لقد نجح عمرو بن العاص في تأمين الحدود الغربية لمصر الإسلامية، وفتح البلاد الليبية الحالية دون عقبات كبيرة. وبعد أن تم له ذلك أخذ يستعد لفتح “إفريقية” “البلاد التونسية”..
مراحل الفتح الإسلامي للمغرب
كان فتح المسلمين للمغرب فتحا مميزا عن باقي الأقاليم المفتوحة، وكانت الجبهة المغربية من أعنف جبهات القتال وأطولها في حركات الفتوحات العربية الإسلامية.
ونتيجة لطول مدة الفتح الإسلامي لمنطقة المغرب فإن المؤرخين يميلون إلى تقسيم هذه الفتوحات إلى عدة مراحل، من أجل تسهيل دراستها واستيعابها.
المرحلة الأولى: مرحلة الاستكشاف والاستطلاع “22-50هـ/ 643-670م”
وقد امتدت هذه المرحلة من سنة “22هـ/ 642م” إلى منتصف القرن الأول الهجري. وقادة هذه المرحلة هم: عمرو بن العاص “ت44هـ/ 664م”، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح “ت 37هـ/ 657م”. ومعاوية بن حديج الكندي “ت52هـ/ 627م”، وعقبة بن نافع الفهري “الحملة الأولى” -رضي الله عنهم أجمعين.
عمرو بن العاص وأولى المحاولات “فتح برقة -وادن- فزان -طرابلس”
ما كاد عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ينهي فتح الإسكندرية ويستقر فيها حتى بدأ يفكر في تأمين حدود مصر الغربية، فواصل السير إلى أن وصل “برقة”، وذلك في أواخر “سنة 21هـ/ 642م”، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزية11 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص”170″. في كل عام “دينار على كل حالم”22 البيان المغرب لابن عذارى ج1 ص”9″..
وقد كانت “برقة” تابعة لمصر من أيام الاحتلال الروماني والبيزنطي، ولذا أقدم عمرو بن العاص على فتحها؛ لأنه يعتبرها مصرية. وبهذا يمكن إخراج فتح “برقة” من فتوح “إفريقية”، واعتبار فتحها إتماما لفتح مصر، ووقوفا عند حدها الغربي33 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب من الفتح إلى آخر القرن العاشر الهجري ص”14″..
ولم يكن هدف عمرو بن العاص قاصرا على تأمين حدود مصر الغربية والقضاء على قوة البيزنطيين في ذلك الجانب فحسب، وإنما كانت تحثه دوافع الجهاد الإسلامي من أجل مواصلة نشر الإسلام. فبعد أن انتهى من فتح “برقة” بدأ في الاستعداد لفتح “طرابلس”، ولكن كان لا بد أن يؤمن خط العودة، خشية أن يؤتى من قبل السكان المقيمين في الواحات الداخلية، ومن هناك أدرك ضرورة تقسيم جيشه إلى فرقتين: إحداهما بقيادته تتجه إلى “طرابلس”، والثانية بقيادة عقبة بن نافع الفهري -وكان يومئذ قائدا صغيرا في جيش عمرو- لتتجه إلى المناطق الداخلية44 د. محمد عبد الحميد عيسى: دراسات أندلسية -ص “11”..
أما عقبة فلم يجد مقاومة تذكر حتى وصل إلى “زويلة”55 زويلة: مدينة غير مسورة في وسط الصحراء، وهي أول حدود السودان القديم “معجم البلدان “3/ 160”.، وفتحها بالصلح على ثلاث عشرة ألف دينار66 تاريخ الطبري “4/ 144″، الكامل في التاريخ لابن الأثير “2/ 423”.، وأقام في هذه النواحي الصحراوية المنعزلة نحو عشرين سنة يدعو إلى الإسلام77 وذلك قبل أن يقود حملته الأولى لفتح إفريقية “سنة 50هـ” ويؤسس هناك مدينة “القيروان”.، ويضرب لأهلها المثل الجميل للمسلم الصادق المتفاني في دينه، واستطاع أن يكسب إلى جانبه قلوب الكثير من أهلها، ومعظمهم من قبائل “نفوسة” و”لواتة” و”نفزاوة”، وهم من البربر “البتر”88 راجع: فجر الأندلس للدكتور حسين مؤنس ص”37″..
وأما عمرو بن العاص فقد واصل المسير بحذاء الساحل، قاصدا “طرابلس” -وكانت هي الأخرى تابعة لمصر من الناحية الإدارية- فوصل إليها “سنة 22هـ/ 643م”، “وحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شيء”، كما يقول ابن عبد الحكم99 فتوح مصر والمغرب ص”111″. وقد كان لطرابلس أسوارها التي تحيط بها إلا من جهة البحر، وكان حصار عمرو لها من ناحية البر فقط، ولم يؤثر هذا في المدينة أثرا ذا بال لخلو جهة البحر من الحصار ولم يتمكن المسلمون من فتحها إلا بعد أن نجحت إحدى سرايا الاستطلاع من التسلل إلى داخلها من الجهة المطلة على البحر، وتم تحقيق مفاجأة عسكرية جيدة ضد البيزنطيين الذين لم يجدوا فرصة لتنظيم المقاومة، بل هرب من استطاع منهم إلى سفنهم، تاركين وراءهم مغانم كثيرة1010 راجع قصة فتح طرابلس في “فتوح مصر والمغرب” لابن عبد الحكم، ص”171″..
فتح مدينة “سبرت”
وبمجرد استيلاء عمرو بن العاص على طرابلس سير قوة كبيرة من فرسانه، وأمرهم بالإسراع نحو مدينة “سبرت” “Sabrata”، وهي آخر مدن الإقليم الساحلية الهامة في اتجاه الحدود التونسية. ويصف ابن عبد الحكم فتح هذه المدينة بقوله: “وكان من بـ “سبرت” متحصنين … فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة طرابلس، وأنه لم يصنع فيهم شيئا، ولا طاقة له بهم أمنوا، فلما ظفر عمرو بن العاص بمدينة طرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله مدينة “سبرت”، وقد غفلوا وقد فتحوا أبوابهم لتسرح ماشيتهم، فدخلوها “أي المسلمون”، فلم ينج منهم أحد “أي من أهلها”، واستولى عمرو على ما فيها”1111 فتوح مصر والمغرب ص”172″..
وفي أثناء حصار عمرو بن العاص لمدينة طرابلس أرسل قائده “بسر بن أرطأة” إلى ميدنة “ودان” في قلب إقليم “فزان”، وتقع جنوب طرابلس على بعد “800 كم” في الصحراء، فافتتحها “سنة 23هـ/ 643م”1212 فتوح مصر والمغرب ص”194، 195″..
التفكير في فتح “إفريقية” في آخر خلافة عمر بن الخطاب
بهذا يكون عمرو بن العاص قد نجح في تأمين الحدود الغربية لمصر الإسلامية، وفتح البلاد الليبية الحالية دون عقبات كبيرة. وبعد أن تم له ذلك أخذ يستعد لفتح “إفريقية” “البلاد التونسية”، ولكنه قبل أن يفعل رأى استئذان الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وكتب إليه يقول: “إن الله فتح علينا طرابلس، وليس بينها وبين إفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن يغزوها، ويفتحها الله على يديه فعل”. فرد الخليفة -رافضا فكرة الغزو- فقال: “لا، إنها ليست بإفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة، مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت”1313 فتوح مصر والمغرب ص”173″..
والسؤال: لماذا لم يسمح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لقائده عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بمواصلة الجهاد في هذه المنطقة، وهو الذي دفع بالمسلمين إلى الجهاد في ميادين شتى، وتم على يديه انهيار أكبر امبراطوريتين هما فارس والروم؟
لقد فسر الباحثون هذا الرفض بعدة تفسيرات، يمكن دمجها في سببين اثنين:
الأول: ما تعبر عنه مقالة عمر المذكورة؛ من أنه كان على علم بمجريات الأمور في “إفريقية”، وأنها ليست مأمونة الجوانب، ولا ميسورة الفتح، ولا قريبة الطاعة، وكان محيطا بثورات أهلها ونكثهم بالعهود، ومن هنا خشي على جيوش المسلمين من أن تنساب وتتبعثر في هذه المناطق الشاسعة، وهي لم تزل بعد في حاجة إلى توطيد نفوذها وسلطانها في البلاد التي تم فتحها1414 د. السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير “الجزء الثاني: المغرب في العصر الإسلامي -ص65”.. وهذا الموقف متسق مع إحساس الخليفة بالمسئولية، ومتفق ومجريات الأحداث؛ فما زالت مصر حديثة عهد بالفتح، وخط الإمدادات سيطول، وربما تعرض في فترة أو أخرى لخطر القطع أو التأخر1515 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب … ص”18″..
الثاني: كانت أحوال مصر الداخلية تتطلب عودة عمرو بن العاص سريعا، إذ أتاه كتاب ذكر فيه: “أن الروم يريدون نكث العهد، ونقض ما كان بينهم وبينه … فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه”1616 فتوح مصر والمغرب ص”173″.. واكتفى بإرسال البعوث الخفيفة السريعة للتذكير بين حين وحين بقوة المسلمين1717 يشير ابن عبد الحكم في “فتوح مصر والمغرب -ص173” إلى ذلك بقوله: “وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون”. والجريدة من الخيل: سرية من الفرسان ليس معهم رجالة..
أثبتت الأحداث -إذن- أن الوقت لم يحن بعد لمواصلة الجهاد نحو إفريقية.
وإلى هنا ينتهي دور عمرو بن العاص -رضي الله عنه- في فتوح المغرب، وهو دور ليس بالكبير، فليس فيه مواقع عظيمة، إنما هو تقدم سهل في مناطق قليلة المقاومة. وقد حرص دائما على أن يكون بمقربة من الساحل لا موغلا في الداخل كما سيفعل كثيرون ممن سيأتون بعده من قادة الفتح، وقد اهتم كذلك بأن يؤمن له أمر الساحل؛ فلم يكد يتم فتح “برقة” حتى بعث عقبة بن نافع إلى “فزان”، ولم يكد يتم له فتح “طرابلس” حتى أرسل بسر بن أرطأة إلى “ودان”. وهذه السياسة الحكيمة -أي تأمين المناطق الداخلية في خطوط الفتح- سيهملها أكبر القاده الذين أتوا بعده، وهو عقبة بن نافع، فكان إهمالها سببا في ضياع جهوده كلها هباء؛ بل في استشهاده هو، وانتقاض إفريقية كلها انتقاضا تاما1818 راجع: فتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس، ص”69″..
الهوامش
1 فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم ص”170″.
2 البيان المغرب لابن عذارى ج1 ص”9″.
3 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب من الفتح إلى آخر القرن العاشر الهجري ص”14″.
4 د. محمد عبد الحميد عيسى: دراسات أندلسية -ص “11”.
5 زويلة: مدينة غير مسورة في وسط الصحراء، وهي أول حدود السودان القديم “معجم البلدان “3/ 160”.
6 تاريخ الطبري “4/ 144″، الكامل في التاريخ لابن الأثير “2/ 423”.
7 وذلك قبل أن يقود حملته الأولى لفتح إفريقية “سنة 50هـ” ويؤسس هناك مدينة “القيروان”.
8 راجع: فجر الأندلس للدكتور حسين مؤنس ص”37″.
9 فتوح مصر والمغرب ص”111″.
10 راجع قصة فتح طرابلس في “فتوح مصر والمغرب” لابن عبد الحكم، ص”171″.
11 فتوح مصر والمغرب ص”172″.
12 فتوح مصر والمغرب ص”194، 195″.
13 فتوح مصر والمغرب ص”173″.
14 د. السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير “الجزء الثاني: المغرب في العصر الإسلامي -ص65″.
15 د. طاهر راغب: التطور السياسي للمغرب … ص”18″.
16 فتوح مصر والمغرب ص”173”.
17 يشير ابن عبد الحكم في “فتوح مصر والمغرب -ص173” إلى ذلك بقوله: “وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون”. والجريدة من الخيل: سرية من الفرسان ليس معهم رجالة.
18 راجع: فتح العرب للمغرب، للدكتور حسين مؤنس، ص”69″.
المصدر
كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ47-61.
اقرأ أيضا
حصار القسطنطينية في عصر بني أمية