حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحالقة التي تحلق الدين، وهي الاختلاف وفساد ذات البين، ويعْظُم الأمر بين المجاهدين، والاختلاف شر وفتنة، وقد يتعين الاعتزال في بعض المواقف.

مقدمة

مر بيان ما يجب للمجاهد من أن ينصر الحق (القيام بالحق زاد المجاهد)، وأن يكون موقفه مخلصا لله تعالى وحده لا ينازعه فيه غرض دنيوي (القيام لله وحده زاد المجاهد)، كذلك يجب عليه أن يحذر من آفات الإخلاص وما يضعفه (آفات تحول دون قبول عمل المجاهد)، وأن من علامات ضعف الإخلاص الشحناء والتباغض، والتشفي والانتقام، وطلب حظوظ النفوس، والاقتصار على النظر الفردي دون مصلحة “الأمة”. ويعظم الأمر حين يتعلق الاختلاف بالمجاهدين؛ فعليهم تتعلق آمال الأمة.

ومن هنا يأتي خطر الاختلاف الحالق للدين والموهن للأمة والذي يفرق أمرها ويذهب بقوتها.

ونظراً لخطورة هذه الآفة فلا بد من التحذير من خطرها ومآلاتها العظيمة على الجهاد والمجاهدين وذلك من خلال تقرير الأمور التالية:

الاختلاف شر وفتنة

إن الاختلاف والفرقة بين المسلمين شر وفتنة، وقد جاء في الكتاب والسنة نصوص كثيرة في ذمّ الافتراق والنهي عنه، والحثّ على الاجتماع والائتلاف.

ومع ذلك فقد اقتضت حكمة الله عز وجل وأراد سبحانه كوْناً وقدَراً أن يكون في هذه الأمة فرقة واختلاف، وتحقق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنين وسبعين مله، وإن هذه الأمة ستفرق على ثلاث وسبعين ملة: كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» (1أبو داود (4597) وصححه الألباني في شرح الطحاوية ص 578).

ولكن الله ـ عز وجل ـ الذي كتب هذا الافتراق على عباده كوْناً وقدَراً للابتلاء والاختبار، لم يرض لهم ذلك ديناً وشرعاً، بل جاء في أكثر من آية ذم الافتراق والنهي عنه؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ……﴾ (آل عمران:17) وقوله عز وجل: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران:105).

الخوف من الوقوع في فتنة الاقتتال واستحلال الدماء

إن خطورة الفرقة والاختلاف لا تقف عند حد الاختلاف في المفاهيم ووجود الإحن في القلوب؛ بل إنها في بيئات الجهاد قد تتجاوز ذلك إلى الوقوع في فتنة الاقتتال واستحلال الدماء ـ عياذاً بالله.

وهنا تقع الكارثة وعندها تطيش العقول ويغيب وازع العلم والعقل، وهذا ما يطير له الأعداء فرحاً ويؤذن بفشل المجاهدين وهزيمتهم؛ كما قال عز وجل: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال:46).

فعلى أهل العلم والعقل من المجاهدين أن يحذروا ويحذّروا من هذه الفتنة ويحُولوا بينها وبين من يريد إشعالها ويسعوا إلي وأْدها في مهدها لأنها إذا اشتعلت صعب إطفاؤها، وزاغت العقول والأبصار عن أماكنها؛ قال حذيفة رضي الله عنه:

«ما الخمر صِرفاً بأذهب بعقول الرجال من الفتنة». (2حلية الأولياء 1/274)

ولذا أنصح نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين  بأن لا نكون سبباً للفتنة بين المجاهدين سواء بألسنتنا أو بأقلامنا أو بأيدينا، وأن نسعى قدر الجهد في تأليف القلوب وتوحيد الصفوف وأن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر.

اعتزال الفتنة بين المجاهدين منهج السلف

إن نفَعَ الله عز وجل بجهد المخلصين في درء الفتنة قبل وقوعها أو إطفائها في أول إشعالها فالحمد لله؛ وهذا أمنية كل مسلم محب للجهاد وأهله.

وإن كانت الأخرى ـ لا كان ذلك ـ وتحوّل جهاد الكفار إلى اقتتال بين المجاهدين أنفسِهم؛ فلا خير حينئذ في هذه النهاية البائـسة. وهنا يتعين اعتزال الفتنة والنجاة بالنفس من عواقبها العظيمة في الدنيا والآخرة وهذا ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بعد ذلك .

فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أنه أوْلى بالحق في قتاله لمعاوية رضي الله عنهما فقد قال مادحاً لعدم مشاركة سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الفتنة: «لله منزل نزله سعد بن مالك وعبد الله بن عمر؛ والله لئن كان ذنباً إنه لصغير مغفور، ولئن كان حسناً إنه لعظيم مشكور». (3الطبري 1/106 (319))

وكان من خبر سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه أنه لما قيل له: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، قال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر؛ فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد». (4مجمع الزوائد 7/584 وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح)

وعن عمر بن سعد ابن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أنه قال لي: «يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأساً؟ لا والله؛ حتى أُعطَى سيف إن ضربت به مؤمناً نبا عنه، وإن ضربت به كافراً قتله، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب الغني الخفي التقي».(5الحديث رواه مسلم (2965))  (6الأثر ذكره أبو نعيم في الحلية 1 /94)

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال «إن استطعتَ أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس خميص البطن من أموالهم، كافّ اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم؛ فافعل». (7سير أعلام النبلاء 3 /22)

وعن سلام بن مسكين : سمعت الحسن يحدث قال: «لما قُتل عثمان رضي الله عنه، قالوا لابن عمر رضي الله عنهما: إنك سيد الناس وابن سيدهم؛ فاخرج يبايع لك الناس؛ فقال: لئن استطعت لا يهراق فيّ محجمة قالوا: لتخرجن أو لتقتلن على فراشك، فأعاد قوله. قال الحسن: أطمعوه وخوّفوه؛ فما قدروا على شيء منه». (8سير أعلام النبلاء 3 /239)

وعن حرملة مولى أسامة رضي الله عنه قال: «أرسلني أسامة إلى عليّ وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره. فلم يعطني شيئاً، فذهبت إلى حسن وحسين وابن جعفر فأوقروا لي راحلتي». (9البخاري (7110))

عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه، قال: «لما وقعت فتنة عثمان قال رجل لأهله أوثِقوني بالحديد فإني مجنون، فلما قُتل عثمان قال: خلّوا عني، الحمد لله الذي شفاني من الجنون وعافاني من قتْل عثمان». (10حلية الاولياء)

وعن عمرو بن مرة، عن الشعبي قال: «كان مسروق إذا قيل له: أبطأت عن عليّ وعن مشاهدِه فيقول: أرأيتم لو أنه حين صفّ بعضكم لبعض فنزل بينكم ملك فقال: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء:29) أكان ذلك حاجزاً لكم؟ قالوا: نعم؛ قال: فوالله لقد نزل بها ملَك كريم على لسان نبيكم، وإنها لمُحْكَمة ما نسخها شيء». (11سير أعلام النبلاء 4 /68)

وقال أيوب قال مطرف: «لأن آخذ بالثقة في القعود أحب إلي من أن التمس فضل الجهاد بالتغرير». (12سير أعلام النبلاء 4 /191)

وقال مطرف بن عبد الله: «إن الفتنة ليست تأتي تهدي الناس، ولكن إنما تأتي تنازع المؤمن عن دينه؛ ولأن يقول الله: “لِم لا قتلت فلاناً” أحب إلي من أن يقول: “لم قتلت فلاناً؟”». (13حلية الأولياء 2 /204)

عن عامر الشعبي قال لما قاتل مروان الضحاك بن قيس، أرسل إلى أيمن بن خزيم الأسدي فقال: “إنا نحب أن تقاتل معنا، فقال: إن أبي وعمي شهدا بدراً، فعهِدا إلي أن لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله إلاالله. فإن جئتني ببراءة من النار قاتلتُ معك، فقال: اذهب، ووقع فيه، وسبَّه، فأنشد أيمن يقول:

ولست مقاتلاً رجلاً يصلي    * على سلطان آخــــــر من قريش

له سلطانه، وعلي إثمـي   *  معـــاذ الله من جهـــــــل وطيش

أقاتل مسلماً في غير شيء * فليس بنافعي ما عشت عيشي. (14مجمع الزوائد 7 /579 وقال البيهقي رواه أبو يعلى ورجال رجال الصحيح غير زكريا وهو ثقة)

خاتمة

ما من آفة أُتي منها المسلمون فأوْهنتهم أمام عدوهم، بل ومهّدت للعدو أن يجتاح المسلمين وبلادهم مثل هذه الآفة.

فقد تقاتل المسلمون بعد اختلافهم في الأندلس حتى أكل بعضهم بعضا، واستعانوا بالعدو على بعضهم بعضا، ثم أعان بعضهم العدو على إخوانهم؛ حتى سقطوا جميعا.

والأمر نفسه في تركستان حتى أكلهم الاتحاد السوفيتي ثم الصين، وكذلك بلاد المسلمين في المنطقة العربية.

ولهذا يجب الحذر والتربية على الإخلاص وتأخير الحظوظ، وتحقيق التجرد لله تعالى حتى ينجو المسلمون من الاستئصال، والاسلام من الاندراس.

نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن كما نسأله سبحانه أن يوحد صفوف المجاهدين ويؤلف بين قلوبهم وأن يجعل جهادهم في سبيله ولإعلاء كلمته . اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

………………………………………………………..

هوامش:

  1. أبو داود (4597) وصححه الألباني في شرح الطحاوية ص 578.
  2. حلية الأولياء 1/274.
  3. الطبري 1/106 (319).
  4. مجمع الزوائد 7/584 وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
  5. الحديث رواه مسلم (2965).
  6. الأثر ذكره أبو نعيم في الحلية 1 /94.
  7. سير أعلام النبلاء 3 /22.
  8. سير أعلام النبلاء 3 /239.
  9. البخاري (7110).
  10. حلية الاولياء
  11. سير أعلام النبلاء 4 /68.
  12. سير أعلام النبلاء 4 /191.
  13. حلية الأولياء 2 /204.
  14. مجمع الزوائد 7 /579 وقال البيهقي رواه أبو يعلى ورجال رجال الصحيح غير زكريا وهو ثقة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة