إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح، لَيحتّم على أهل الخير حرصهم الشديد على “الصدق” ، حتى لا تزل الأقدام، وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل، وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم.
الصدق أصل أعمال القلوب كلها
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ؛ فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب.
والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119])1(1) الفوائد ص135..
من ثمرات الصدق
الاندفاع في الدعوة إلى الله عز وجل والتضحية في سبيله
إن الصدق في عبادة الله عز وجل والاطمئنان لوعد الله عز وجل لعباده المؤمنين كل هذا يثمر في حياة المسلم اندفاعا شديدا وحماسا متقدا للدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله؛ وذلك لاطمئنانه بصحة طريقه ومنهجه ويقينه بلقاء ربه عز وجل ومجازاته على عمله يوم القيامة.
فبقدر ما يكون في القلب من الطمأنينة والقناعة بصحة المسار تكون الدعوة والتضحية، بعكس من لم يكن لديه القناعة والاطمئنان الكافيان فإن الحماس للدعوة يكون ضعيفا، ولو كان قويا في بداية الأمر فسرعان ما يضعف إذا لم يتحقق الصدق المثمر للثبات على الأمر وعدم الاهتزاز والتردد فيه.
وهذا أمر مهم يجب أن ننتبه إليه وينتبه إليه المربون وذلك في التربية على الصدق واليقين والقناعة التامة القائمة على الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا بدوره ينبهنا على بعض الأخطاء في التربية والتي يقوم بعضها على غير بصيرة وبالتالي على غير قناعة، وفي النهاية يخبو الحماس وتضعف التضحية أو لا توجد ألبتة.
إنه ليس أفضل ولا أربح في الدنيا والآخرة من العمل النابع من القناعة التامة بما يعمله المسلم والذي يثمر الاندفاع الشديد والعمل المتواصل إلى نهاية الأجل، وحتى توجد هذه الثمرة يجب علينا أن نتفقد حقيقة الصدق في نفوسنا نحو دیننا و نحو موعود الله عز وجل لنا، وأن لا نعلق أنفسنا ونحن ندعو إلى الله عز وجل في هذه الدنيا بشيء من مكاسبها، وإنما نربي أنفسنا ومن حولنا على أن نبذل كل ما في وسعنا في هذا العمر القصير لنفوز برضوان الله عز وجل وجنته هناك في الدار الآخرة؛ لأن من تعلق بشيء من هذه الدنيا في عمله فإنه وإن اندفع في البداية فسيخبو بعد حين إذا نال مطلوبه أو يئس من الحصول عليه، بينما المؤمن الصادق المطمئن في سيره إلى الله عز وجل لا يتوقف أبدا إلا عند الموت؛ لأنه ربی نفسه على أن يعطي في هذه الدنيا ولا يأخذ منها شيئا وإنما علق نفسه بالآخرة هناك حيث الأجر والثواب .
وهذا ما كان يربي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه حيث لم يعلقهم بشيء من هذه الدنيا وإن كان الله عز وجل قد فتح عليهم خزائنها، لكنه صلى الله عليه وسلم كان يعلقهم بالجنة، فيمر على آل ياسر وهم يعذبون فلا يجد ما يواسيهم به إلا أن يقول: «صبرا آل یاسر فإن موعدكم الجنة»2(2) الحاكم بنحوه : 3/ 388، وصححه ووافقه الذهبي . .
وعندما سأله صلى الله عليه وسلم الأنصار في بيعة العقبة بعد أن ذكر شرطه عليهم في البيعة فقالوا : مالنا إن بايعناك على ذلك؟ قال: «لكم الجنة»3(3) أحمد (3/ 322)، والحاكم (2/ 625) وصححه، ووافقه الذهبي وبنحوه مسلم (3/ 1334) تحت (1709). ، فلم يعدهم بشيء غير ذلك مع أنه قد تحقق لهم بهذه البيعة الفتوحات العظيمة ، ولكنه لم يعلقهم بذلك وإنما علقهم برضوان الله سبحانه والجنة، وهكذا تكون التربية.
والحاصل أنه كلما كان العبد صادقا في معتقده وصادقا في الاستعداد للقاء ربه سبحانه كلما كان مندفعا مضحيا صابرا محتسبا في سبيل الله عز وجل، وإلا فما الذي جعل غلام الأخدود وإخوانه يقدمون على الموت الأحمر وهم يرونه رأي العين ولا يترددون؟ إنه والله الإيمان الصادق الراسي في قلوبهم رسو الجبال، وكذلك الذين قدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله عز وجل ما الذي دفعهم إلى التضحية بكل ذلك غير الإيمان الحق واليقين الصادق. نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم.
القبول عند الناس والتأثير فيهم
وهذه من أعظم ثمرات الصدق في الدنيا لأن الكلمة الصادقة والتي تنبع من قلب صادق تفعل فعلها في القلوب ويكتب الله لها القبول عند الناس، وهذا أمر مشاهد؛ فما من رجل حقق الصدق مع ربه عز وجل ووافقت سريرته علانيته، والتزم بما يدعو إليه مع نفسه قبل دعوة الناس إليه؛ إلا ويستجيب الناس له وتؤثر دعوته فيهم، إلا من أعرض ونأى بجانبه عن الحق، فمثل هذا لا تنفع فيه المواعظ من أي جهة كانت ولو من أنبياء الله عز وجل الذين بلغوا الكمال في الصدق والإخلاص.
وإن أكثر ما ينفر الناس عن الداعية هو تناقض الداعية مع نفسه؛ حيث يدعو إلى الخير والبر وينسى نفسه، فهذه الحالة تجعل الناس في حيرة واضطراب بين سماع الطيب من كلام الداعية وبين ما يضاد ذلك من فعله وأحواله.
وذكر صاحب الحلية عن مالك بن دینار قوله: الصدق والكذب يعتركان، حتى يخرج أحدهما صاحبه، وإن الصدق يبدو في القلب ضعيفا كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصنا واحدا، فإذا شقها الصبي ذهب أصلها، وإن أكلتها عنز ذهب أصلها فتسقی فتنتشر، وتسقي فتنتشر حتى يكون لها أصل أصيل يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها. كذلك الصدق يبدو في القلب ضعيفا، فيتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى، ويتفقده صاحبه، فيزيده الله، حتى يجعله الله بركة على نفسه، ويكون كلامه دواء للخاطئين .
ثم قال مالك: أما رأيتموهم؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: بلى والله لقد رأيناهم : الحسن البصري، وسعيد بن جبير وأشباهم، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام – الجماعات – من الناس4(4) حلية الأولياء (2/359)..
وذكر الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة محمد بن واسع رحمه الله تعالی فقال: روي أن قاصا كان بقرب محمد بن واسع فقال: مالي أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال محمد: يا فلان ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب5 (5) السير للذهبي (6/ 122)..
الألفة والمحبة بين الناس
الحديث عن سلامة القلب وحب الخير للناس ونقاء القلب من الحسد والبغضاء لهم، إن هذا من علامات الصدق، وبالتالي فإن مثل هذه الصفات إذا وجدت بين الناس فلا شك أن الألفة والمحبة ستسود بينهم، وبالتالي ينشأ المجتمع متآلفا متكافلا تنتشر بين أفراده المحبة والإخاء والتعاون، فلا يخشى بعضهم من بعض أن يخونه أو يغشه أو يكيد له أو يمكر به؛ لأن كل هذه الخلال الذميمة ينفيها الصدق كما ينفي الكير خبث الحديد.
فإذا وجد مثل هذا المجتمع المتواد المتراحم المتلاحم فهو حري بالخير العميم والوقوف أمام كيد الأعداء ومخططاتهم؛ لأن الله سبحانه يقول: ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].
ثم إن الصدق مع الله سبحانه في النصح للمسلمين يقتضي ترك الظنون والإشفاق عليهم والحرص على جماعتهم، وهو بدوره يثمر المحبة والإخاء بين الناس، وعكس ذلك مشاهد؛ فالمجتمعات التي ينتشر فيها الكذب والظنون والغش والخداع مجتمعات متفکكة متدابرة متناحرة، قد ذهبت ريحها وعرضت نفسها لكيد الأعداء واستباحة الديار ، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا … الآية ﴾ [الأنفال: 46].
نعم، إن الفشل هو ثمرة التنازع والتدابر والتباغض الناشئ عن ضعف الصدق مع الله سبحانه في عباده المؤمنين، كما أن التآلف واجتماع الكلمة ثمرة من ثمار الصدق والإخلاص، فلا تكاد تجد صادقا مع الله سبحانه ومع عباده المؤمنين، إلا ويحرص ويسعى إلى كل ما من شأنه التآلف والاجتماع ويكره وينبذ كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم»6(6) رواه الإمام أحمد (5 / 183)، وابن ماجه في المقدمة (230). وهو في صحيح سنن ابن ماجه (187). .
الخير والنماء والبركة
إن الصدق خير كله ليس في الآخرة فحسب وإنما في الدنيا قبل الآخرة ، فبالصدق يأتي الخير والنجاح وتحل البركة في الأموال والأولاد وكل المعاملات والتصرفات، والعكس يكون في الكذب حيث يمحق الله بركة الشيء الناتج عن الكذب والخداع والمكر، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما»7(7) متفق عليه ..
فهذا الحديث وإن كان في البيع والشراء فإنه يفيد أيضأ بركة الصدق في كل الأمور، ولو ظهر أن في الصدق خسارة أو هلاك الأموال فالعاقبة حميدة .
وقد يتوهم بعض الناس أن ستر الحقائق ودفن الأخطاء والعيوب في التعاملات يدر لهم ربحا ويدفع عنهم شرا، وهذا وهم وسراب فلا شيء أفضل وأحسن بركة من الصدق ولو كان قليلا، فقليل يبارك الله فيه خير من كثير يمحق الله برکته.
فإن التاجر قد يكذب في بيعه أو شرائه ويظن أن هذا فطنة وذكاء في كسب المال، وما علم المسكين أن ماله الذي يكتسبه من ذلك هو محق وخسارة وضياع.
وهذا أمر مشاهد وملاحظ حيث نسمع كثيرا من التجار وأصحاب الأموال الطائلة الذين لم يتحروا في مكاسبهم الصدق والحلال؛ نسمعهم يقولون: إننا لا ندري أين تذهب أموالنا ولا نحس ببركتها ونمائها، وغيرهم من الذين حاسبوا أنفسهم في كسب الحلال والصدق في المعاملات؛ نجدهم مطمئنين لما رزقهم الله عز وجل ويشعرون بالبركة فيه ولو كان قليلا.
الهوامش
(1) الفوائد ص135.
(2) الحاكم بنحوه : 3/ 388، وصححه ووافقه الذهبي .
(3) أحمد (3/ 322)، والحاكم (2/ 625) وصححه، ووافقه الذهبي وبنحوه مسلم (3/ 1334) تحت (1709).
(4) حلية الأولياء (2/359).
(5) السير للذهبي (6/ 122).
(6) رواه الإمام أحمد (5 / 183)، وابن ماجه في المقدمة (230). وهو في صحيح سنن ابن ماجه (187).
(7) متفق عليه .
اقرأ أيضا
من ثمرات الصدق.. الطمأنينة والسكينة والثبات
علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”