إنّ وضوح هوية المشروع ورؤيته وغاياته وتجريده عن الأيديولوجيات الأرضية الشائعة قيمة مركزية لمن طالع السيرة النبوية ونظر إلى كليّاتها لا أحداثها فحسب، وعادة ما يستدلّ المشتغلون بالسياسة بأحداث مجتزأة من السيرة النبوية..

نقد فكرة “التدرج السلس”: بين قناع التكيف ووجه الهوية

إحدى أكثر الأفكار التي طفت على السطح في العقدين الأخيرين وهي تتناقض بشكل كامل مع المفاهيم الإيمانية الإسلامية: فكرة إقامة الشريعة والغايات الإسلامية للدولة من خلال التدرُّج المخادِع السلس، بلا ابتلاءات وصبر، ولا صعوبات أو تحدّيات كبيرة، بل مع ارتفاع للاستهلاكية والرفاهية وانخراط في النظام الاقتصادي الليبرالي المتوحّش!

التناقض الذاتي: الخوف من النظام الدولي والانخراط في مشاريعه

وهذه الفكرة تحمل تناقضًا ذاتيّا: إذ إنّها تنطلق من صعوبة إقامة الشريعة بشكل واضح بسبب الهيمنة الخانقة للنظام الدولي وخشية ضرب المشروع. أي أنها تعترف بثقل الجهات التي ستنقضّ على هذا المشروع، ومع ذلك تحاول التسلل في أروقتها والسير على مزاجها دهرًا وهي ترتدي “قناعًا” تَعِدُ جماهيرَها (أو يَعدُهم “شيوخُها”) بأنّها ستخلعه يومًا ما. والذي يحدث عادةً أنّ القناع يصبح مع الزمن جزءًا من الوجه فتستحيل إزالته، هذا إنْ توفّرت النية والإرادة لخلعه بعد “التخمّر” في بيئة النظام الدولي ومعاييره الفتّانة!

منهج وسط: بين التصادم الفج والاندماج المُذيب

والمسلك الأصوب والأنجح في نظري، بناء على فهمي للسيرة النبوية وللتجارب التاريخية والمعاصرة، ليس الإعلان المباشر الفجّ عن “خلافة” أو “دولة إسلامية” تكسر الحدود ومحاربة العالم وإطلاق شعارات العداء شرقًا وغربًا، ولا إخفاء الهوية والخطاب والغاية والانسجام في القول والفعل مع إرادة النظام الدولي والمعايير العلمانية “على نيّة الفرج”. بل مزيج من الوضوح في الهوية والخطاب والغاية وإقامة الدين على قدر الاستطاعة من جهة، مع التروّي وتصفير العداءات وقطع الذرائع وعقد الهدن والتحالفات التي لا تأتي على حساب الدين والولاء من جهة أخرى.

الوضوح كقيمة مركزية: قراءة منهجية في السيرة النبوية

إنّ وضوح هوية المشروع ورؤيته وغاياته وتجريده عن الأيديولوجيات الأرضية الشائعة قيمة مركزية لمن طالع السيرة النبوية ونظر إلى كليّاتها لا أحداثها فحسب، وعادة ما يستدلّ المشتغلون بالسياسة بأحداث مجتزأة من السيرة النبوية، مبتورة من سياقها ومن مشروع التمكين النبوي؛ لأنّها أقرب إلى أن تكون استدلالات “رغائبية”، تقرّر أولا ما تريد أو تسير في مسار تفرضه الإغراءات أو الإملاءات أو التقديرات الفهلوية الشخصية، ثم تأتي مهمّة “الظهير الشرعي” ممثّلا بمشايخ ودعاة يسوّغون هذا الاختيار عبر الانتقاء من “كتالوج” السيرة أو التاريخ ما يدعم الخيار الراهن للسلطة، مع شيء من ليّ النصوص وعزلها عن سياقها وضعف ظاهر في القياس والربط!

كيف تُحرَّف السيرة النبوية: الاجتزاء والانتقاء لتبرير الخيارات السياسية

وشعاري الذي لا أملّ منه: خُذوا السيرة كلّها أو دعوها. لا بمعنى محاولة استنساخ أحداثها حرفيّا كما يفعل بعض المنظّرين الإسلاميين، ولكن بمعنى رصد مسار التمكين كمنهج مترابط، تترابط أجزاؤه برؤية كلية، ولا تكون فعّالة ومثمرة (وهذا هو المحكّ) دون حمل المشروع كاملا.

فالذي يستدلّ بحدث هنا أو هناك من السيرة ينبغي ألّا ينسى أنّ الدعوة النبوية كانت واضحة متألّقة في وضوحها منذ البداية: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}، وأنّ أهل مكة وسائر العرب أدركوا تمامًا ماذا يريد الرسول صلّى الله عليه وسلّم من تغيير جذري على المستوى الفردي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيرها من مستويات الحياة وآفاقها. ولم يحاول – صلّى الله عليه وسلّم – مخادعتهم ولم يصرّح بموافقتهم على بعض مبادئهم ولم ينخرط في مشاريعهم الجاهلية رغم الضعف وقلّة الحيلة والفاقة والحصار آنذاك. ونحن إنْ لم نصل إلى المستوى النبوي بطبيعة الحال، فإننا مأمورون بالاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم.

وضوح الرسالة: عامل جذب للإنسانية في بحثها عن الإنقاذ

وهذا الوضوح هو أيضًا عامل جذب لأي مشروع؛ لأنّ البشرية أجمع (لا المسلمين فحسب) تبحث عمّا يستنقذها من ركام الجاهليات، وضميرها يئنّ تحت وطأة الصراع الدائم مع بُنى هذه الجاهلية القاهرة التي تزداد ثقلًا وقتلًا للإنسانية. والرسالة الإسلامية في أبعادها جميعًا (إيمانية وتشريعية واجتماعية وسياسية واقتصادية وغير ذلك) تحمل الترياق الواضح الذي سيجذب العناصر الخيّرة لتأييد هذا المشروع طوعًا لا كرهًا.

التحديات حتمية: العقوبات الدولية ثمن أي خروج عن الإرادة السائدة

وهذا المسار الصعب الطويل المتدرّج – لكنِ الواضح – سوف يجلب العقوبات الاقتصادية الجزئية أو الشديدة لا شكّ في ذلك، وأي خروج عن الإرادة الدولية سيجلب العقوبات والمتاعب ومحاولات الإسقاط حتى لو لم يكن في نموذج إسلامي كما يحدث مع بعض الدول التي تخرج قليلًا أو كثيرًا عن الجادة، فما بالك بدولة تنشُد إقامة الشريعة!

بناء القوة الذاتية: طريق الصمود والتمكين في مواجهة التحديات

لكنّه مسارٌ يركّز على محاولة تجنّب ضرب المشروع في مهده، والتخذيل عن إفشاله بكل الطرق المستطاعة ما لم تكن انخراطًا في مشاريع الآخرين واستلابًا لإراداتهم ورؤاهم وقبولًا بسيادتهم وقيادتهم. ويتوجّه – بفعل وضوح الرسالة والمشروع والتحدّي – إلى بناء القوة الذاتية شيئا فشيئا، ومدّ أيدي التعاضد مع البلدان المسلمة التي لا تعاديه قياداتُها، إلى أن يأذن الله بتغيّر ميزان القوى بجدّ المسلمين واجتهادهم، لا بانتظارهم فحسب!

المصدر

صفحة الأستاذ شريف محمد جابر، على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

هل اخترع الإسلاميّون مفهوم الشريعة؟

يؤمنون بالشريعة .. إلا قليلاً !

التعليقات غير متاحة