المجاهدون بشرٌ يخطئون ويصيبون، وأعداؤهم فجرة كفرة يأتوان بطوامّ؛ وعندما يقع المجاهد في خطأ وهو يدفع الكفار عن دينه وأمّته فللقرآن منهج في التعامل؛ إذ في الأمر سوابق.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد..

فإن الفتن العظيمة التي تموج اليوم في واقعنا المعاصر لتفرض على المسلم أن يكون حذراً يقظاً متأنّياً في أقواله وأفعاله ومواقفه، سائلاً ربه عز وجل الهداية للحق والثبات عليه.

ومن أسباب الهداية للحق البصيرة في الدين وتدبر كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاستضاءة بهما في خضم هذه الفتن التي تموج كموج البحر.

ومن هذه الفتن التي ظهرت في الآونة الأخيرة تلك المواقف المتباينة إزاء أخطاء بعض المجاهدين في الثغور ما بين مبرِّر لها ومدافعٍ عنها وكأنّه يدعي العصمة للمجاهدين، وما بين مواقف مستعجلة من بعض الدعاة إزاء هذه الأخطاء لم يراعوا فيها التثبّت أو لم يراعوا فيها مآلات أقوالهم وما يترتب عليها من المفاسد، ودون انتباهٍ لما يقوم به العدو المتربص، من كافر ومنافق، من توظيفٍ لأقوالهم هذه في تبرير ضربهم للمجاهدين أو الشماتة بهم.

ولذا يتعين على كل من أراد لنفسه السلامة من الزلل والسقوط في الفتن أن يترسّم القرآن الكريم ويتدبره ويجعله منطلق مواقفه كلها.

المقصود بوصف “المجاهدين”

أقصد بالمجاهدين هنا أولئك الذين قاموا بأداء فريضة العين وذلك بجهاد الدفع عن بلاد المسلمين التي غزاها الكفرة واحتلوها كما هو الحال في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين.

المخرج كتاب الله

ولقد وقفت في كتاب الله عز وجل على آيات كريمة عظيمة ترسم لنا المنهج الحق العدل في التعامل مع أخطاء المجاهدين ووضعها في حجمها الطبيعي دون أن يوظّفها العدو في صالحه وهذه الآيات هي قوله عز وجل:

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 217-218].

سبب النزول

وقبل أن نقف عند الدروس من هذه الآية وما فيها من منهج حاسم في التعامل مع أخطاء المجاهدين وأعداء المجاهدين يحسن بنا أن نقف على سبب نزول هذه الآيات كما جاءت في كتب التفسير.

قد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية “عبد الله بن جحش”، رضي الله عنه، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين، ليس فيهم أحد من الأنصار، ومعه كتاب مغلق وأمره ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين.

فلما فتحه وجد به: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة ـ بين مكة والطائف ـ ترصد لنا قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم، ولا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك» ـ وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى.

فلما نظر “عبدا لله بن جحش” في الكتاب قال: سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه قد أمرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منها بخبر، وقد نهى أن استكره أحداً منكم؛ فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع، فأنا ماض لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم؛ فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لـ “سعد بن أبي وقاص” و”عتبة بن غزوان”، رضي الله عنهما؛ فتخلفا عن رهط “عبد الله بن جحش” ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون.

حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرّت عير لقريش تحمل تجارة، فيها “عمرو بن الحضرمي” وثلاثة آخرون، فقتلت السرية “عمْراً ابن الحضرميّ” وأسرت اثنين وفرّ الرابع وغنمت العير، وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة؛ فإذا هي في اليوم الأول من رجب ـ وقد دخلت الأشهر الحرم ـ التي تعظمها العرب. وقد عظمها الإسلام وأقرّ حرمتها.

فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام». فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً.

فلما قال ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سقط في أيدي القوم، وظنّوا أنهم قد هلكوا؛ وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا وقالت قريش: قد أستحل محمد وأصحابه الشهر الحرام،وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال”. (1انظر كتب التفسير عن هذه الآية)

أقوال المفسرين

وننقل تفسير المفسرين لفهم الآية كما فهمها الأولون على وجهٍ مستقيم.

أولا: تفسير السعدي

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش، وقتْلهم عمرو بن الحضرمي، وأخذهم أموالهم وكان ذلك ـ على ما قيل في شهر رجب ـ عيّرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم، وكانوا في تعييرهم ظالمين إذ فيهم من القبائح، ما بعضُه أعظم مما عيروا به المسلمين؛ قال تعالى في بيان ما فيهم” ﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ﴾ أي: صدُّ المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله، وفتنتهم من آمن به، وسعْيهم في ردهم عن دينهم، وكفْرهم الحاصل في الشهر الحرام، والبلد الحرام، الذي هو بمجرده، كاف ٍفي الشر؛ فكيف، وقد كان في شهر حرام وبلد حرام..؟!!

﴿وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ﴾ أي: “أهل المسجد الحرام”، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأنهم أحق به من المشركين، وهم عُمّاره على الحقيقة، فأخرجوهم ﴿منه﴾ ولم يمكّنوهم من الوصول إليه، مع أن هذا البيت، سواء العاكف والباد .

فهذه الأمور كل واحد منها: ﴿أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ في الشهر الحرام، فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة في تعييرهم المؤمنين.

ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم، ويكونوا كفاراً بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير”. (2تفسير السعدي)

ثانيا: تفسير الظلال

ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً:

“نزلت هذه النصوص القرآنية فقطعت كل قول وفصلت في الموقف بالحق فقبض الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأسيرين والغنيمة.

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾.

نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام، وتقرر أن القتال فيه كبيرة، نعم ! ولكن:

﴿وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾

إن المسلمين لم يبدأوا القتال، ولم يبدأوا العدوان؛ إنما هم المشركون هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله  والكفر به وبالمسجد الحرام.

لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله، ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون، ولقد كفروا بالمسجد الحرام. انتهكوا حرمته؛ فآذوا المسلمين “فيه” وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاماً قبل الهجرة. وأخرجوا أهله منه؛ وهو الحرم الذي جعله آمناً؛ فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته”.

“وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل. وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام. ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات ؛ الذين يتخذون منها ستاراً حين يريدون، وينتهكون قداستها حين يريدون !وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم، لأنهم عادون باغون أشرار، لا يراقبون حرمة ، ولا يتحرجون أمام قداسة . وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من المحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة !

لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل، وكان التلويح بحُرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه موقف الجماعة المسلمة، وإظهارها بمظهر المعتدي.. وهم المعتدون ابتداء، وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء.

هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون، لا يقيمون للمقدّسات وزْناً، ولا يتحرجون أمام الحُرمات، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خُلق ودين وعقيدة؛ يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام !

ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام، ويقيمون الدنيا ويُقعدونها باسم المحرَّمات والمقدَّسات، ويرفعون أصواتهم: انظروا ها هو ذا “محمد” ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام!”. (3في ظلال القرآن)

خاتمة

لم يقع حادث إلا بقدَر وحكمة، وقد كان خطأ هؤلاء الصحابة الكرام خيرا نافعا للأمة من بعدهم في وضوح التعامل مع حوادث يقتضيها الواقع وتقتضيها بشرية المجاهد وتتسبب فيها أحيانا سرعة اتخاذ القرار.

والقرآن كان يقابل هذه البشرية وهذه الأخطاء بمعالجة لتكون منهجا عاما لمن بعدهم من إخوانهم الى يوم القيامة، ولما تقرر معنى الآية الكريمة ووضح سبيلها ومعناها فعلى هذا نستخلص قواعد التعامل مع هذه الأخطاء من خلال ما سبق، وهو ما يتضح في الجزء الثاني إن شاء الله.

…………………………………………………..

هوامش:

  1. انظر كتب التفسير عن هذه الآية.
  2. تفسير السعدي.
  3. في ظلال القرآن.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة