من رأت عينه القذاة في عمل المجاهد ولم ير جرائم الكفار وطوامّهم وكفرهم وإفسادهم فمنهجه مخالف لكتاب الله الذي يوازن بين الأمرين.

مقدمة

اتضح في (الجزء الأول) الآية الكريمة التي عالجت موقفا وقع فيه بعض الصحابة، معالجةً هي قاعدة لما يحدث بعد هذا من الأخطاء البشرية الوارد وقوعها، بل الغالب أن تحدث بحكم البشرية وبحكم الحاجة الى سرعة اتخذ القرار، بل وقد يتسبب فيها أيضا التباس المعلومات وقصور بعضها أحيانا وتقدير مآلات القرارات.. وعلى كلٍ فللقرآن منهج يجب التزامه، كما أن ثمة مآلات يُخشى منها في حال المعالجة الخاطئة للأمور، وهذا ما يتضح هنا إن شاء الله.

منهج القرآن في التعامل مع أخطاء المجاهدين

نخلص من سبب نزول الآية والتوجيه الرباني فيها إلى الموقف السليم في التعامل مع أخطاء المجاهدين المجتهدين والمتمثل فينا يلي:

أولاً : عدم ادعاء العصمة للمجاهدين

بل هم بشر يخطئون ويصيبون، والخطأ لا يدافَع عنه؛ بل يقال إنه خطأ ومخالفة.

وهذا ما ذكره الله عز وجل في الآية المذكورة، وذلك بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ﴾ فذكر سبحانه أن قتال المجاهدين في الشهر الحرام خطأ كبير، ولكن هذا الخطأ لا يهدر به جهاد المجاهدين وبلاؤهم الحسن ومقصدهم الحسن في جهادهم وهو ابتغاء مغفرة الله ورحمته بل يوضع في حجمه الطبيعي.

ولذلك ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل طيّب قلوب هؤلاء المجاهدين المخطئين بعد ذلك بقوله سبحانه بعد ذلك في نفس السياق ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

وهكذا يكون التعامل مع أخطاء المجاهدين، بحيث ينكَر عليهم خطؤهم، ولا يقَرّون عليه، وفي نفس الوقت لا يُنسى لهم بلاؤهم وجهادهم وتنكيلهم في عدوهم وهجرهم لأهلهم وأوطانهم.

وهذا ما يتضح بجلاء في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أخطاء بعض الصحابة رضي الله عنهم أثناء جهادهم في سبيل الله تعالى.

فهذا “أسامة بن زيد” رضي الله عنه، عندما قتل المشرك الذي شهد أن “لا إله إلا الله” بحجة أنه قالها متعوذاً وخوْفاً من السيف فعاتبه الرسول صلى الله عليه وسلم عتاباً شديداً، وأوقف أسامة على خطئه؛ ومع ذلك بقي هو “حِب رسول الله” وبقيت مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتغير؛ حتى أنه أمّره قبل وفاته على الجيش المعروف بـ “جيش أسامة” ومعه  أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما عنّفه النبي صلى الله عليه وسلم وتبرّأ من فعله؛ عند قتله لمن أظهر الإسلام من بني جذيمة، ولم يمنعه ذلك من إبقائه في قيادة العمليات الجهادية المتتالية في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

فهل بعد هذا الهَدْي النبوي في تعامله مع أخطاء المجاهدين من عذر لبعض الدعاة ـ هداهم الله ـ الذين ينسون جهاد المجاهدين وبلاءهم الحسن، ويسعون إلى إقصائه بمجرد أن يصدر منه خطأ ومخالفة شرعية في قوله أو فعله؛ إن هذا ليس من العدل.

محاسن المجاهدين لا تُنسى

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تعليقه على قصة عبدالله بن جحش وما نزل فيها من الآيات القرآنية:

“والمقصود: أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرّئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام؛ بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم من مجرد القتال في الشهر الحرام؛ فهم أحق بالذمّ والعيب والعقوبة؛ ولا سيما وأولياؤه كانوا متأوّلين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله وإيثار ما عند الله فهم كما قيل

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ         جاءت محاسنه بألف شفيع

فكيف يقاس ببغيضٍ عدوٍ جاء بكل قبيح ولم يأت بشفيع واحد من المحاسن”. (1زاد المعاد3/ 170)

وهنا أوصي إخواني المجاهدين بأن يتقوا الله عز وجل في جهادهم وأن يبذلوا الوسع في توقي الذنوب وما يسخط الله عز وجل؛ فإن الذنوب أخطر على المجاهدين من عدوهم وهي سبب الهزائم والخذلان ويكفينا تذكر ما حصل للمسلمين في غزوة أحد.

وإن من أخطر وأكبر الذنوب التي تهدم الجهاد وأهله: التنازع والتفرق المؤديان إلى الاستهانة بالدماء المعصومة والتعلق بأدنى شبهة لاستحلالها. فإذا كان الله عز وجل سمى قتل المشركين المحاربين في الشهر الحرام كبير ﴿قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ ولم يجامل فيه المجاهدين؛ فكيف يُقتل مسلم لأدنى شبهة..؟

إن مثل هذه المخالفات الكبيرة لهي من أسباب فشل المشرع الجهادي وهزيمته من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يصب في مصلحة الكافر المعتدي والمنافق المتربص حيث يفرحون بها ويشمتون بأهلها ويوظفونها أحسن توظيف في حربهم على الإسلام والمسلمين.

فاتقوا الله أيها المجاهدون في جهادكم وفي أمّتكم ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. [الأنفال:46]

ثانياً: الحذر من توظيف الكفرة

ومن المواقف المهمة المستوحاة من الآية الكريمة في الحديث عن أخطاء المجاهدين: الحذر الشديد من توظيف الكفرة والمنافقين الكلام عن أخطاء المجاهدين في الشماتة بهم وبالمسلمين وبالتنفير من الجهاد وأهله.

ولقطع الطريق على الكفرة والمنافقين من توظيف الحديث في صالحهم والتنفير من المسلمين والمجاهدين؛  نرى في الآية الكريمة أن الله سبحانه عندما ذكر بأن القتال في الشهر الحرام كبيرة؛ أتْبعه في نفس الآية وفي نفس الوقت بالتشنيع على الكفار وما يقومون به من العدوان والصدّ عن سبيل الله تعالى، مما هو في جُرمه وشناعته اكبر وأشد من خطأ المجاهدين.

ويوضح الله عز وجل ذلك في قوله تعالى: ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ..﴾ أي أن ما يقوم به الكفار من صد الناس عن سبيل الله وكفرهم بالله وإخراج المسلمين من المسجد الحرام والشرك بالله “أكبر عند الله من القتل”.

وبهذا يُقطع الطريق على الكفرة والمنافقين من أن تتم فرحتهم بأخطاء المجاهدين؛ بأن تُذكر فضائح الكفار وعدوانهم وصدهم عن سبيل الله عز وجل، وعندئذ لا يستطيعون استغلال الحديث في صالحهم ضد المسلمين.

فيا ليت إخواننا الدعاة الذين يتحدثون اليوم عن أخطاء المجاهدين ينهجون هذا المنهج الرباني فيصدّرون حديثهم ونقدهم لأخطاء المجاهدين بذكر ما هو أكبر من ذلك وأشنع، وذلك بما يقوم به اليوم الكفرة الغزاة وأولياؤهم المنافقون من قتلٍ وتشريدٍ وسجن وتجويع وحصار خانق على المسلمين وصدٍّ عن سبيل الله عز وجل، وقبل ذلك كفرهم بالله ومحادتهم للإسلام وأهله في بلاد العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين والصومال، وبلدان المسلمين بعامة، هذا هو المنهج القرآني المستوحَى من الآية الكريمة.

أما أن يُفرَد المجاهدون بالنقد ويُترك الكفرة المعتدون والمنافقون الخائنون لا تُذكر فضائحهم ولا يُذكر عدوانهم وإرهابهم وصدُّهم عن سبيل الله؛ فهو من جانب “منهج جائر” ينظر بعين واحدة ومن جانب آخر يسهّل الطريق على الكفرة الغزاة والمنافقين معهم في الشماتة بالمجاهدين وتوظيف ذلك في مصالحهم وأهدافهم وخططهم.

خاتمة

لا يستوي في ميزان الله تعالى ولا ميزان المؤمنين، ولا في واقع البشرية؛ من يريد الحياة عِوجا ويصدّ عن سبيل الله ويرفض دينه وشرائعه، ومؤمن يدفع عن دينه ونفسه وأمّته عدوانا لا يفتر من أعداء الله وأعداء الحياة وأعداء الخير.. فإن وقع في خطأ دفعت اليه عجلة أو سوء تقدير، فلا يُقدَّس الخطأ ولا يقبل ولا يُمرر بل يوضع في حجمه الطبيعي وسياقه الواقعي.

أسأل الله عز وجل ان ينصر المجاهدين في كل مكان، وأن يجنّبهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأن يؤلف بين قلوبهم، ويكبت عدوَّهم من الكفرة والمنافقين .. والحمد لله رب العالمين.

………………………………………..

هوامش:

  1. زاد المعاد3/ 170.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة