قد ينسى البعض حينا أن أخاه بضعة منه وجزء من نفس النسيج الإنساني، له دوافعه وضعفه وأمله ورجاؤه، ولو تبدلت المواقف قد يتغير تصرفك، فلماذا لا تضع نفسك من البداية مكان أخيك، لتعذره أو تتفهم موقفه..؟

مقدمة

حوار راقٍ يدور بين صحابة رسول الله، يتسم بالأدب والعلم، والخوف من الله، والحجة الشرعية؛ يتذاكران بين الرغبة والرهبة فنتعلم ونتذكر.

حوار راقٍ لصحابيين جليلين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:

روى الذهبي، رحمه الله، في السير عن عقيل، ومَعْمَر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسْوَر بن مخرمة أخبره أنه «وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنُك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن.

قال: لا، والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ.

قال مسور: فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينت له.

فقال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعُدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعُدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟

قال: ما تُذكر إلا الذنوب، قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تُهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم!

قال: فما يجعلك اللهُ برجاء المغفرة أحقَّ مني، فوالله ما أَلِي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يُقبَل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها.

قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه». (1سير أعلام النبلاء، ج3، صـ 391)

قاعدة مستخلَصة

من هذا الحوار الجميل المؤدب بين صحابيين جليلين من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، قد كان في نفس كل منهما شيء على الآخر؛ نستنبط أمراً مهماً في التربية ومعالجة الأخطاء لو سرنا عليه في عتاب بعضنا لبعض لاختفت كثير من مفسدات الأخوّة وذات البين، ولسلمت القلوب المخلصة من الإحَن والأحقاد والشحناء والأهواء.

وهذا الأسلوب التربوي المعنيّ هنا مأخوذ من الحوار السابق، وذلك لما ذكر المسور بن مخرمة لمعاوية، رضي الله عنهما، كل ما يعرفه من أخطاء معاوية؛ قال له معاوية، رضي الله عنه:

فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفَر؟ قال: نعم! فقال معاوية: فما يجعلك برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألِي من الإصلاح أكثر مما تلي… إلخ.

فهذا هو الشاهد من هذا الحوار المناسب لهذه المقالة المعنون لها بـ “ضع نفسك مكان أخيك”:

مجالات تطبيق قاعدة الصحابة

وعندما يمارس الواحد منا هذا الأسلوب التربوي في عتابه للناس ومعالجة أخطائهم فإن الوئام والألفة ستحل محل الفرقة والشحناء والبغضاء، وهذا الأسلوب ينفع مع مختلف طبقات الناس وشرائحهم كما يتضح ذلك من الصور الآتية:

مجال الأسرة والأرحام

ما يكثر من الخلافات العائلية في كثير من البيوت، وذلك بين الزوج وزوجته، أو بين الوالد وولده، أو بين الأخ وأخيه، أو بين الرجل وقرابته، حيث تؤدي كثير من هذه الخلافات، بفعل الممارسات الخاطئة لعلاج الخطأ، والأسلوب الغالط للعتاب؛ إلى نهايات مؤسفة قد تكون طلاقاً أو قطيعة أو ظلماً أو عدواناً.

بينما لو أُخذ بالأساليب الشرعية لمعالجة الخطأ، ومن بينها هذا الذي طبقه معاوية، رضي الله عنه، وعبرْتُ عنه بمصطلح “ضع نفسك مكانه” أقول: لو طبق هذا الأسلوب مع الأساليب الشرعية الأخرى، واختفت حظوظ النفس لساد الوئام، ووُضِع الخطأ في حجمه الطبيعي، وأمكن محاصرته وعلاجه.

فمثلاً لو أن زوجة أخطأت بحق زوجها أو في بيتها خطأً معيناً، وتأكد الزوج من ذلك فإن مما يخفف غضب الزوج وشدة عتابه لزوجته أن يبحث عن الملابسات التي أحاطت بالزوجة حتى وقعت فيما وقعت فيه من الخطأ، ثم يضع نفسه مكان زوجته عندما أحاطت بها هذه الملابسات، فماذا عساه أن يعمل؟

ثم ينظر إلى توجهات عقل المرأة وطبيعتها، ثم يحاسب نفسه فيما لو وقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه زوجته هل محاسبته ومعاتبته لنفسه بنفس القوة والنقد الذي يوجهه إلى زوجته؟

إن كل هذه التساؤلات ستقلل من حجم الخطأ، وتدفع الزوج إلى معالجته معالجة شرعية تتسم بالعدل والتأني والرغبة في الإصلاح، وليس لمجرد التشفي وتنفيس الغيظ.

ولا يعني هذا التغاضي عن الأخطاء وتسويغها وعدم إصلاحها. لا؛ ولكن المقصود معالجتها بعدل وإنصاف، ووضع النفس مكان من صدر منه الخطأ والملابسات التي أحاطت بصاحب الخطأ حتى توضع الأمور في حجمها الطبيعي من غير تهويل وتضخيم.

ومثل هذا يقال للزوجة في معالجتها لخطأ زوجها، وللوالد مع ولده، والقريب مع قريبه، وكذلك ما يحصل بين عامة الناس وأصحاب المهن المشتركة من خلافات وأخطاء.

بين العلماء والدعاة وطلبة العلم

ما يحصل من بعض الأخطاء التي يقع فيها بعض العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة التي ينجم عنها ـ لغياب المعالجة الشرعية العادلة ـ كثيرٌ من العدوان والشحناء والغيبة والأحقاد.

ولو أننا طبقنا هذا الأسلوب المشار إليه آنفاً في معالجة الخطأ، ووضع الناقد نفسه مكان صاحب الخطأ وبحث عن الملابسات التي أحاطت به في خطئه لتطامن الناقد، وعذر صاحب الخطأ إن وجد له عذراً، أو أنه يضع خطأه في حجمه الطبيعي من غير تضخيم وتهويل..

وكذلك لو حاسب الناقد نفسه فيما لو صدر منه الخطأ الذي صدر من العالم أو الداعية الفلاني، فهل مؤاخذته لنفسه بنفس القوة التي يوجهها لغيره؟

لأن مثل هذه المحاسبة تعد من أسباب التطامن والإنصاف، وكما قال معاوية للمسور، رضي الله عنهما، عندما عرَّفه ببعض أخطائه قال له: فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تُغفر؟ قال: نعم!

فكذلك الدعاة وأهل العلم في معالجتهم لأخطاء بعضهم، فلو أن الناقد انتبه لنفسه وما هي عليه من الأخطاء والذنوب لكان في ذلك من التطامن والتواضع مع صاحب الخطأ ما يجعل الناقد يضع الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ في حجمه المعقول، ويعامل صاحب الخطأ بالعدل والمحبة والإصلاح بعيداً عن حظوظ النفس والأهواء..

فإذا انضاف إلى ذلك وجود الخير الكثير والإصلاح عند الشخص المنتقَد صار هذا أيضاً من دواعي اضمحلال خطئه في بحر حسناته.

وهذا ما أشار إليه معاوية، رضي الله عنه، بقوله للمسور، رضي الله عنه:

فوالله ما ألي من الصلاح أكثر ما تلي.

ولا يعني هذا ـ كما تقدم ـ تمرير الأخطاء وتسويغها؛ وإنما يعني معالجتها معالجة عادلة تضع الخطأ في مكانه الطبيعي، فلا تُنسى حسنات المخطئ كما لا يَنسى الناقد أن عليه ذنوباً كما على غيره، والسعيد من لم تشغله عيوب الناس عن عيوب نفسه.

أعذار لأهل الابتلاء

ما يصدر من أهل الابتلاء كالمرضى والفقراء والمسجونين والمهمومين والمحزونين وغيرهم من المواقف التي يعدها أهل الرخاء والعافية مواقف خاطئة..

لكن ما أن تطبق القاعدة المشار إليها آنفاً في معالجة الخطأ، وهي قاعدة “ضع نفسك مكانه” فيضع من هو معافىً في دينه ودنياه نفسه مكان المبتلَى، ويحاول أن يتصور الظروف التي تحيط بصاحب المصيبة إلا كان لذلك أثره على النظرة إلى هذه المواقف التي يعدها خاطئة:

فإما أن يظهر له أنه معذور بسبب الملابسات التي أحاطت به كما قيل: ويل للشجي من الخلي، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

أو يظهر له الخطأ في حجمه الطبيعي، فيعالجه معالجة من يعرف ملابساته وأسبابه التي أدت إلى ضعف المصاب وقيامه بمواقف خاطئة تقدر بقدرها، وتعالج معالجة من يعرف ضعف الإنسان أمام الأقدار المؤلمة إلا من رحم الله تعالى، ولا يدري المعافَى لو كان مكان المصاب ماذا عساه أن يفعل؟

نسأل الله، عز وجل، الثبات والعافية.

أعذار المحتاجين والملهوفين والمعوزين

كما تنفع هذه القاعدة في مساعدة المحتاجين والملهوفين ممن تعوزهم الحاجة إلى المال أو الجاه، أو تفريج همٍّ، أو إغاثة ملهوف قد انقطعت به السبل، أو جائع أو عطشان، أو غريب تائه عن الطريق، أو مسافر قد تعطلت راحتله… إلخ.

ذلك أن الإنسان عندما يضع نفسه مكان أصحاب هذه الحاجات، وبتصور حجم المعاناة التي يعانيها الملهوف والمكروب والجائع والمنقطع… إلخ.

كما يتصور أيضاً وقْع الإعانة لهؤلاء في نفوسهم وأثرها علهم وأجرها عند الله، عز وجل، كل ذلك مما يجعل الإنسان يهبُّ لقضاء حاجات الملهوفين والمحتاجين.

ولا يظهر التفاعل مع حاجات المحتاجين كما يظهر عند من مرت به حاجة من الحاجات في حياته كمرض احتاج فيه إلى من يواسيه ويقوم برعايته فيه، أو فقير احتاج إلى من يساعده ويهتم بحالته فيه، أو انقطعت به دابته أو سيارته فاحتاج من يصلحها له ويساعده على مواصلة الطريق… إلخ.

إن كل من مرت به حاجة من الحاجات ثم عافاه الله منها، ورأى بعد ذلك من وقع فيما وقع فيه من الحاجة فإن هذا من أكبر الدوافع التي تدفع إلى مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف، لأنه قد وضع نفسه مكان المحتاج، وتصور الظرف الذي يمر به المحتاج وأنه قد مر عليه مثله.

خاتمة

إن هذه القاعدة تنفع مع كل ذي كبدٍ رطبةٍ وليست مع الإنسان وحده، وإذا أخلص العبد في إعانته للمحتاج وأراد وجه الله عز وجل؛ فإن الله ـ سبحانه ـ يشكر له صنيعه ويجازيه عليه الجنة..

فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيه فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر». (2صحيح البخاري:2234 (كتاب الشرب والمساقاة)، باب فضل سقي الماء)

وكما يظهر من هذا الحديث نلاحظ أن الرجل الذي سقى الكلب قد طبق القاعدة التي نحن بصددها وهي “ضع نفسك مكانه”.

فهل يعي هذا الأمر أولئك الذين لا يبالون بحاجات المحتاجين، ولا بإغاثة الملهوفين المكروبين؟

وهلاّ حمدوا الله، عز وجل، وشكروه على العافية، ووضعوا أنفسهم مكان المحتاجين ومعاناتهم؟ فإن الله عز وجل قادر على أن يعافي غيرهم ويبتليهم.

نسأل الله العافية والسلامة.

……………………………………………….

هوامش:

  1. سير أعلام النبلاء، ج3، صـ 391.
  2. صحيح البخاري:2234 (كتاب الشرب والمساقاة)، باب فضل سقي الماء.

اقرأ أيضا:

  1. أين نضع خلافاتنا؟
  2. من عبرة التاريخ .. التفرق الذي يسبق كل سقوط
  3. تأجيجُ الصِّراعات
  4. من قيم الإيمان

التعليقات غير متاحة