أزماتنا شديد ومظاهرها مؤلمة؛ لكنها لا تعني نهاية الأمة؛ بل هي جولة. وبرغم الإخفاقات هناك واجبات للخروج من النفق المظلم.

مقدمة

هل طول الغمة يُطمع في انقضائها؟ وهل كثرة المصائب وتكالب الأعداء واشتداد الأزمة يوحي بانفراجها؟

جاء في السيرة النبوية أنه عندما تكالب الأحزاب على المسلمين ونقضت يهود قريظة العهد وتألبت مع من تألب، واشتد الأمر على المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً قال، صلى الله عليه وسلم، «أبشروا يا معشر المسلمين». (1زاد المعاد 3/ 272)

لقد طال ليل الغمّة على المسلمين، ومفاجآت المنطقة العربية لا تنتهي.

فبعد ضياع العراق ووهن الأوضاع العربية وتغوّل إيران، واستفحال المشروع الصهيوني، وتراجع الأوضاع العربية وتهرؤ قوى المسلمين واستنزاف ثرواتهم.. تراجعت الآمال

آمال متراجعة

كانت الشعوب تأمل أن تستفيد من ثورات الربيع العربي، ومن التغيرات العالمية وتخفف من قيودها على الناس وتقيم أوضاعا فيها من الحريات والشفافية وتوزيع الثروات، واحترام الهوية وإقامة الشريعة أو الاقتراب منها وفسح المجال أمامها.

ولكن لم يجد الناس ما أرادوا؛ بل وجدوا خراب بلادهم وتدمير سوريا إضافة الى العراق.

وقد مرّ سابقا تقسيم السودان، ثم تمزق ليبيا واستبداد مصر ومذابحها، وقفْز الحوثيين على اليمن.

هذا مع استنزاف ثروات الأمة في الخليج، وتغيير اجتماعي وأخلاقي عميق في السعودية، وتغيير خطير في الخطاب الإعلامي، وتجفيف لأثر الاسلام في المناهج التعليمة يحدث في صمت.

ثم يحدث ما يُخجل وهو أن تكون القدس محل بيع وشراء وصفقات، وتكون القضية الفلسطينية محل تصفية للحصول على كرسي الملك.

ثم يسود السفهاء خطاب الأمة الإعلامي ويحارَب الدعاة وأهل العقول الراجحة والخبرات، ويقود الأمةَ صبيانٌ سفهاء..

حتى بات الناس يخشون على دينهم من ضعف شديد، حتى يخشون عليه من الاندراس ومن أن تحل عقائد أهل الصليب في جزيرة العرب.

سؤال اللحظة: ما المخرج..؟

الكل يتحجج بقوة الغرب وصعوبة ومشاق الخروج من التبعية؛ ولذا يبقى السؤال المُلِح بعد حالة الذهول وعدم التوازن؛ ما المخرج..؟

هل فكرنا كيف قوي هذا الغرب، حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن، لقد بدأ التفكير بالتغيير عند الأوروبيين عندما اصطدموا بالحضارة الإسلامية بعد الحروب الصليبية فهل هذه الصدمات المتوالية تجعلنا نفكر بعمق كيف يبدأ التغيير..؟

لا بد أن نرجع قليلاً إلى الوراء لنرى المحاولات والتجارب التي جرت على جسد أمتنا المنهَكة من تحديث “محمد علي باشا” و”رفاعة الطهطاوي” إلى “الدول القُطرية” التي كرّست التبعية للغرب والشرق، إلى “العسكرتاريا” التي حطمت شخصية الفرد المسلم، بل شخصية الإنسان كإنسان، إلى التيارات العصرانية والعلمانية التي لاتزال تنفخ في قربة مقطوعة، مما يؤدي دائماً إلى تعطيل الدورة التاريخية للاجتماع الإسلامي.

في مثل هذه الأجواء القاتمة لا بد من عملٍ قويّ يعيد للمسلم الثقة، لا بد من مراجعة النفس ونقد الذات والاعتراف بالخطأ، لا بد من اجتماع الدعاة والعلماء الصادقين، وترك الإحن والحزبية التي أفسدت علينا ديننا ودنيانا.

لقد عاش المسلمون حالة تفاؤل لما يجري في قلب العالم الإسلامي، ثم قالوا: “لعل الفرَج يأتي من هنا”، ولكن داء التفرق والمواقف غير المنضبطة وبيع المسلمين بعضهم بعضا وافتراق الحركات الاسلامية حتى ارتمى بعضها في حضن العدو ووالى الأنظمة العلمانية وتآمر معها على أمته وإخوانه ودينه، ووالى الثورات المضادة..!

واضطربت الأمور على القيادات السياسية للحركات الاسلامية، بل واضطرب الأمور على المقاومين والمجاهدين وارتهنوا بدولٍ أخرى وأهداف ليست لهم.. كل هذه الأمور أضعفت الآمال.

فهل يتوحد المسلمون وتتسع خبراتهم ويستفيدوا من دروس الأحداث وتنضج مواقفهم ويتجردون لله تعالى؛ لنرى يوماً من أيام الله..

وأما هذا الغرب وعلى رأسه أمريكا، فإن مطالعة سنن التاريخ تعلمنا أن الدول عندما تصاب بداء الغطرسة فإن ذلك بداية أفولها، وإصابة أمريكا بهذا الداء عبر عنه عضو مجلس الشيوخ الأمريكي (ألبرت بيفردج) عندما قال:

“إن الأمريكيين جنس فاتح ولا بد أن نطيع دماءنا، ونحتل أسواقاً وأرضاً جديدة إذا لزم الأمر، ولابد أن تختفي الحضارات الوضيعة، والأجناس المتعفنة أمام الحضارات السامية للإنسان الأقوى والأعظم نبلاً”. (2د أحمد صدقي الدجاني / التغلب على غواية غطرسة القوة، مقال بمجلة الهلال عدد أبريل 1991م)

كما عبر عنه الرئيس “روزفلت” في عام 1943 إثر اجتماعه برئيس الوزراء البريطاني تشرشل في الدار البيضاء، قال:

“إن الحلفاء سوف يقاتلون حتى يستسلم أعداؤهم دون أي شروط”

يعلق الكاتب (ولبرايت) على هذه العبارة:

“إنها طفرت من أعماق روح التعصب، ومبدأ الاستسلام غير المشروط مبدأ غير حكيم..” (3المصدر السابق)

خاتمة

إن ما أوضحناه لا يعني أن الغرب سينهار بسرعة، ولكنها دعوة إلى معرفته ومعرفة الأسباب العميقة لضعفنا.

لا غنى عن المدافعة، ودفع “ضريبة” العزة، التي هي أقل بكثير من “ضرائب” المذلة التي لا تنتهي وهي أفدح بكثير.

إنها دعوة إلى التفاؤل وتغيير أساليب تفكيرنا، وأن تكون عن دراسة وخبرات تركمية وتجديد وابتكار في الوسائل مع “الثبات على المبدأ” و”الاحتفاظ بالهدف”.

لم يكن الأمريكيون والغرب أول من تجبّر بقوّته وأُعجب بها ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (فصلت: الآية 15) ولم يكونوا معجزين في الأرض فلم يفوتوا رب العالمين، لا هم ولا غيرهم.

ومن سنة الله تعالى في هذا الصراع أنه ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد: الآية 4)

والحقيقة كذلك أنهم في قبضة الله تعالى لم يخرجوا عن مشيئته ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ (الأنعام: 112)

وقرر سبحانه أن سنته أنه يُجري أقداره على أيدي أوليائه فيكونون ستارا للقدرة وهم يقبضون الأجرة؛ فيُزهق الله الباطل ويكشف عواره بهذه المدافعة، ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: 18)، ثم يقذفه تعالى في نار جهنم ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ (الأنفال: 37)

إننا على يقين بانكشاف الغمّة ـ بإذن الله ـ عن هذه الأمة، وأن هذا المنهج الى تمكين ورياد، وأن الباطل الى زوال واضمحلال. لكن أمَد ذلك الى الله ﴿وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ (الأنبياء 109)

وفي الطريق يفوز من وثق بربه وعمل خيرا وجاهد في سبيل الله ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت: 6) ويخسر المرتاب فضلا عن المحاد والمشاق لله.

لا نعلمما خبّأه الله تعالى في الغيب؛ لكن نعلم اتجاه جريان الأمر بإذن الله؛ ولهذا نقول أننا سنبقى في جولات ومدافعات، وهذه جولة مهما كان ألَمها، وستأتي أخرى فَجرا للمؤمنين.. ولَيجعلن الله تعالى فرَجا ومخرجا. ذلك وعد ربنا؛ وعدٌ غير مكذوب.

……………………………..

هوامش:

  1. زاد المعاد 3/ 272.
  2. د أحمد صدقي الدجاني / التغلب على غواية غطرسة القوة، مقال بمجلة الهلال عدد أبريل 1991م.
  3. المصدر السابق.

راجع:

  • مجلة البيان 39، ذو القعدة – 1411هـ،مايو – 1991م، (السنة: 5).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة