كانت “القسطنطينية” الرأس المدبر والمحرك الذي أدار شئون الدفاع البحري عن الدولة البيزنطية وجزرها في حوض البحر المتوسط الشرقي، وقد أدرك المسلمون أنه لا استقرار لفتوحاتهم إلا بإدخال هذه العاصمة في قائمة الفتوحات.

حصار القسطنطينية في عصر بني أمية

كانت “القسطنطينية” الرأس المدبر والمحرك الذي أدار شئون الدفاع البحري عن الدولة البيزنطية وجزرها في حوض البحر المتوسط الشرقي، ولا سيما السواحل الواقعة حول بحر “إيجة” الغني بجزره الممتدة إلى مياه “القسطنطينية” المحلية. وقد أدرك المسلمون أنه لا استقرار لفتوحاتهم إلا بإدخال هذه العاصمة في قائمة الفتوحات، كما تم لهم من قبل الاستيلاء على “المدائن” عاصمة الفرس1(1) د. إبراهيم العدوي: الأمويون والبيزنطيون “ص92، 93”..

وبعد تمهيد طويل بواسطة حملات برية على آسيا الصغرى وصل بعضها إلى “القسطنطينية” -ومحاولات أخرى بحرية خرجت من القواعد الإسلامية البحرية على سواحل الشام ومصر- أحس المسلمون أنهم وصلوا إلى درجة جيدة من الخبرة بالطريق إلى “القسطنطينية” برا وبحرا، وأنهم يستطيعون غزوها والاستيلاء عليها والقضاء على دولة الروم. ولقد قدر للمسلمين القضاء على الدولة البيزنطية في عصر بني أمية لتغير وجه التاريخ تماما، ولكن فشل محاولاتهم الأولى في العصر الأموي أتاح لهذه الدولة حياة امتدت قرابة تسعة قرون. وعندما دخل الأتراك العثمانيون “القسطنطينية” “سنة 857هـ” كانت دولة الروم قد أتمت رسالتها التاريخية التي كان لها أبعد الأثر على مسيرة الإسلام في شرق أوروبا، بل في تاريخ أوروبا كلها.

وسنوجز فيما يلي الكلام على أكبر محاولات المسلمين لفتح “القسطنطينية” وهي:

المحاولة الأولى: حملة سفيان بن عوف “سنة 49هـ/ 669م”

أرسلها معاوية بن أبي سفيان برا، فاخترقت آسيا الصغرى وافتتحت حصونا كثيرة في الأناضول حتى وصلت إلى سواحل “بحر مرمرة”، ثم بعث معاوية ابنه “يزيد” مددا لسفيان بن عوف وجعله أميرا شرفيا على الحملة، ومعه نفر من أبناء الصحابة، مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنهم. وقد اشتبك المسلمون مع الروم في القتال، واستشهد الكثير من الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاري الذي دفن بالقرب من مدينة “بروسة”. وقد حال الشتاء القارس وصعوبة الإمدادات البشرية والتموينية -لبعد المسافة وضعف وسائل النقل في ذلك الوقت- ثم نقص الأطعمة والأغذية، وتفشي الأمراض بين الجند، ومناعة “القسطنطينية” -حال ذلك كله دون فتح المدينة. ولقد حاول المسلمون عبثا اختراق أسوارها بعد حصارها، إلا أنهم فشلوا في ذلك، فعادوا دون خسائر كبيرة “عام 50هـ”2(2) راجع: تاريخ خليفة بن خياط ص”211″، تاريخ اليعقوبي “2/ 229″، تاريخ الطبري “5/ 232″، الكامل لابن الأثير “3/ 314، 315”..

وقد تنبأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الغزوة، ووعد أهلها المغفرة، فقال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري عن أم حرام بنت ملحان: “أول جيش من أمتي يركبون البحر قد أوجبوا، وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم”.

وكان الدرس الهام الذي خرج به معاوية من هذه الحملة هو ضرورة تدعيم القوات البرية التي تغزو “القسطنطينية” بقوات بحرية ضخمة، حيث تحيط المياه بالمدينة من ثلاث جهات، وعكف على تجهيز هذا الأسطول مدة أربع سنوات استطاع خلالها تدريبه عمليا باسترداد جزيرة “رودس” “عام 52هـ/ 672م” -وكان الروم قد استردوها أثناء فترة خلافة عثمان -رضي الله عنهم- ثم جزيرة “كزيكوس” “وهي جزيرة أرواد” “عام 54هـ/ 674م”، والتي سيجعل منها المسلمون مقرا لإدارة الحصار الثاني للقسطنطينية، والذي بدأ “عام 54هـ”3(3) راجع: الدولة الأموية دولة الفتوحات، لنادية مصطفى “ص24”..

المحاولة الثانية: حصار السبع سنوات “54-60هـ/ 674-679م”

وفي الطريق إلى هذا الحصار استولى المسلمون على “أزمير”، واحتلوا ساحل “ليكيا”، وخرج الأسطول الإسلامي من جزيرة “أرواد” بقيادة “جنادة بن أبي أمية الأزدي”، وأحكم المسلمون حصار “القسطنطينية” برا وبحرا، من “إبريل” إلى “سبتمبر”، ثم ارتدوا عنها مع قدوم الشتاء إلى جزيرة “أرواد” “كزيكوس”، ثم عادوا إلى الحصار في الصيف التالي، ليرتدوا في الشتاء مرة أخرى، واستمر الأمر على هذا الحال، يحاصرون صيفا، ويرتدون شتاء، حتى “عام 60هـ/ 679م” عندما قرر معاوية بصفة نهائية الانسحاب، وعقد معاهدة صلح مع إمبراطور الروم: قسطنطين الرابع، مدتها ثلاثون عام.

أثر النار الإغريقية على فشل الحصار الثاني للقسطنطينية

وقد فقد المسلمون في هذا الحصار العديد من القادة، وثلاثين ألف مقاتل، ومعظم سفن الأسطول، وكان من أسباب الفشل: الإنهاك الذي تعرض له الجيش الأموي طول سنوات الحصار، كما أنهم فوجئوا بسلاح لم يكن لهم به عهد ولا طاقة لهم بمكافحته ودفع خطره، وهذا السلاح، عرف باسم “النار الإغريقية”، استخدمه البيزنطيون كوسيلة دفاعية تسببت في حرق عدد كبير من قطع الأسطول الإسلامي، وقد بث الذعر في نفوس المحاصرين للمدينة. وكانت هذه النار تتركب من النفط والكبريت والغاز، وتزداد اشتعالا عند ملامستها للماء، ولا يخمد نارها إلا باستخدام الرمل والخل. وقد كان لهذه النار أثر حاسم في صد المسلمين عن “القسطنطينية”، فاضطروا إلى رفع الحصار وعقد معاهدة الصلح مع البيزنطيون4(4) راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير “3/ 497”. أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس “ص286”..

استئناف الغزوات عقب استقرار الأوضاع الداخلية

وإذا كانت أحداث الفتن الداخلية “من 60-72هـ” أدت إلى انكسار الدولة الأموية في صراعها مع الروم البيزنطيين فإنه ما إن استقرت الأوضاع في الداخل -ولو جزئيا- حتى بدأ الأمويون يعاودون الهجوم بعنف، ويحققون الفتوحات والانتصارات، ويستعيدون بعض ما ضاع من الدولة الإسلامية، مثل “المصيصة” التي استردها عبد الملك بن مروان “سنة 84هـ” بعد أربعة عشر عاما من وقوعها في يد البيزنطيين.

وفي عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك “86-96هـ” -وبفضل الإنجازات الهامة التي حققها والده في إرساء دعائم الجبهة الداخلية توحيد الدولة الأموية- ستبدأ حركة فتوحات واسعة في الشرق والغرب، وسوف يجبر البيزنطيون على الارتداد لموقف الدفاع مرة أخرى. وقد استهل “الوليد” عهده بفتح حصن “طوانة” “88هـ” -وهي مفتاح الطريق بين الشام ومضيق البوسفور، بعد أن كبد البيزنطيين خمسين ألف مقاتل5(5) راجع: الكامل لابن الأثير “4/ 246”.. ثم فتح “عمورية” و”هرقلية” “عام 89هـ”6(6) الكامل لابن الأثير “4/ 249”.. وبدأ يعد العدة للإيقاع بالقسطنطينية.

الحصار الثالث للقسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك “97-98هـ”

تابع الوليد بن عبد الملك سياسة تقوية الأسطول الإسلامي، وعمل على تنسيق التعاون بين القوات البرية والبحرية، وخلق مناخا طيبا للعمليات الحربية، حتى إذا جاءت “سنة 94هـ” بدأ في الاستعداد لغزو العاصمة البيزنطية، وجهز حملة بحرية برية بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك. وما إن ترامت أخبار هذه الاستعدادات إلى السلطات البيزنطية حتى بدأت تهتم بتدعيم وسائل الدفاع عن أسوار “القسطنطينية”، كما عنيت بتقوية الدفاع البحري تمهيدا لحصار قد يطول أمده كما حدث في الحصار الثاني. ولكن وفاة الوليد بن عبد الملك أدت إلى إرجاء إنفاذ الحملة إلى مقصدها، فلما تولى سليمان بن عبد الملك الخلافة أخذ يجهز الجيوش للسير إلى “القسطنطينية” وخرجت الحملة بالفعل بقيادة مسلمة بن عبد الملك في أسطول كبير يقدر عدده ثمانية عشر ألف سفينة -وقيل: ألف وثمانمائة سفينة- ومعه مائة وعشرون ألف مقاتل، وتوجه نحو المدينة العتيقة “سنة 98هـ/ 716م” ليبدأ الحصار الثالث.

من أهم أسباب فشل الحصار الثالث للقسطنطينية

ولقد انتهى هذا الحصار -الذي استمر عامين- بالفشل في اقتحام “القسطنطينية” كما حدث في الحصار السابق له. ويرجع فشل هذا الحصار الثالث إلى العديد من الأسباب، بعضها كان عاملا هاما في فشل حصار السبع سنوات السابق، وبعضها ظهر جديدا في الحصار الأخير.

فمن الأسباب المتكرره: قسوة الظروف الطبيعية “المناخ”، ومهارة المقاتلين البيزنطيين في استخدام “النار الإغريقية”، وعزم أهل المدينة واستماتهم في الدفاع عنها، يساعدهم في ذلك منعة أسوارها وموقعها7(7) الدولة الأموية دولة الفتوحات لنادية مصطفى “ص30″، الصراع بين العرب وأوروبا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية للدكتور عبد العظيم رمضان “ص113”..

“ليو الأيسوري” ونقضه العهد

أما أهم الأسباب المستجدة والتي أدت إلى فشل الحصار فهو محالفة المسلمين لأحد الروم البيزنطيين، وهو القائد العسكري “ليو الأيسوري” “الأرمني”، وكان طامعا في عرش بيزنطة، ففاوض “مسلمة بن عبد الملك” قائد الحملة على أن يعاونه فيما يريد، ويتركه يدخل “القسطنطينية”، حتى إذا نجح “ليو” في عزل الإمبراطور “ثيودوسيوس” الثالث، ونصب نفسه إمبراطورا، مهد للمسلمين دخول المدينة. وقد عاونه مسلمة وأجابه إلى طلبه، فلما تمكن “ليو” من الحكم نقض عهده ، وانقلب عليهم، وانضم إلى إخوانه البيزنطيين، واجتهد في تحصين البلد، ونجح في صد الحملة الإسلامية عن أسوارها المنيعة8(8) راجع: تاريخ الطبري “6/ 530، 531″، والكامل في التاريخ لابن الأثير “4/ 304، 305″، وراجع: الحدود الإسلامية البيزنطية لفتحي عثمان “2/ 85-91”..

وهذا يؤكد أن معاهدة المسلمين لأطراف غير إسلامية بغرض التناصر ضد طرف غير إسلامي إنما هو سلاح ذو حدين، وأن عواقب استخدامه بغير حرص وخيمة وحاسمة.

الخليفة عمر بن عبد العزيز يأمر مسلمة بالعودة بمن معه من المسلمين

وبالرغم من أن المسلمين قد لاقوا في هذا الحصار صعوبات كثيرة، وقدموا تضحيات هائلة، وقتل منهم عدد كبير، وحطمت الريح العاتية عددا من السفن، وسببت خللا في الأسطول، وانتهز البيزنطيون هذه الفرصة وسلطوا نيرانهم اليونانية على السفن الإسلامية وأحرقوا عددا كبيرا منها -بالرغم من ذلك كله فإن المسلمين استمروا في إحكام الحصار إلى أن توفى سليمان بن عبد الملك “في 10 من صفر لسنة 99هـ”، وحل الشتاء ببرده وثلجه، فهلك عدد كبير من العسكر من شدة البرد، ونفقت معظم الخيول والدواب، وعدم الأقوات، وحل الضيق بمعسكر المسلمين حتى أكل الجند الدواب والجلود وأصول الشجر والورق، وكل شيء غير التراب، وظل الأمر كذلك إلى أن كتب الخليفة الجديد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- إلى مسلمة -وهو بأرض الروم- يأمره بالعودة بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا وطعاما كثيرا، وحث الناس على معونتهم9(9) تاريخ الطبري “6/ 530، 531″، ص”553″، الكامل لابن الأثير “4/ 315”..

لقد كانت هذه الحملة الثالثة على “القسطنطينية” أعظم وأضخم الحملات التي استطاعت قوى الإسلام أن تجردها لهزيمة القوى البيزنطية، وكانت أعظم مجهود استطاع أن يبذله المسلمون لحمل لواء الإسلام إلى أمم الغرب غير الإسلامي، ثم إن الظروف لم تكن -ولن تكن أبدا مواتية- لتحقيق هذه الهدف إلا بعد سبعة قرون عندها سينجح الأتراك “المسلمون” العثمانيون في فتح “القسطنطينية” “857هـ/ 1453م”.

ولقد حال إخفاق المسلمين -زمن بني أمية- في فتح “القسطنطينية” من انتشار الإسلام في أوروبا، ولو قدر للمسلمين النجاح في ذلك الوقت لتغير مصير أوروبا بعد هذا الوقت وإلى الآن، ولنشأت فيها أمم غير الأمم، ودين غير دين المسيحية، أي لو قدر ونجحت تلك الحملة الثالثة في الاستيلاء على “القسطنطينية” لكانت الدولة الأموية قد نقلت النظام الدولي من نظام ثنائي الأقطاب إلى نظام عالمي أحادي الأقطاب، يتسيده المسلمون، وتدخل فيه أوروبا ضمن ديار الإسلام، ويتغير مسار التاريخ10(10) راجع: الدولة الأموية دولة الفتوحات، ص”32″ “بتصرف يسير”..

وختاما نقول: لم تكن تلك الغزوة إلا جولة من جولات عديدة تعاورها الظفر والفشل، ولم تتوقف حركة الجهاد بعدها، وظل الفتح مستمرا على جميع الجبهات في الشرق والغرب، وظل الجهاد مع البيزنطيين قائما وإن لم يحدث غزو لـ “القسطنطينية” مرة أخرى في الفترة المتبقية من عصر بني أمية.

الهوامش

(1) د. إبراهيم العدوي: الأمويون والبيزنطيون “ص92، 93”.

(2) راجع: تاريخ خليفة بن خياط ص”211″، تاريخ اليعقوبي “2/ 229″، تاريخ الطبري “5/ 232″، الكامل لابن الأثير “3/ 314، 315”.

(3) راجع: الدولة الأموية دولة الفتوحات، لنادية مصطفى “ص24”.

(4) راجع: الكامل في التاريخ لابن الأثير “3/ 497”. أطلس التاريخ الإسلامي لحسين مؤنس “ص286”.

(5) راجع: الكامل لابن الأثير “4/ 246”.

(6) الكامل لابن الأثير “4/ 249”.

(7) الدولة الأموية دولة الفتوحات لنادية مصطفى “ص30″، الصراع بين العرب وأوروبا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية للدكتور عبد العظيم رمضان “ص113”.

(8) راجع: تاريخ الطبري “6/ 530، 531″، والكامل في التاريخ لابن الأثير “4/ 304، 305″، وراجع: الحدود الإسلامية البيزنطية لفتحي عثمان “2/ 85-91”.

(9) تاريخ الطبري “6/ 530، 531″، ص”553″، الكامل لابن الأثير “4/ 315”.

(10) راجع: الدولة الأموية دولة الفتوحات، ص”32″ “بتصرف يسير”.

المصدر

كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ32-39.

اقرأ أيضا

موجز عن الفتوحات الإسلامية في الشرق

الفتوحات في الجانب البيزنطي

فتح بلاد السند “حملات محمد بن القاسم”

التعليقات غير متاحة