بعد عودة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- بقليل كان استشهاد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في أواخر “سنة 23هـ/ 643م”، وتوقفت أعمال الفتح، إلا من عدة سرايا صغيرة كما ذكرنا. ولم يلبث الخليفة الجديدة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن عزل عمرو بن العاص عن إمارة مصر، وأسندها إلى أخيه في الرضاع “عبد الله بن سعد ابن أبي سرح” “سنة 25هـ/ 645-646م”.

1- عبد الله سعد بن أبي سرح وفتح إفريقية للمرة الأولى “27-29هـ”

وقد واصل عبد الله بن سعد بن أبي سرح -رضي الله عنه -والي مصر الجديد- السياسة العسكرية التي انتهجها عمرو بن العاص بعد فتح طرابلس، فأخذ يرسل جماعات الخيالة في شكل سرايا، للإغارة على أطراف إفريقية. وكان من أغراض هذه السرايا الاستكشاف، ورصد المتغيرات على حدود مصر الغربية، ومراقبة القوى البيزنطية المعادية.

ونظرا للنجاح الذي حققه هذه الحملات الاستكشافية فكر ابن أبي سرح في القيام بحملة حقيقية لفتح “إفريقية”. وبدأ باستشارة الخليفة عثمان، “وكتب إليه يخبره بقربهم “أي قرب الروم” من حز المسلمين ويستأذن في غزوها”. وكان عثمان -رضي الله عنه- هو الآخر يخشى على المسلمين من التوغل في تلك المناطق البعيدة المترامية، إذ يشير البلاذري في “فتوح البلدان” إلى أنه كان “متوقفا في غزوها” ثم إنه وافق على الغزو بعد أن استشار كبار الصحابة وأصحاب الرأي، وأخذ يدعو الناس إلى الجهاد، ويحثهم على التطوع، فتقاطروا من مختلف القبائل للاشتراك في هذه الغزوة، وأعان هو الجيش بألف بعير من ماله، يحمل عليها ضعفاء الناس -أي فقراؤهم- وفتح خزائن السلاح، وأمر للناس بأعطياتهم وأمدهم بالخيل، فلما اكتمل الجيش في الجرف “على مقربة من المدينة”، قام فيها خطيبا، ورغبهم في الجهاد، ثم قال لهم: “لقد عهدت إلى عبد الله بن سعد “بن أبي سرح” أن يحسن صحبتكم ويرفق بكم، وقد استعملت عليكم الحارب بن الحكم إلى أن تقدموا على ابن أبي سرح، فيكون الأمر له”. وكان ذلك في المحرم من “سنة 27هـ/ 647-648م”.

وقد اندمج في هذه الحملة نفر غير قليل من مشاهير الصحابة وأولادهم، وسمى هذا الجيش “جيش العبادلة” لاشتراك عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن زيد بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن أبي بكر الصديق، وأخيه عبد الرحمن، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم. وكانوا جميعا شبابا في السن الباكرة -رضي الله عنهم أجمعين.

ولما وصلت تلك القوات إلى عبد الله بن سعيد بن أبي سرح في مصر تولى القيادة عليها، وجمع إليها ما كان لديه من الجند، فصار له جيش عدته -باتفاق المؤرخين- عشرين ألفا، فاستخلف على مصر الصحابي عقبة بن عامر الجهني، ومضى هو إلى إفريقية.

معركة سبيطلة وانتصار المسلمين “27-28هـ/ 647-648م”

كان حاكم المغرب “جريجوريوس” الأرمني “ويسميه العرب جرجير” قد انفصل عن الإمبراطورية البيزنطية، واستقل بحكم بلاد المغرب كلها “سنة 646م” وكان سلطانه ما بين طرابلس إلى طنجة” كما يقول ابن عبد الحكم. ولما كان مقامه بقرطاجنة -وهي المدينة البحرية الهامة- يعرضه لخطر الأسطول البيزنطي الذي كانت له السيطرة حتى ذلك الوقت على البحر فإنه فضل أن يكون بأمن في الدخل، واختار المقام في “سبيطلة”، وهي مدينة كبير وحصينة، ولها أهمية خاصة في ذلك الوقت، باعتبارها واحدة من سلسلة المدن التي تكون خط الدفاع الثاني الذي أقامته بيزنطة للدفاع عن البلاد ضد ما يتوقعه الروم من هجمات البربر. وتقع على الطريق الذي يؤدي من السهل الساحلي “سهل تونس” إلى جبال الأوراس، وقريبة من المنطقة التي ستبنى فيها مدينة “القيروان” بينهما سبعون ميلا، وبينها وبين قرطاجنة مائة وخمسون ميلا.

ويدل اختيارها قاعدة للملك -أيضا- على أن “جرجير” استشعر بخطر المسلمين بعد أخذهم “طرابلس” و”سبرت”. ثم إنه كان يعول على نصر البربر وعونهم، فأحب أن يتحرر فيهم، ويستعين بهم، ففضل اللجوء إلى الداخل، والتحصن في “سبيطلة”.

وصل عبد الله بن سعد بن أبي سرح بجيشه -إلى برقة، فلقيه عندها عقبة بن نافع الفهري، فيمن كان معه من المسلمين، فانضم إليه. ثم تحرك إلى طرابلس -وكانت قد خرجت عن طاعة المسلمين بعد فتحها الأول -فوجد أهلها قد امتنعوا خلف أسوارها. فلبث على حصارها أياما، فخاف أن يطول الحصار وهو يريد الإسراع إلى “جرجير” في سبيطلة، فأمر الناس بالرحيل كسبا للوقت، وكذلك فعل حين وصل إلى “قابس”، وجد أهلها متحصنين، فانصرف عنها، إذ أشار عليه الصحابة أن لا يشتغل بها عن هدفه الأساسي، وهو فتح إفريقية” والقضاء على التجمع البيزنطي في “سببيطلة”، فواصل المسير إلى أن حط رحاله في إقليم “قمونية” في سهل تونس -غير بعيد من سبيطلة- ريثما يستريح الجند، وليأخذوا في الاستعداد للمعركة الفاصلة. وفي هذه الأثناء أخذ ابن أبي سريح يرسل السرايا، تستكشف البلاد في كل الجهات، وتأتي بالمؤن والعلف.

وقد كان باستطاعة “جريجوريوس” أن يقف للمسلمين عند “قابس” ويسد عليهم الطريق الضيق الذي يؤدي من “طرابلس” إلى “إفريقية” بين “قابس” و”شط الجريد”، وهو أشبه بعنق الزجاجة -كما يقول العسكريون- لكنه فضل الانتظار في سهل متسع يسمى “عقوبة”، على أميال من “سبيطلة”. وأغلب الظن أن هذا الموضع لم يكن مجرد سهل، وإنما كان أحد الحصون الكثيرة التي كانت تحيط بسبيطلة. وعنده دار المعركة بين المسلمين والبيزنطيين.

وقبل أن يبدأ القتال دارت المفاوضات بين الطرفين، وعرض المسلمون شروطهم وهي: الإسلام، أو دفع الجزية والخضوع للمسلمين، أو القتال، فامتنع “جريجوريوس” من قبول أي من هذه الشروط، وفشلت المفاوضات، وفشل معها الحل السلمي، ولم يعد أمام الفريقين إلا القتال.

أما تفاصيل معركة “سبيطلة” فالحديث عنها يطول.

ويمكن تلخيص مجريات الأحداث في أن هذه المعركة بدأت في حصن “عقوبة” بمناوشات متفرقة بين الجانبين، واستمرت الحرب سجالا دون طائل، وكان القتال يدور يوميا نهارا من الصباح إلى وقت الظهر، ثم ترجع كل طائفة إلى معسكرها، فلا يستأنفون القتال إلا في اليوم التالي. وحينما أوشك المسلمون أن ييئسوا من الانتصار، ودخلهم الخوف -لحصانة الموقع، وكثرة جند الروم التي قيل إنها بلغت مائة وعشرين “120” ألف رجل “قد رفعوا الصليب، وعليهم من السلاح ما الله أعلم به، وفيهم من الخيل ما لا يحصى” “كما يقول الرواة”-

جاء مدد من المدينة بقيادة عبد الله بن الزبير، فكان له أثر كبير في تحقيق النصر للمسلمين. ذلك أن ابن الزبير اكتشف أن طريقة القتال تلك لن تحقق نجاحا، فعرض على القائد عبد الله بن سعد بن أبي سرح خطة جديدة؛ قال: “إن أمرنا يطول مع هؤلاء، وهم في أمداد متصلة، وبلاد هي لهم، ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن تترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين، ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر، إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم، ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة، ولعل الله ينصرنا عليهم”.

نجحت هذه الخطة، وثارت الكمائن بالروم، فانهزموا، وقتل منهم أعداد كبيرة، وقتل ملكهم “جريجوريوس” -قتله عبد الله بن الزبير- وأسرت ابنته. ثم ضرب ابن أبي سرح الحصار على مدينة سبيطلة” نفسها بعد أن منع المنهزمين من الاعتصام بها، فسقطت بسهولة، وأسفر الأمر عن فوز المسلمين بمغانم كثيرة، وثروة طائلة، قسمت على المقاتلين -بعد إخراج الخمس- فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الراجل ألف دينار.

وبعد معركة “سبيطلة” أقام عبد الله بن سعد بن أبي سرح معسكره في الأرض التي بنيت فيها مدينة “القيروان” فيما بعد. ومن هناك أخذ يوجه السرايا تضرب في أرجاء ولاية “إفريقية” وتجتاح البلاد بهمة كبيرة “حتى ذلت الروم، ورعبوا رعبا شديدا” كما يقول الرواة. ويقول ابن عبد الحكم: “فلما رأى ذلك رؤساء أهل إفريقية طلبوا إلى عبد الله بن سعد أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم، فقبل ذلك، ورجع إلى مصر، ولم يول عليهم أحد” ويحدد ابن عذارى في روايته قدر هذا المال، وهو ثلاثمائة قنطار من الذهب ويقدره البعض بألفي ألف وخمسمائة ألف دينار “2.500.000” وكان من بين شروط الصلح أيضا “أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم، وما أصابوه بعد الصلح ردوه عليهم”.

رجع ابن أبي سرح إلى مصر في أوائل “سنة 29هـ/ 649م” بعد خمسة عشر شهرا قضاها في هذه الغزوة. دون أن يتخذ أي إجراء يكفل الاحتفاظ بنتائج هذا النصر الكبير، وبدلا من أن يسير نحو “قرطاجنة” القاعدة الكبرى للروم ويستولى عليها، ويقرر بذلك نهاية ولاية “إفريقية” البيزنطية -كما فعل عمرو بن العاص عندما أتم فتح مصر باستيلائه على الإسكندرية- نجده يكتفي بالغنائم الوفيرة، ويقبل بشروط الصلح ويعجل بالعودة، “فكان على من أتى بعده -كما يقول د. حسين مؤنس- أن يبدأ من جديد؛ لأن انسحابه عفى على معظم النتائج التي كان المسلمون قد وصلوا إليها في البلاد”.

وإذا كان لهذا الانتصار العظيم الذي حققه المسلمون عند سبيطلة في أوائل “سنة 28هـ/ 648م” من نتيجة فهي أنه “كسر سلطان البيزنطيين كسرة لن يعود بعدها إلى ما كان عليه في البلاد قبل الفتح الإسلامي. وسيحاول البيزنطيون العودة إلى البلاد والاتحاد مع البربر ومغالبة العرب، ولكن كل محاولاتهم لن تزيد عن أن تكون محاولات قليلة الخطر، عديمة النتائج.

2- حملة معاوية بن حديج السكوني “45/ 666م”

عزل عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن قيادة جيش الفتح في إفريقية، لكنه بقي واليا على مصر، واستمر نشاطه الحربي -وخاصة ضد الروم- إلى نهاية ولايته عليها “سنة 36هـ/ 656م”.

وبمقتل الخليفة عثمان -رضي الله عنه- في أواخر “سنة 35هـ/ 656م” اختلفت كلمة المسلمين، وانفتحت أبواب الفتنة على مصراعيها. وكان لا بد أن تؤثر هذه الأحداث التي استمرت خمس سنوات “35-40هـ” على حركة الفتوح في “إفريقية” وغيرها فبسببها تعطلت حركة الجهاد، وكان باستطاعة الروم أن يستعيدوا “إفريقية” خلال تلك الفترة التي انشغل فيها المسلمون بخلافاتهم، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك بصورة فعالة.

وما أن استقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- “عام 41هـ/ 661م” -الذي سمي بعام الجماعة- حتى عادت الفتوح قوية من جديد في المشرق، وفي المغرب على السواء وقرر فصل ولاية “إفريقية” عن ولاية “مصر”. وجعلها ولاية تابعة للخلافة مباشرة، وعين “معاوية بن حديج السكوني” واليا عليها، وأمره بالمسير إليها ومواصلة الجهاد، وزوده بجيش مكون من عشرة آلاف مقاتل، من بينهم عدد كبير من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبنائهم، أمثال عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الملك بن مروان وغيرهم.

خرج معاوية بن خديج من الإسكندرية، وسار برا بإزاء الساحل حتى وصل إلى “قمونية”، وهو المكان الذي عسكر فيه من قبل ابن أبي سرح قائد المسلمين في معركة سبيطلة “28هـ”. ولم يكد الجيش يحط برحاله في هذا الإقليم حتى تسامع المسلمون بوصول جيش بيزنطي “أسطول بحري” إلى إفريقية، قوامه ثلاثون ألف مقاتل، أرسله الإمبراطور البيزنطي، بقيادة أحد البطارقة يدعى “نقفور” ونزل في منطقة “الساحل” الواقعة بين “سوسة” و”سفاقس”. فتقدم ابن حديج نحوهم، وعسكر في مكان بالقرب من جبل “القرن”، ومنه أرسل جيشا كثيفا بقيادة عبد الله بن الزبير للتصدي لجيش الروم، فتقدم للقائهم، وناوشهم مناوشة خفيفة تقهقروا بعدها إلى “سوسة”، ثم أقلعوا في البحر إلى “صقلية” منهزمين، واستولى المسلمون على المدينة. ثم أرسل ابن حديج سرية أخرى في ألف فارس بقيادة عبد الملك بن مروان -وكان في التاسعة عشرة من عمره- إلى “جلولاء” فحاصرها وفتحها عنوة. ثم قاد هو بنفسه حملة إلى “بنزرت” -على الساحل الشمالي بالقرب من “قرطاجنة” فافتتحها. “ومن الغريب -كما يقول د. حسين مؤنس- أنه لم يقصد قرطاجنة عاصمة إفريقية البيزنطية، وكانت معروفة للعرب إذ ذاك فلا يقال إنه جهلها. وربما كان السبب في ذلك أنه تهيب حصارها، لما كان معروفا عنها من المنعة والقوة. ولا نزاع في أنه أخطأ بذلك خطأ كبيرا، فلو أنه وجه جهوده نحو قرطاجنة لخطا بفتح إفريقية خطوة كبرى، لا شك في أهميتها، لكنه انصرف إلى ميناء لا أهمية له -وهو “بنزرت”، ولم يكن لسقوطه أي أثر في فتح هذه البلاد”.

ولذا لا نستطيع اعتبار أعمال معاوية بن حديج فتوحا؛ لأن الضربات السريعة لا تعتبر فتوحا، ولا تنشأ عنها فتوح. وحملته هذه ما هي إلا إحدى المقدمات التي سبقت الفتح الحقيقي الذي ستبدأ أولى حلقاته على يد طالت خبرته بـ إفريقية وأهلها، فعرف السبيل الصحيح لتثبيت أقدام المسلمين في بلاد المغرب، ألا وهو عقبة بن نافع الفهري.

وإذا كان لحملة ابن حديج -ومن قبلها حملة ابن أبي سرح- من أهمية فإنها تتلخص في أن بلاد “إفريقية” أصبحت أرضا مألوفة للمسلمين، ولم تعد مخوفة “غادرة مغدور بها” كما كان الحال قبل اقتحامها.

المصدر

كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ52-61.

اقرأ أيضا

مراحل الفتح الإسلامي للمغرب: برقة وطرابلس

الفتوحات في الجانب البيزنطي

فتح بلاد السند “حملات محمد بن القاسم”

حصار القسطنطينية في عصر بني أمية

التعليقات غير متاحة