إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها. كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات!…

توضيح سيد قطب لأهمية العقيدة الإسلامية من خلال بيان العقائد الجاهلية

يرى سيد قطب أن إدراك معنى العقيدة الإسلامية متوقف على مراجعة ركام عقائد الجاهلية، فالمقابلة والمقارنة تظهر الخصائص، وفي ذلك يقول: ” وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها. كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق”11 – قطب، في ظلال القرآن، (1/24)..

ومعرفة عقائد الجاهلية – قبل الإسلام – تعطي فكرة عميقة عن أثر العقيدة الإسلامية في أحوال الناس، قال سيد: ” ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة -وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير!”22- المصدر السابق: (1/23)..

وهذا الذي يقوله سيد قطب، هو ذاته الذي ذهب إليه محمد رشيد رضا، ففي مقدمة تفسيره ذكر أن من واجبات المفسر أن يعلم ما كان عليه حال الناس من العرب والعجم حتى يعلم تأثير القرآن في هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور33- انظر: رضا، محمد رشيد بن علي، (ت: 1354هـ)، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بدون ذكر الطبعة، 1990 م، (1/ 21)..

تصور سيد قطب عن الجاهلية

وقبل أن أعرض لبعض عقائد الجاهلية، لا بد من التنويه، أن الجاهلية عند سيد قطب ليست فترة زمانية محددة، وإنما هي وصف لواقع معين، كلما وجد هذا الواقع صح أن يطلق عليه حكم (جاهلية).

يقول سيد وهو يفسر قول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 50]،: “إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص . فالجاهلية -كما يصفها الله ويحددها قرآنه -هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله. إن الجاهلية – في ضوء هذا النص – ليست فترة من الزمان؛ ولكنها وضع من الأوضاع . هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام”44- قطب، في ظلال القرآن، (2/904)..

فالجاهلية عنده لا يقابلها التقدم العلمي ولكن يقابلها تحقيق الحاكمية في واقع المجتمع.

 عقائد أهل الكتاب عموماً، وعقائد العرب قبل الإسلام

ونأتي الآن على بعض عقائد الجاهلية التي عرضها سيد قطب في تفسيره، ونقتصر هنا على العقائد التي كان لها تأثير في جزيرة العرب وكان لها موقف من عقيدة الإسلام، غاضين الطرف عن عقائد ضآلة لأقوام غابرة ذكرها القرآن. فقد “جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة”55 – المصدر السابق: (1/23)..

 ومن العقائد التي بينها صاحب الظلال، ليظهر عظمة العقيدة الإسلامية، عقائد أهل الكتاب عموماً، وعقائد العرب قبل الإسلام، وذلك على النحو الآتي:

أولا: عقائد اليهود

يظهر الانحراف في عقائد اليهود كما يرى سيد قطب من عدة جوانب، أهمها66 – انظر: المصدر السابق، (1/23، 2/866، 2/679).:

(1) نسبة الولد إلى الله. وهذا انحراف في التصوّر، لأن فيه تشبيه الخالق بالمخلوقين، واعتقاد بأن الله يحتاج إلى الولد كما يحتاج إليه المخلوق، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 3].

(2) وصفهم الله بصفات نقص- تعالى الله عما يقولون- حيث قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة : 64]، {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].

(3) الادعاء بأنهم أبناء الله وأحباؤه. فقد افتروا على الله الكذب حين ادعوا أنهم أبناء الله، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة : 18]، وبناء عليه قالوا بأن الله لن يعذبهم بذنوبهم، وأنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودة ، {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 80]، قال سيد: ” ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه! وأنه سبحانه -يحابي فريقاً من عباده، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الآخرين! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف؟”77 – قطب، في ظلال القرآن (2/ 866)..

(4) الاعتداء على حق الله تعالى في التحليل والتحريم. وهذا حق خالص لله دون أحد، فالألوهية والربوبية تقتضي على أن السلطان والسيادة والتحليل والتحريم في حياة البشر هي لله وحده، والعبودية لا تكون الا لله، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة : 31].

قال سيد: “وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله ، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء؛ وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم . وبذلك اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله. وأكلوا الربا، ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابه الذي أنزله عليهم”88 – المصدر السابق: (2/ 679)..

ثانياً: عقائد النصارى

أما النصارى فيمكن إجمال تحريفهم لعقيدة التوحيد- كما يرى سيد قطب- بعدة أمور99 – انظر: المصدر السابق، (3/1624، 3/1642، 4/2069).:

(1) قولهم إن الله هو المسيح بن مريم، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 72].

(2) قولهم إن المسيح ابن الله، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]

(3) القول بعقيدة التثليث، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171].

(4) الاعتقاد بألوهية عيسى وأمه- عليهما السلام- وتقديم الشعائر اليهما في العبادة، وهو خلط بين طبيعة الالوهية وطبيعة النبوة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة : 116].

(5) اتخاذ الرهبان أرباباً من دون الله، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. قال سيد قطب: “إن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة. فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركاً بالله، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين، أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له”1010 – قطب، في ظلال القرآن (3/1624)..

ثالثاً: عقائد العرب قبل الإسلام

يظهر الانحراف في عقائد العرب قبل الإسلام- كما يرى سيد قطب- من خلال عدة أمور، أهمها1111 – انظر: المصدر السابق: (1/199، 1/366، 2/760، 2/1031، 2/1041، 2/1048، 3/1182، 4/2177، 6/3406-3407).:

(1) كانوا يعتقدون بوجود خالق للوجود وأن له ما في السموات والأرض، والظاهر أن هذا الاعتقاد من بقايا ديانة التوحيد عن جدهم إسماعيل- عليه السلام- قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}  [العنكبوت : 61].

ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه العقيدة نتائجها المنطقية من توحيد الله بالعبادة والحاكمية، فاشركوا في العبادة، وابتدعوا شرائع وتقاليد نسبوها الى الله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 28]، وإن لم يجعلوا لله شركاء في الخلق.

(2) زعموا أن الملائكة بنات الله، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16]، {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء : 40].

(3) عبادة الأصنام، التي هي تماثيل للملائكة – بنات الله بزعمهم- ويعتبرونها الهة دون منزلة ومرتبة الخالق، ويعبدونها على أن لها شفاعة وتقربهم الى الله، ثم نسي هذا الأصل وعبدوا جنس الحجارة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى…} [الزمر: 3]، {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء : 117].

(4) ومن العرب من جعل بين الله وبين الجِنة نسبا فعبدوهم، قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158].

من خلال هذه النقاط الأربعة يتبين شمول سيد قطب وعمقه في البحث، فغيره من العلماء1212 – انظر: د. الأشقر، عمر سليمان، العقيدة في الله، (286-292). حصر شرك العرب في عبادة الأصنام، ولم يتطرق إلى باقي النقاط مع أن القرآن أكثر من ذكرها.

مما سبق يتضح للباحث أن معتقدات أهل الكتاب ومعتقدات العرب – قبل الإسلام- تلتقي في جاهلية واحدة تتمثل في:

  1. التصور الباطل في ذات الله وصفاته.
  2. عدم توحيد الربوبية والألوهية والحاكمية.
  3. عدم توحيد العبودية لله تعالى.

الهوامش

1 – قطب، في ظلال القرآن، (1/24).

2- المصدر السابق: (1/23).

3- انظر: رضا، محمد رشيد بن علي، (ت: 1354هـ)، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بدون ذكر الطبعة، 1990 م، (1/ 21).

4- قطب، في ظلال القرآن، (2/904).

5 – المصدر السابق: (1/23).

6 – انظر: المصدر السابق، (1/23، 2/866، 2/679).

7 – قطب، في ظلال القرآن (2/ 866).

8 – المصدر السابق: (2/ 679).

9 – انظر: المصدر السابق، (3/1624، 3/1642، 4/2069).

10 – قطب، في ظلال القرآن (3/1624).

11 – انظر: المصدر السابق: (1/199، 1/366، 2/760، 2/1031، 2/1041، 2/1048، 3/1182، 4/2177، 6/3406-3407).

12 – انظر: د. الأشقر، عمر سليمان، العقيدة في الله، (286-292).

المصدر

كتاب: “خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها من خلال تفسير الظلال لسيد قطب” فراس فريد أبو بكر، ص29-33.

اقرأ أيضا

أهمية العقيدة في ظلال القرآن

العقيدة الإسلامية وأسباب الانحراف عنها

حمية الجاهلية

من هدي الأنبياء في الدعوة ..العقيدة أولا

التعليقات غير متاحة