هذه أسطرٌ أُسطِرُ فيها بعض ما أعتقد أنه نصيحة لكل ناظرٍ في النوازل، وفيها أضع اليد على جروحٍ تنزف في الجسد الفقهي؛ تسببت في أمراض في النظر الفقهي؛ أدى إلى تشوه في أهم المخرجات الفقهية؛ وهي فقه النوازل والتي عليها مدار الاجتهاد، والنظر، وهي ثمرته، ومواطن أسباب الخلل حين النظر في النازلة في منتهى الخطورة لمن غفل عنها، وهي من أهم أسباب النجاة لمن حاذر من الوقوع فيها، فوجدت أنه من النصيحة بيان أهمها ولا أزعم أني أحطت بها؛ ولكن لعل من أنار الله بصيرته للوقوف على مثل هذه الأخطاء – التي كانت سبباً في الانحراف بفقه النوازل – أن يكمل ما ابتدأناه؛ فإن هذه الأمة يكمل بعضها بعضاً فهي كالجسد الواحد.
وقد تحدثنا في مقال سابق ” أسباب اختلال فقه النوازل (1-4) ” عن موطنين من مواطن الخلل ونكمل في هذا المقال بعض المواطن الأخرى.
من مواطن أسباب الخلل في فقه النوازل
الموطن الثالث: انهماك العالم في معرفة سبيل المؤمنين، والغفلة عن معرفة سبيل المجرمين
وإليك هذه القاعدة التي وضعها ابن القيم: (قاعدة جليلة قال الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) وقال: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ)، والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام.
فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية فاستبانت لهم السبيلان كما يستيبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة ولهذا برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة فإنهم نشأوا فى سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة ثم جاءهم الرسول فأخرجهم الله به من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام ومن الشرك إلى التوحيد ومن الجهل إلى العلم ومن الغي إلى الرشاد ومن الظلم إلى العدل ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به ومقدار ما كانوا فيه فإن الضد يظهر حسنه الضد وإنما تتبين الأشياء بأضدادها فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: “إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية” وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول فإنه من الجاهلية فإنها منسوبة إلى الجهل وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع فرق الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية : من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
الفرقة الثالثة : من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه.
الفرقة الرابعة : فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال من اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها بالتفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك بل عرفها معرفة مجملة)1(1) كتاب الفوائد لابن القيم: ص108-109..
فكثير ممن يبدو لنا منه الخير ونظنه على ذلك، تصدر منهم أقوال يتعجب منها الصادقون، وهم إنما أتوا من قبل الجهل بسبيل المجرمين، وأذكر أن شيخاً توفي غفر الله له ورحمه، دعا حركة حماس في لقاء تلفزيوني أن تسلم أسلحتها لولي الأمر التي هي السلطة الفلسطينية، وكان موطن تهكم رحمه الله وعفى عنه، وهو لا يعلم حقيقة هذه السلطة ودورها، وأنها إنما هي جاسوس لليهود داخل المجتمع الفلسطيني، والأمثلة على مثل هذه الكوارث كثيرة لكن المراد من المثال البيان ليس الاستقصاء.
الموطن الرابع: عدم الفهم الصحيح للإسلام
فإن الإسلام ليست الفكرة الضيقة التي يفهمها بعض الناس ولا المنهج المرسوم في تصوراتهم بل الإسلام حبل الله المتين الذي هو أوسع من عقيدة سطرت في كتاب، أو شروحاته، فلابد من التفريق بين صورة الإسلام وحقيقته التي هي المنهج الصافي السوي، فالذي يرجوه الفقيه أن يكون عباد الله على المشرب الصافي الذي كان عليه محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، فيجب الصدع به وبيانه ودعوة الناس إليه، أما في حال النصرة ودفع أهل الكفر فليس المسلم فقط من تنطبق عليه العقيدة الواسطية أو الحموية، وفعل ابن تيمية في قتاله مع الأشاعرة ضد التتار معلوم.
وترى من يسأل عن طالبان فيلمزهم بأنهم أشاعرة، أو ماتوريدية مع أنه لا يعلم حقيقتهم، وكأن الأمريكان جاءوا لخير البلد وإصلاحه. إن صاحب هذه المقالة بعيد عن فهم مقاصد الشريعة.
ومن تأمل منهج النصرة في الإسلام علم أنه باب واسع، فبنوا إسرائيل كان فيهم من الجهل بمعالم الإسلام والتوحيد ما ذكر لنا في القرآن كما في قولهم: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) [الأعراف:129] ومع ذلك أُمر موسى بنصرتهم وإخراجهم من سلطة فرعون وظلمه.
الموطن الخامس: الدوافع النفسية من خوف وطمع
فالمؤثر النفسي قد عدته الشريعة من مواطن الاختلال، فقد قال صلى الله عليه وسلم : «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»2(2) صحيح البخاري حديث رقم: (7158)..
فالقاضي إنما هو ناظرٌ في نازلة فلابد أن يحذر من المؤثرات التي تشوش عليه، وإذا كانت الشريعة حذرته من مواطن التشويش والقضاء في الغالب قضايا أفراد، فكيف بالنوازل التي هي قضايا أمة.
والمؤثرات على الفقيه لها أشكال:
الخوف من السلاطين والحكام
1) الخوف: فقد يكون خوف الفقيه يوهمه بالتسويغ لحاله التي هو عليها، ويؤنس نفسه بأنه على شيء، ولو رفع الخوف لرأيت فقهاً غير ذلك، والذي ينبغي أن يعلمه الفقيه أن الخوف الطبعي من غير الله وإن كان سبباً في باب الأعذار، لكنه من باب الضرورات، والأصل في المسلم أن لا يمنعه الخوف من غير الله من تعطيل الأمر الشرعي، وليعلم أن خوف القلب إنما هو من أمراض القلوب، يقول ابن تيمية: (ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه كما ذكروا أن رجلا شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: لو صححت لم تخف أحداً. أي خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك. ولهذا أوجب الله على عباده أن لا يخافوا حزب الشيطان؛ بل لا يخافون غيره تعالى)3(3) مجموع الفتاوى، (28/449)..
ارتباط مصالح العالم والفقيه بالحكام والدخول عليهم في مجالسهم
2) ومن المؤثرات: المصالح التي يخشى عليها العالم من مال، أو ارتباط مع الحاكم، فالعالم الذي ارتبطت مصالحه بالحاكم فلا تنتظر منه الوقوف في وجه الظالم، بل يلبِّس عليه إبليس أن هذه المصالح الشخصية إنما هي من باب مصالح الدين، وأن بقاء الدين ببقاء دولة الظالم؛ وكأن حفظ الدين لم يتكفل به الحي القيوم، وخفاء هوى النفس على العالم تكلم به ابن دقيق العيد حيث بين أن العالم قد يفتي بهواى خفي في نفسه وهو لا يعلمه.
فالسبيل إلى النجاة من هذا الهوى الخطير هو الأخذ بمبدأ الإمام أحمد رحمه الله في عدم فتح هذا الباب؛ بل ليعلم من فتح هذا الباب أنه سوف يطمس على قلبه، فهو لا يوزن بسفيان الذي يقول حينما سئل عن باب التفسير، “أخذت الصرة من أبي جعفر فأغلق هذا الباب ولا أظنه يفتح”.
ومهما سوغ العالم لنفسه، وقال إن للسلف إحدى طريقين إما الابتعاد أو الدخول فمن ذا الذي يسلم؛ بل بعده أقرب إلى الهيبة من أمر الشريعة، أما إذا تبذل نفسه في مجالسهم علموا أقصى ما عنده، يذكر أن محمد بن واسع دخل على مالك بن دينار، وإذا برسول السلطان يعطي مالكاً صرة فيها مال، فقبل مالك هدية السلطان وأنفقها في الناس، ولم يأخذ منها شيئاً، فقال محمد بن واسع: أقبلت هدية السلطان؟ قال: أما رأيتني قد أنفقتها في طلاب العلم؟ قال: أسألك بالله أقلبك عليه بعد أن أخذت الصرة كقلبك عليه قبل أن تأخذها؟ قال: لا.
تأثر العالم والفقيه بانتمائه لجماعة أو بضغوط الشعوب
3) ومن المؤثرات: الارتباط المقيت مع مصالح الجماعات الإسلامية: فتجد بعض العلماء قد يكون ممن يقارع الظلمة، لكنه لا يستطيع أن يخالف الهوى العام للجماعة، بل ومثله من يراعي الضغط الشعبي للعوام، لذلك يجب على العالم أن يتجرد لربه، ويضع نصب عينيه عظم الرسالة، وأن يكون على منهج الأنبياء الذين قال الله فيهم: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب:39] فأحداً نكرة في سياق النفي فتعم كل أحد سواءً حاكم أو محكوم أو جماعة.
الموطن السادس: الخلل في العقيدة
إن الارتباط بين الفقه والعقيدة يمثل منهج الإسلام، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة:208] والفصل بين الفقه والعقيدة إنما هو منهج اليهود، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة:85]، فالفصل بين الفقه والعقيدة من أهم أسباب اختلال فقه النوازل، حتى ترى بعض من يعد نفسه من علماء الأمة ينقل عن الروافض الباطنية أقوالهم وكأنها تعنينا في شيء، حتى إذا نزلت النوازل العظام في بلده لم تسمع له ركزا، إذن لا تنتظر فقهاً للنوازل راشداً إلا بعقيدةٍ ربانية، فالفقيه لا بد أن يكون محصناً في أبواب التوحيد الثلاثة:
إيمان الفقيه بربوبية رب العالمين يقيه من الخلل والميل
1) فالفقيه لا بد أن يعلم أن ربه هو الذي (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) [طه:6]، فماذا بقي بعدها لمن دون الله، وسبحانه ربنا له ذلك كله وهو المتصرف به في العطاء والمنع، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:2-3].
فهل ترى فقيهاً آمن بهذا ، يؤفك قلبه وينصرف بالرجاء والابتغاء لمن هو دون الله، إن من آمن إيماناً سليماً بالربوبية فلا تخشى على قلبه وفقهه من الخلل والميل، فهو يعلم أن الخلق والأمر كله لله، وأن السداد والعون إنما هو من الله.
إيمان الفقيه بربوبية رب العالمين يوفقه إلى الهداية والسداد
2) فإذا وحد الفقيه ربه بربوبيته، فلن يصرف الفقيه من أحوال التعبد إلا لربه، الذي لم يتخذ من دونه أرباباً، فتجده يفتي لله، ويعظ لله، ويعلّمُ لله، وينظر في الوحيين لله، ويطالع العلم لله، فلا تسل بعدها عن الهداية والسداد والتوفيق.
إيمان الفقيه بالأسماء والصفات طريق الربانية والرسوخ
3) وهو في فقهه يعلم أن ربه هو الحكيم، فلا يبتغي الحكمة إلا في وحي الله، وأن ربه هو العليم فلن يعرض عن علم العليم وهو كتابه وصفته إلى جهالات المخلوقين، وأن ربه عالم الغيب، فيكون الفقيه على تسليمٍ لأمر ربه، وانطلاق الفقيه بفقهه من الأسماء والصفات من أهم موارد الربانية والرسوخ، وهذا من أهم مقاصد القرآن في تربية المسلم، وليعلم مدعي السلفية أنهم لن يكونوا على شيء حتى يؤمنوا بمقتضى الأسماء والصفات، فهم يتملصون من نصرة بعض المسلمين ويتنكرون لهم، وينكرون على من يدعوا لنصرتهم بحجة أنهم أشاعرة، ولو تأملوا في حالهم لوجدوا أنهم أشنع حالاً في باب الصفات من الأشاعرة، فإذا كان الأشاعرة يتأولون الصفات، فإنهم يعطلون مقتضى الصفة، فهم يثبتون صفة الرزاق في الظاهر، لكنهم لا يؤمنوا بمقتضاها في الباطن، فلو كانوا يؤمنون بمقتضاها لما تعلقت قلوبهم بما في أيدي الظلمة من مصالح الدنيا، مع أن المؤمن الحق يعلم أنها في أيديهم في الظاهر، أما أمرها الحق فهو بيد (الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:58] فهؤلاء أقرب في الحال إلى المعتزلة الذين يذكرون الأسماء وينكرون مقتضاها فالمعتزلة ينكرونها لفظاً، وهم ينكرونها حالاً.
وإذا كانوا يعيبون على الأشاعرة انحرافهم في طريقة تأويلهم للنصوص، فلماذا لا يعيبون على أنفسهم في تعطيلهم لنصوص قطعية من أجل ساداتهم وكبرائهم، بل كيف تسول لهم أنفسهم أن تعطل شريعة الله في أرضه وملكه وسلطانه، وهم يظنون أنهم يثبتون ظواهر الكتاب والسنة.
جهل الفقيه بصور الشرك المعاصرة
ومن هذا الباب – باب الخلل في التوحيد – الجهل بالشرك وصوره، فحينما يفتي أستاذ في الشريعة بجواز الفوائد البنكية – وهي الربا الصريح في المسمى الشرعي- ويعلل الحكم بما رآه ولى الأمر من المصالح ، ويستند على قاعدة المصلحة أو الضرورة ، ولا يعلم أنه عقدياً قد وقع في شرك الطاعة، وحتى من الناحية الفقهية فإنه قد أخطأ فهو قد استند على مصلحةٍ ملغاة، لأنها تعارض النص الشرعي، لكن أنظر إلى جرأة مثل هذا كيف يقدم حكمة ما يسميه ولي أمره، على ما رآه الحكيم العليم من مفاسد لهذه المعاملات الربوية، فيحل ما حرم ربنا، وينطق بذلك على الملأ، ألم يقرأ قوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31]، فإن كان جهل تفسير هذه الآية، ألم يقرأ تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: ” (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة: 31] ” ، قَالَ: قُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ قَالَ: ” أَجَلْ ، وَلَكِنْ يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ ، فَيَسْتَحِلُّونَهُ ، وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ ، فَيُحَرِّمُونَهُ ، فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ لَهُمْ “4(4) تفسير ابن أبي حاتم – رقم الحديث : 10290.. فإذا كان يجهل مثل هذا فلماذا يتصدر لإفتاء عباد الله.
الهوامش
(1) كتاب الفوائد لابن القيم: ص108-109.
(2) صحيح البخاري حديث رقم: (7158).
(3) مجموع الفتاوى، (28/449).
(4) تفسير ابن أبي حاتم – رقم الحديث: 10290.
اقرأ أيضا
أسباب اختلال فقه النوازل (1-4)
أسباب اختلال فقه النوازل (3-4)