المتأمل في كتاب الله عز وجل وما ورد فيه من ذكر للترف والمترفين يجد أنه لم يذكر إلا على وجه الذم، وأن ترف المترفين كان سببا في إعراضهم عن الحق الذي أدى إلى هلاكهم في الدنيا والآخرة.
بعض الأسباب التي تقي من آفة التكاثر
إن مما يقي من آفة التكاثر في الدنيا، ويقوي هم الآخرة في النفوس، التعرف على الأضرار الناجمة عن التكاثر، [ألهاكم التكاثر: أضرار وآفات (1-2)] ففيها الدافع القوي لمن وفقه الله إلى الحذر الدائم من الركون إلى الدنيا، والاستعداد لرحلة الخلود الطويلة، والتمهيد للمستقبل الأبدي السرمدي، ومع ذلك فيحسن ذكر بعض الأسباب المعينة على تدارك زمن المهلة، والانتباه من رقدة الغفلة، فإن انضم إلى ذلك صدق العزيمة وعلو الهمة، نفعت بإذن الله عز وجل، نسأله سبحانه أن ينفعنا بها، ومن هذه الأسباب ما يلي:
1- دعاء الله عز وجل واللجوء إليه والاستعانة به سبحانه في التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود
إن الخير كله والتوفيق كله بيد الله عز وجل ، فما أفلح عبد ونجا من فتنة الدنيا وأناب إلى الآخرة إلا بتوفيق الله سبحانه وإعانته، وعلى هذا فإن سؤال الله عز وجل والتضرع إليه سبحانه، واللجوء إليه من أعظم الأسباب وأنفعها للعبد في توفيقه وفلاحه، والعبد هالك ومخذول إن وكل إلى نفسه أو إلى عمله الضعيف.
وهذا سيد العارفين والخائفين والراجين محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يدخل الجنة أحدا عمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته»1(1) البخاري (5673)، في الرقاق ومسلم (2819)..
والأدعية الواردة في سؤال التوفيق إلى عمل الآخرة ونعيمها كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر»2(2) مسلم (2720) في الذكر والدعاء.، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي»3(3) جزء من دعاء رواه الترمذي وحسنه (3497) کتاب الدعوات.، ومن الأدعية النافعة في هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه بعد التشهد الأخير: «اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر»4(4) البخاري (2822).، وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا»5(5) مسلم (1055).، وفي رواية أخرى (كفافا).
قال في شرح مسلم للنووي: (قال أهل اللغة العربية: القوت ما يسد الرمق، وفيه فضيلة التقلل من الدنيا، والاقتصار على القوت منها، والدعاء بذلك)6(6) شرح النووي 7/ 146..
2- العلم بالشرع والبصيرة في الدين ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنی
كلما كان العبد أعلم بالله سبحانه، وبأسمائه وصفاته، وبأحكامه وشريعته، وبالطرق الموصلة إلى رضاه، كان أحرص على ما يقرب إلى الله سبحانه، و كان أكثر استعدادا للآخرة، وأعرف بما يرضي الله عز وجل فيفعله، وما يصده عن الله والدار الآخرة فيتجنبه ويحذره، وهذا من أعظم فوائد العلم الشرعي والبصيرة في الدين، إذا صاحب هذا العلم قوة في العمل والإرادة والعزيمة على ترجمة العلم إلى العمل.
وفي هذا الشأن يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سیره، ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية. فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك، فيقصدها سائرا فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع للماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضا أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها؛ فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعاطبها.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها أبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقي عليه الشطر الآخر، وهو أن يضع عصاه على عاتقه، ويشمر مسافرا في الطريق، قاطعا منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى، واستشعر القرب من المنزل، فهانت عليه مشقة السفر، وکلما سکنت نفسه من کلال السير، ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطا وفرحا وهمة.
فهو يقول: يا نفس أبشري، فقد قرب المنزل، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة فإن صبرت وواصلت المسير وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعي في المفازة؛ فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين، فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامها من أحبابها، وما لديهم من الإكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها، وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء… ولا يوحشه انفراده في طريق سفره، ولا يغتر بكثرة المنقطعين… وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم، بل هي من عوارض الطريق… ولا يستوحش بما يجده من كثافة الطبع، وذوب النفس، وبطء سيرها، فكلما أدمن على السير، وواظب عليه غدوا ورواحا وسحرا قرب من الدار، وتلطفت تلك الكثافة، وذابت تلك الخبائث والأدران، فظهرت عليه همة المسافرين وسیماهم، فتبدلت وحشته أنسا وكثافته لطافة وبدنه طهارة.
فمن الناس من يكون له القوة العلمية، الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفا في القوة العملية: يبصر الحقائق، ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله.
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه السير والسلوك والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعیف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول فساد إرادته، وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة…
ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت کما قيل: سيف فإن قطعته وإلا قطعك.
فإذا كان السير ضعيفا والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفا والقواطع الداخلة والخارجة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده، ويخلصه من أيدي القواطع. والله ولي التوفيق)7(7) طريق الهجرتين 1/ 280 نشر دار ابن القيم تحقیق عمر بن محمد أبو عمرو..
3- قراءة القرآن وتدبره والإكثار من ذكر الله تعالى وإدامته:
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57 – 58].
فالقرآن الكريم أكبر المواعظ وأنفعها للقلب، وذلك لمن تدبره ورعاه، قال سبحانه: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
والذي لا يتعظ بمواعظ القرآن، فإنه مريض القلب، ومن باب أولى ألا يتعظ بغيره، فالإكثار من قراءة القرآن وتدبر معانيه ومواعظه العظيمة من أكبر الأسباب الجالبة لإنشاء هم الآخرة والاستعداد لها؛ لأن القرآن الكريم لا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من ذكر اليوم الآخر، وما فيه من الأهوال العظيمة والحساب والجزاء والجنة والنار، كما أنه يتضمن ذكر الدنيا وفنائها والتحذير منها.
والحاصل أن الحياة مع القرآن ومواعظه ووعده ووعیده يجعل قلب المؤمن في استعداد دائم متصل بهذا اليوم المشهود، كما يجعله حذرا من الدنيا وفتنتها ومتاعها الزائل، وإن مما يعين على تدبر القرآن والتأثر بمواعظه، أن يكون ذلك في الصلاة، وبالذات في صلاة الليل الآخر، قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [آل عمران: 113]، وقال تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل: 6]، وقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 9].
ومما يلحق بقراءة القرآن وتدبره كثرة ذكر الله تعالى في الصباح والمساء، وفي أحوال اليوم والليلة، لما في ذلك من تطرية القلوب وعلاج لقسوتها، فإذا رق القلب بذكر الله تعالى أثرت فيه مواعظ الآخرة، وامتلأ بحب الله عز وجل ، وما أعد لأوليائه في الآخرة، وعکس ذلك القلب القاسي البعيد عن ذكر الله عز وجل.
روی ابن أبي الدنيا: أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، فقال «أدبه بالذكر»8(8) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص 72..
يضاف إلى ذلك ما تشتمل عليه بعض الأذكار من ذكر للآخرة والمصير إليها، والاستعاذة بالله من شرورها ومن عذاب النار، وما فيها من سؤال الجنة ونعيمها؛ كل ذلك مما يذكر بالآخرة، ويجعل العبد في منأى عن الغفلة والنسيان ما دام لسانه رطبا بذكر الله تعالى .
4 – الإكثار من ذكر الموت وزيارة القبور والمرضى وتشييع الجنائز
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات: الموت»9(9) الترمذي في الزهد (2307).، وعن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذکرکم الموت»10(10) الترمذي في الزهد (2308) وقال: حسن غريب. وصححه الألباني. ، ففي الحديثين السابقين إشارة إلى أثر الموت وتذكره في الاستعداد للآخرة، وعدم الركون إلى الدنيا، وعدم الاغترار بلذاتها ومتعها، فإنها زائلة عن قریب بهاذم اللذات ومفرق الجماعات.
ومما يذكر بالموت، حضور تغسيل الموتی وتشييع الجنائز، وزيارة المقابر، والسلام على الموتی، والدعاء لهم، ورؤية القبور المحفورة، وتمثل الإنسان نفسه فيها، وهو لا شك سيرقد فيها في يوم من الأيام.
كما أن في زيارة المرضى الذين أقعدهم المرض، وقربهم من الآخرة مما يذكر أيضا بالموت والاستعداد للآخرة بتدارك الصحة والعافية قبل أن يحال بين العبد وبين ذلك بالمرض أو الموت.
إنه لا شيء في الدنيا أفظع ولا أخطر من ساعة الاحتضار؛ ولذلك فالحضور عند المحتضرين من أسباب رقة القلب وإنابته إلى الله والدار الآخرة.
ويصف ابن الجوزي رحمه الله تعالى ساعة الاحتضار، فيقول:
(من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباها لا يوصف، ويقلق قلقا لا يحد، ويتلهف علی زمانه الماضي، ويود لو ترك كي يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار یقینه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف، ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى، فالعاقل من مثل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك)11(11) صيد الخاطر ص146..
ويصف الأستاذ إبراهيم السكران فرج الله كربه حقيقة الموت فيقول:
(حين يتمعن الإنسان في هذه الحقيقة الكبری، حقيقة الموت؛ تسري به سلسلة التساؤلات إلى هذه المفارقة التي نعيشها يوما؟ أعني التناقض بين العقيدة والسلوك، إذا كنا نؤمن فعلا بأن لحظة توديع الدنيا قريبة منا، قريبة منا جدا؛ إنها لحظة بالأبواب، إنها على طرف الثمام، وقد أخذت أعدادا ممن ساکنونا وآکلونا وناقشونا وزاملونا ودرسونا؛ فكيف يا ترى نغفل ونحن نرى أخبار الموتی لا تتوقف؟ وقد أشار القرآن إلى هذه المفارقة بين قرب الأجل في مقابل استمرار الغفلة، فقال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ) [الأنبياء: 1].
وأخذت مرة أتأمل أسباب هذه الإشكالية في كتاب الله، وأحاول البحث عن موقف القرآن من هذه العلاقة، فوجدت ثلاثة مشاهد صور القرآن تفاصيلها، تكشف سرا من أسرار المشكلة، ألا وهو مشكلة التأجيل.
فهذه الخطايا التي لا زلنا نواقعها لا تجدنا غالبا مخططين للاستمرار عليها، وإنما نقول في أنفسنا إنها مجرد فترة يسيرة وسنصحح أوضاعنا جذريا، لكن الزمان يتفارط، وينسل الوقت من بين أيدينا ونحن لا نشعر، حتی نتفاجأ بملك الموت واقف ليأخذ أرواحنا في الساعة المقدرة… أرأيت؟ إنه الذهول عن الحقائق الكبرى تحت غرامة التأجيل..
أخبرنا کتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يسألون الله أن يرجعهم، ويعاهدونه أن يعملوا الأعمال الصالحة التي أجلوها، ولكن هيهات، لقد فات الأوان، يقول تعالى: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99 – 100].
أمامنا اليوم فرصة للعمل الصالح قبل أن تأتي هذه الساعة القريبة المفاجئة، التي لن تنفع فيها التوسلات بالعودة لزمان العمل..
وأخبرنا کتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يسألون الله فسحة زمنية يسيرة، ليتصدقوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن فات الأوان؟! يقول تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 10-11].
وها نحن الآن في زمن إمكانية التصدق، فهل سنتردد في قرار النفقة حتى تأتي تلك الساعة التي نبدي فيها الاستعداد للتصدق، ولكن بعد فوات الأوان؟!
وأخبرنا کتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يعلنون التوبة ويستغفرون الله، ولكن هل هذا هو وقت التوبة والاستغفار؟ يقول تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 18].
لا زلنا الآن في الساعات الأخيرة التي تسبق إغلاق باب التوبة، والتوبة إلى الله تحتاج قرارا فوريا عاجلا، قرار لا يحتمل التأجيل ثانية واحدة، قرار يجب أن يدشن الآن، قبل أن تفوت الفرصة..
هذه المشاهد الثلاثة التي ذكرها القرآن عن أحوال المحتضرين وأمنياتهم، من أشد المشاهد زلزلة لمشاعر المؤمن الموقن بلحظة الموت وقربها.. وخصوصا إذا وضع نفسه في هذه المشاهد، فتخيل كيف لو كان هو نفسه يسأل الله عند الاحتضار أن يعود للدنيا ليعمل صالحا، أو يسأل الله أن يعود للدنيا ليتصدق ويكون من الصالحين، أو يسأل الله عند الاحتضار أن يتوب عليه ويغفر له، وفي كل هذه الأمنيات يواجه بالرفض؛ لأنها دعوات تجاوزت الموعد النهائي للقبول، وقد كان يمكنه ذلك لو بادر قبل هذه اللحظة ..)12(12) ذهول الحقائق موقع المسلم..
الهوامش
(1) البخاري (5673)، في الرقاق ومسلم (2819).
(2) مسلم (2720) في الذكر والدعاء.
(3) جزء من دعاء رواه الترمذي وحسنه (3497) کتاب الدعوات.
(4) البخاري (2822).
(5) مسلم (1055).
(6) شرح النووي 7/ 146.
(7) طريق الهجرتين 1/ 280 نشر دار ابن القيم تحقیق عمر بن محمد أبو عمرو.
(8) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص 72.
(9) الترمذي في الزهد (2307).
(10) الترمذي في الزهد (2308) وقال: حسن غريب. وصححه الألباني.
(11) صيد الخاطر ص146.
(12) ذهول الحقائق موقع المسلم.
اقرأ أيضا
ألهاكم التكاثر: أضرار وآفات (1-2)
سورة التكاثر وما ورد في معناها من آيات