتي كانت ـ ولا تزال ـ غُرة في تاريخ المناهج الخلقية ودُّرة في تاجها..؟

فإذا تعرضنا للنظم الخلقية المختلف في العالم لإدراك هذه المسأله يتراءى لنا في أول وهلة أنها تفترق فيما بينها في إدماج مختلف الصفات الخُلقية في نظامها الشامل وتعیین حدودها ومكانتها ومواضع استعمالها والتوفيق بينها. ثم إذا دققنا النظر فيها وسبَرنا غورها تبين لنا سبب هذا الفرق؛ وهو أن هذه النُظم تختلف في تحديد معيار للحسن والقبح في الأخلاق. (1نشير هنا أيضا الى مفهوم  السلف للتحسين والتقبيح العقلي فهو يحترم فطرة الإنسان وعقله، ويحترم التلقي عن الخالق سبحانه. وهو مفهوم وسَط بين “المعتزلة” التي ترى استقلالية العقل بالتحسين والتقبيح، وبين “الأشاعرة” التي تنفي دور العقل في التحسين والتقبيح وانما يعرف ذلك عندهم بالسمع فقط؛ فمفهوم السلف أن للأشياء حسن وقبح في ذاتها، وأن الشرع مؤكد لذلك، وأن هناك حسن وقبح مستمد من طاعة الشرع ومخالفته) ووسيلة للعلم يعرف بها الخير من الشر. كما لا تتفق في تقرير القوة المنفذة (Sanction ) التي تعمل عملها وراء القانون وتجعله نافذا في الناس، وتعيين الوازع الذي يحمل المرء على اتباع القانون والمواظبة عليه.

ثم إذا بحثنا عن أسباب هذا الاختلاف وأعملنا فيها الفكر والرويّة، ظهرت لنا الحقيقة واضحة وهي أن الذي بدَّد طرق هذه النظم الخلقية جمعاء وأبعد بعضها عن بعض، أنها تختلف في التصور لهذا الكون ومنزلتها في نظامه الواسع وغاية الحياة الإنسانية فيه. وهذا الاختلاف هو الذي أثَّر فيها أثره، وتولد عنه الاختلاف الأساسي حتى في حقيقتها وطباعها وأوضاعها.

إن المسائل التي يقوم عليها أساس الحياة البشرية وتعيين اتجاهاتها في هذه الحياة الدنيا هي أنه: هل هناك إله لهذا الكون أم لا..؟ فإذا كان؛ فهل هو إله واحد أم معه آلهة أخرى..؟ ومَن هو الإله الذي نؤمن به من بينها..؟ وما هي صفاته التي يتصف بها..؟ وما هي العلاقة بيننا وبينه..؟ وهل تفضل بإرشادنا ودبَّر أمر هدايتنا أم لا..؟ وهل نحن مسؤولون بين يديه..؟ فإن كنا كذلك فما الذي نحاسَب عليه..؟ ثم ما هي غاية حياتنا ومآل أمرها الذي نجعله نصب أعيننا ونعمل وفق مقتضياته في هذه الحياة الدنيا..؟

فهذه مسائل أساسية خطيرة يتوقف على جوانبها نشأة نظام الحياة الإنسانية. فلا ينشأ إذن نظام الأخلاق إلا وفق ما يناسب حقيقة هذا الجواب، ويتعذر عليّ في هذه المحاضرة الضيقة النطاق أن أفصّل القول في نُظم الحياة المختلفة في العالم؛ فأُخبركم بما اختاره كل واحد منها جوابا عن هذه المسائل الأساسية. ثم ماذا أحدث هذا الجواب من الأثر والسِمة في أشكالها وتعيين الطرق لسيرها.. بَيْد أني أقتصر على الإسلام من بينها وأتصدى لما اختاره جوابا عن هذه المسائل وإيضاح ما جاء من نظام مخصوص للأخلاق على أساس هذا الجواب وطبق مقتضياته .

جواب الإسلام وقواعده

والإسلام يقول جوابا عن هذه المسائل؛ إن لهذا الكون إلها، وإنه ما من إله إلا الله؛ فهو الذي خلق هذا الكون وأوجد كل ما فيه. وهو المتصرف في أمره لا شريك له في ذلك. وله الأمر والنهي وهو رب السموات والأرض ومن فيهن. وهذا النظام الكوني الذي نراه سائرا بانتظام وثبات لا يسير إلا مذعنا لأمره ومشيئته؛ وهو الحكيم القدير عالم الغيب والشهادة الذي لا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، الملك القدوس الذي يَجري أمرُه في هذا الكون بقدر معلوم لا يتطرق إليه وهن ولا خلل.

فالإنسان عبْد الله بخليقته وجبلته ولا وظيفة له في الدنيا إلا أن يعبده وينقاد لأمره، ولا معنى لحياته إلا أن تكون بأجمعها عبودية لله خالصة. وليس من وظيفة الإنسان أن يعيّن من تلقاء نفسه منهاجا لعبوديته، بل إنما ذلك على الله الذي خلقه وجعله عبدا من عباده؛ فقد أرسل الله تبارك وتعالى إليه الرسل وأنزل معهم الكتاب لهدايته وإرشاده إلى طريق الخير والسعادة؛ فواجب عليه أن لا يقتبس نظام حياته إلا من تلك المشكاة المضيئة النيرة.

ثم إن الإنسان مسؤول أمام ربه عما کسب واكتسب في حياته الدنيا، ومحاسَبٌ بين يديه في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا. وما هذه الحياة الدنيا إلا بلاء له من ربه ليختبره.

فالإنسان ينبغي له أن لا يضع لحياته غاية يطمح إليها ببصره ويسعى وراء تحقيقها إلا أن يكون من الفائزين في الدار الآخرة عند ربه. والإنسان داخل في هذا الامتحان بجميع قواه؛ فإن فيه ابتلاءً لجميع قواه ومواهبه وامتحانا لحياته من جميع نواحيها؛ فهو يُختبَر في جميع ما يحاوله ویزاوله من الأشياء في هذه الدنيا اختبارا خالصا لا يشوبه شيء من أدران هذا العالم .

أضف إلى ذلك أن هذا الاختبار يقوم به الذي عنده علم الكتاب والذي لا يقف علمه ومعرفته عندما سجله عن أعمال الإنسان وحركاته في جميع أجزاء هذا الكون من الأرض والهواء والماء وأجواء الفضاء وفي قلب الإنسان وذهنه ويده ورجل؛ بل يحيط علمه بكل ما يخطر في نفس الإنسان من الهواجس والارادات ولا يعزب عنه منها شيء.

أساس متين

بناءً على هذه القواعد التي يجيب بها الإسلام على الأسئلة الكبرى والمحورية والبدهية في حياة الإنسان؛ يضع نظامه الخُلقي وتفصيلات مواقفه الأخلاقية، ومكانة الأخلاق من نظامه الاجتماعي والسياسي.

وأي تعرّف على النظام الأخلاقي للإسلام أو تحديد مكانة هذه الأخلاق في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الإسلامي بدون معرفة هذه القواعد وتحديدها سيكون قليل الفائدة؛ حيث يتعرف على تفاريق أخلاق ويوافق ويعترض على مكانة الأخلاق ويتولد جدال لا نهاية له ولا فائدة منه. إنما الشأن أن تتعرف على إجابات الإسلام العقدية لتعرف تفصيلات أخلاقه ونظامه.

………………………

هوامش:

  1. نشير هنا أيضا الى مفهوم  السلف للتحسين والتقبيح العقلي فهو يحترم فطرة الإنسان وعقله، ويحترم التلقي عن الخالق سبحانه. وهو مفهوم وسَط بين “المعتزلة” التي ترى استقلالية العقل بالتحسين والتقبيح، وبين “الأشاعرة” التي تنفي دور العقل في التحسين والتقبيح وانما يعرف ذلك عندهم بالسمع فقط؛ فمفهوم السلف أن للأشياء حسن وقبح في ذاتها، وأن الشرع مؤكد لذلك، وأن هناك حسن وقبح مستمد من طاعة الشرع ومخالفته.

المصدر:

  • الأستاذ أبو الأعلى المودودي، كتاب: نظام الحياة في الإسلام، ص5-12.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة