إن الرأي العام الذي ينشده الإسلام في المجتمع الإسلامي هو الرأي العام الصالح المتفق مع عقيدة الأمة وقيمها، هو ثمرة ارتباط أفراد المجتمع الإسلامي برباط ثقافي موحد مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..

تعريف الرَّأيُ العَامُ

وردت تعاريف متعددة للرأي العام منها: ” أنه ميول الناس نحو قضية ما، إذا كان هؤلاء الناس من فئة اجتماعية واحدة “11 E.S.Bo gardus. The Making of public opinio – P. 5.

ومنها: ” أنه الحكم الذي تصل إليه الجماعة في قضية ما ذات اعتبار ما “.

ومن هذين التعريفين يتبين أن الرأي العام هو نتيجة أمور عديدة منها:

1- أن تكون هناك قضية مطروحة.

2- أن تكون هناك مناقشات وافية حول القضية المطروحة.

3- أن يكون (الحكم) الذي تصل إليه الجماعة أو ” الرأي ” متفقا مع22 المرجع السابق.:

أ- عقيدة الأمة.

ب- ملبياً لحاجاتها محققاً لمصلحتها.

ومن الجدير بالذكر أن الرأي العام الذي ينشده الإسلام في المجتمع الإسلامي هو الرأي العام الصالح المتفق مع عقيدة الأمة وقيمها.

ومن الأهمية بمكان أن نقول إن هذا الرأي العام هو ثمرة ارتباط أفراد المجتمع الإسلامي برباط ثقافي موحد مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن شأن أفراده أن يرجعوا إلى حكم الله فيما يعرض لهم من حوادث، وأن ينطلقوا من القيم الإسلامية مهتدين بهديها ليكون الرأي العام فيها وليد عقيدتهم، راجعاً إلى هدى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

تكوين الرأي العام في المجتمع الإسلامي

المبادئ والأسس التي رسمها الإسلام للمجتمع

يتكون الرأي العام في المجتمع الإسلامي نتيجة للإطار الثقافي الذي وضع القرآن الكريم حدوده، وبينته السنة المشرفة، والمبادئ الإسلامية التالية من شأنها أن تبين معالمه:

1- من مبادئ الإسلام أن يرجع المسلم في أموره كلها إلى حكم الله قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم} (الأحزاب: 36) .

2- من مبادئ الإسلام ألا يتسرع المسلم بالحكم على شيء قبل معرفة حكم الله فيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1) .

قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “أي لا تتسرعوا في الأشياء بين يديه، أي قبله بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ ـ رضى الله عنه- حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: “بم تحكم؟ “. قال: بكتاب الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: “فإن لم تجد؟ ” قال: بسنة رسول صلى الله عليه وسلم، قال: “فإن لم تجد؟ ” قال – رضي الله عنه-: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. “. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة ـ قال ابن كثير: فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله33 تفسير ابن كثير: (4/206) . ط دار الفكر..

3- حدد الإسلام المصدر الوحيد لتلقي الثقافة وهو الكتاب والسنة، ولا يجوز للمسلم أن يشوه فكره بثقافة مغايرة، وعلى أولي الأمر في المجتمع الإسلامي أن يحموا أفراد المجتمع من منابع الفكر الغريب المنحرف، حتى لا تقع الأمة في مدارس فكرية مختلفة، فيحصل الانقسام، والفرقة، والتفكك، ومن المناسب هنا أن نذكر غضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) واستنكاره عندما رأى صحيفة من التوراة بيد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وبين أن موسى عليه السلام لو كان حياً لما وسعه إلا أن يتبع رسالة خاتم الرسل ومكمل الرسالات السابقة برسالته محمد (صلى الله عليه وسلم) .

4- من مبادئ الإسلام أن يرجع المسلم إلى العلماء المشهود لهم بالصدق والنزاهة للتعرف على أحكام الله، ومتابعتهم قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83) .

5- من مبادئ الإسلام أن الذي يصيب مسلما بسوء يصيب المجتمع كله، ومن هنا حرم الإسلام الإشاعات الباطلة ونزلت الآيات في حديث الإفك تربية للأمة وتطويراً للرأي العام فيها وصيانة له من الانحراف والجرأة على الباطل بدون بينة.

6- من مبادئ الإسلام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآيات كثيرة تدل على وجوبها.

المؤثرات في تكوين الرأي العام في المجتمع الإسلامي

في ظل هذه المبادئ والأسس التي رسمها الإسلام للمجتمع، نجد أن الإسلام دعا إلى قيام المؤسسات التوجيهية التي تربي أفراد الأمة تربية إيمانية صالحة على عقائد الإسلام وقيمه واتجاهاته ليكون الرأي العام في المجتمع الإسلامي الثمرة المباركة لهذه المؤسَسات وهي:

(1) المسجد

كانت إقامة المسجد العمل الأول الذي بدأ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة.

رسالة المسجد في الإسلام

وليس المسجد في الإسلام مكاناً للعبادة فحسب، إنه مدرسة توجيه وإرشاد يلتقي فيه أفراد الحي كل يوم خمس مرات فيستمعون كتاباً واحداً هو القرآن الكريم ويتلقون توجيهاً واحداً من هدايته، ويستشعرون رابطة الوحدة والأخوة التي تجمعهم وهم صفوف مستوية متراصة تقتدي بإمام واحد.

وفي المسجد تلقى دروس العلم، ويلتقي أبناء الحي يتلقون ثقافة واحدة من هدي الكتاب والسنة وشروح العلماء.

وفي المسجد يلتقي أبناء الحي وتدور بينهم المناقشات حول قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية التي من شأنها أن توحد رأيهم وتجمعهم على طريق سواء.

(2) العلماء

وللعلماء والعاملين الذين يتصفون بغزارة العلم، والزهد، والصدق والإخلاص والجرأة في قول الحق دور كبير في تكوين الرأي العام وتوجيهه نحو الخير.

فالعالم العاقل حتى يكون قدوة حسنه بعلمه ونزاهته وزهده وجرأته وصدقه وإخلاصه جدير به أن يؤثر بالجماهير ويقودها، ولقد حفل تاريخنا الإسلامي بالأمثلة العديدة لهذه القيادة التي قاد بها العلماء الرأي العام لمواجهة بدع المعتزلة في خلق القرآن وتأثير الفلسفة اليونانية في الفكر الإسلامي وضرب هذا الاتجاه الفلسفي ضربة قاصمة بعلمه وصبره وجهاده وثقة الناس به العالم أحمد بن حنبل- رضي الله عنه- والشيخ العز بن عبد السلام- رضي الله عنه- قاد الرأي العام في المجتمع الإسلامي لمواجهة الحاكم الذي تعاون مع الصليبين ضد المسلمين، ولمواجهة الانحراف في المجتمع والفساد الذي كان وراءه بعض الأفراد.

والإمام ابن تيمية – رحمه الله تعالى- وتلميذه ابن القيم قاد الرأي العام وأذكى شعلته لمواجهة التتار من جهة، ولمحاربة البدع والأفكار الدخيلة في المجتمع من جهة أخرى، وكان جهاده في ميدان الفكر كجهاده في ميدان المعركة يعطي الصورة الكريمة للعالم المسلم القادر على قيادة الجماهير بعلمه وموقفه، بقلمه وجهاده، حتى لا ينفصل العلم عن الموقف، ولأن الناس لا ينظرون إلى العلماء بألقابهم ووظائفهِم ورتبهم فحسب، وإنما ينظرون إليهم بسيرتهم وحسن اقتدائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم جهاداً ودعوة.

(3) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والعلماء في المجتمع الإسلامي هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللقيام بهذه الفريضة آثارها الكبيرة في إيجاد الرأي العام الصالح في المجتمع الإسلامي، ولهذا كانت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم مبينة هذه الفريضة داعية الأمة إلى القيام بها. ومنها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

ومن صفات المؤمنين الصالحين أنهم: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} (التوبة: 71) .

-وهناك مؤثرات أخرى في تكوين الرأي العام، عمل الإسلام على توجيهها وربطها بقواعده ومبادئه وهي:

(أ) البيت

وقد أشار القرآن الكريم إلى الذرية الصالحة التي تتبع الوالدين على طريق الإيمان {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} (الطور: 21) ، وأشار إلى خطر انفصال الولد عن أبيه والأسرة عن بعضها إذا انحلت عرى الإيمان فقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} (المجادلة: 22) .

وفي الحديث الشريف: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه”44 متفق عليه. “وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”55 أخرجه البخاري (2554)..

(ب) المدرسة

وهى بيوت العلم التي حرص الإسلام على أدائها لرسالتها مهتدية بقواعد الإسلام ومبادئه في المنهج، والكتاب، والعلم، وحذر أشد التحذير من انحرافها عن الكتاب والسنة، ووجه لأن تكون العلوم المختلفة خادمة العقيدة والإيمان بالله ووحدانيته، حتى لا يتناقض ما يقرأه الطالب في درس التربية الإسلامية عما يقرأه في المباحث الأخرى، ولتكون الثقافة الواحدة التي يتربى عليها أفراد المجتمع في المدارس ثقافة واحدة، توحد الفكر ولا تمزقه، وتساعد على إيجاد رأي عام واحد صالح يخدم أهداف الإسلام ويرعى مبادئه.

لقد أثمرت الثقافة الإسلامية الواحدة التي تلقتها الأمة في المسجد والمدرسة وحدة في الاتجاه العام والرأي العام جعل أبناءها في العصور السالفة على اختلاف تخصصاتهم العلمية في الحديث، والتفسير، والفقه واللغة، والفلك والكيمياء والفيزياء والطب والهندسة أبناء ثقافة واحدة، تسلك طريقهم، وتوحد خطاهم في المجتمع، وتصنع وحدتهم وتقيم أواصر التعاون فيما بينهم.

وحين وقع الانفصال بين الجامع والجامعة، وبين المدرسة والمسجد، وبين مصادر التوجيه، والدين، وأخذت تتسرب للأمة الثقافات المتعددة نتيجة الغزو الفكري الأجنبي، وسيطرة المستشرقين وتلاميذهم على معظم الجامعات في البلاد الإسلامية … وانتقل هذا التأثير المنحرف إلى المناهج والكتب المدرسية في مراحل الدراسة الابتدائية والإعدادية والثانوية في بلاد المسلمين، حين حصل هذا وقع الانفصال بين ثقافة الأمة وشخصيتها الحضارية المستمدة من دينها وتاريخها وأصولها. وأصبح الرأي العام يتأثر تأثراً كبيراً بقيم جديدة وثقافات غريبة أوجدتها مراكز التوجيه المنحرفة. وأصبحت مهمة العلماء صعبة شاقة، ورسالتهم كبيرة ضخمة لإيجاد التغيير في المجتمع، والعودة إلى قيادة الأمة والرأي العام فيها من جديد.

بالإضافة إلى المؤثرات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التي شغلت الناس بالمادة عن الله وعبادته.

(ج) وسائل الإعلام والتوجيه المختلفة

لوسائل الإعلام من إذاعة وتلفزيون وصحافة أثرها في إيجاد الرأي العام، فالرأي العام هو أساس الإعلام … فهدف الإعلام الأول إيجاد الرأي العام أو توجيهه نحو قضية ما أو وجهة نظر مطلوبة وتأثير الإعلام في الرأي العام راجع إلى اتصاله المباشر بالجماهير على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الثقافية.

ورجل الإعلام الناجح هو الذي يعرف نفسية الجماهير ورغباتهم ويحاول توجيهها لمصالح فكرته ومؤسسته.

ودخول وسائل الإعلام كل بيت بغير استئذان، وعرضها للفكرة بوسائل الإقناع المختلفة في أوقات النهار المختلفة يجعل لها التأثير البالغ على عقول الجماهير وإيجاد الرأي العام في الأمة.

ومن هنا كانت خطورة أجهزة الإعلام وأهميتها البالغة إيجاباً أو سلباً، ومن هنا كان على العلماء في البلاد الإسلامية واجب كبير في توجيه هذه الأجهزة والسيطرة عليها حتى تكون معبرة عن عقيدة الأمة وحضارتها، داعية إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، وهذا يقتضي أن تكون لهذه الأجهزة رسالة وفلسفة واضحة تلتقي مع رسالة أجهزة التوجيه الأخرى في المجتمع وهي: المسجد والمدرسة والصحافة والكتاب، حتى لا تتناقض هذه الأجهزة ولا يهدم جهاز ما يبنيه الآخر، ولا تحدث الصراع والتمزق في نفوس أبناء الأمة. كما يقتضي حسن اختيار العاملين في هذه الأجهزة كفاءة وديناً وخلقاً ليكون رجال الإعلام القدوة الحسنة لما يدعون إليه الناس بسيرتهم وخلقهم، ولتكون دعوتهم مؤثرة فاعلة في الجماهير.

إن انفصال رجل الإعلام عن قيم الإسلام وأخلاقه بسيرته وسلوكه جريمة كبرى في أي بلد إسلامي تجعل من اللص (محافظاً على بيت المال)، (والمجرم) مسؤولاً عن حفظ الأمن.!!

كما تقيم الهوة السحيقة بين أجهزة الإعلام وثقة الناس بها، ومن هنا كان من أعظم الواجبات التي يجاهد لتحقيقها العلماء إنقاذ أجهزة الإعلام من التوجيه الفاسد المنحرف في البلاد الإسلامية، والقيام بمسؤولياتهم في توجيه الأمة من خلالها بلغة العصر وأسلوبه وكفاءته.

الهوامش

1 E.S.Bo gardus. The Making of public opinio – P. 5

والإعلام والدعاية نظريات وتجارب. د: محمد عبد القادر حاتم (ص123) .

2 المرجع السابق.

3 تفسير ابن كثير: (4/206) . ط دار الفكر.

4 متفق عليه.

5 أخرجه البخاري (2554).

المصدر

كتاب: “الرأي العام في المجتمع الإسلامي” إبراهيم زيد الكيلاني كلية الشريعة ـ الجامعة الأردنية ، ص244-250.

اقرأ أيضا

دور الأمة في التغيير

أدواءٌ عرقلت أُمّة .. التبعية والغوغائية

حوارات مهمة .. حول أحوال الأمة (1) من نحن

التبعية وقبول الاستذلال .. وإبطان الاستكبار

الأمة الإسلامية بين أسباب السقوط وعوامل النهوض

التعليقات غير متاحة