إن مما كثر التحذير منه في الكتاب والسنة وبيان أنه من أعظم أسباب الإنحراف والغواية آفة الهوى والتعصب والحمية لشيخ أو طائفة أو دولة أو قوم يعادي ويوالي من أجلهم ولا يرى الحق والباطل إلا بأعينهم.

التعصب “وحمية الجاهلية”

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد

قال الله عز وجل: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون:53] وقال سبحانه: (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 32] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]، وقال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الفتح:26].

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا في غزوة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: ياللأنصار وقال المهاجري: ياللمهاجرين فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية) فقالوا كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: (دعوها فإنَّها مُنتِنةٌ)11- [رواه البخاري ومسلم وهذه الرواية للبخاري]..

وعن أبي ابن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بِهَنِ أبيه ولا تكنوا)22-[سسن النسائي الكبرى] . وفي مسند أحمد عن أُبيِّ رضي الله عنه أنه سمع رجلاً قال: يالفلان ويالبني فلان فقال له: أعضض بهن أبيك ولم يكن فقال له: يا أبا المنذر ما كنت فاحشاً فقال أُبيِّ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)33-[البغوي في شرح السنة]..

وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية)44-[رواه أحمد في المسند وأبو داود] ..

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ومثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل البعير يتردى فهو يمد بذنبه)55-[رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه]..

نور القرآن وهداياته

وقبل أن ندخل في صلب موضوعنا في ضوء الآيات الكريمات وضوء الأحاديث الشريفة وبيان بعض الصور المنتنة للتعصب والتحزب نتوجه بالثناء والحمد والتعظيم لربنا سبحانه الذي هدانا للإسلام والقرآن والسنة وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله فما كان لعبد يصدر عن القرآن والسنة في فهمه للحق وما يضاده من الباطل ويعلم الله صدقه في طلب النجاة إلا هداه الله عز وجل إلى ذلك وجعل له نوراً يمشي به في الناس ويميز به بين الحق والباطل وما التبس الحق بالباطل على أحد إلا بسبب إعراضه عن نور القرآن وهداياته وإقباله على الترهات من كلام البشر وزبالات أذهانهم ونحاتات أفكارهم وصدق الله العظيم القائل: (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:142] وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض)66-[صححه الألباني في صحيح الجامع]. وحق لمن قال من السلف  قوله: (كيف يضل قوم عندهم كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم).

من أسباب الغواية: الهوى والتعصب والحمية

وإن مما بينه الله عز وجل لنا في كتابه وبينه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته سبل الهداية والنجاة وسبل الغواية والشقاء. ومن أسباب الغواية: الجهل بما في كتاب الله عز وجل أو ما في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأشد من ذلك أن لا يكون سبب غواية العبد جهله بما في الكتاب والسنة وإنما ببغيه وهواه وشهوته التي تمنعه من الانقياد لنصوص الوحيين والإهتداء بهما محاولاً تبرير شهوته بتأويلات باطلة وشبه داحضة هو أول من يعلم بطلانها.

وإن مما كثر التحذير منه في الكتاب والسنة وبيان أنه من أعظم أسباب الإنحراف والغواية آفة الهوى والتعصب والحمية لشيخ أو طائفة أو دولة أو قوم يعادي ويوالي من أجلهم ولا يرى الحق والباطل إلا بأعينهم. وإن من خطورة هذه الآفة كونها تمس عقيدة الولاء والبراء أو تعود عليها بالضعف أو الإبطال ومن خطورتها كذلك أنها لم تقتصر على عامة الناس وجهلتهم بل تجاوزتهم الى بعض المنتسبين للعلم والدعوة والجهاد فوقعوا في وحل التعصب والتحزب والتفرق وإيثار الباطل على الحق رغبة أو رهبة الأمر الذي انعكس على جهود هؤلاء وعاد عليهم بالتعثر وقلة البركة في مشاريعهم الدعوية والجهادية.

وفي هذه الورقة المختصرة أحاول جاهداً وناصحاً لنفسي وإخواني ذكر بعض الصور والأمثلة المزعجة للتعصب المقيت والحزبية البغيضة التي يقع فيها بعضنا من حيث يشعر أو لا يشعر لنستعين بالله عز وجل في التخلص منها وتنقية قلوبنا منها.

وقبل ذكر بعض هذه الصور أود أن أبين الأمرين التاليين.

شبهة وجوابها

الأمرالاول: قد يلقي الشيطان شبهة في قلوب بعض الناس لتبرير الفرقة والاختلاف ألا وهي قولهم بأن التفرق والتحزب لابد وأن يقع في هذه الأمة لأنه أمر قد قضاه الله عز وجل وقدره كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وقوله صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها )77-[رواه مسلم2890] ..

والجواب على هذه الشبهة أن يقال:

أن ما ذكر في الحديثين السابقين خبر عن قضاء الله عز وجل وقدره الكوني وعلمه الأزلي بأن هذا سيقع في هذه الأمة حتماً وقد وقع ولكن الله عز وجل الذي أراد أن يقع هذ التفرق كوناً وقدراً لعلمه سبحانه بما كان وما سيكون ولحكمته البالغة لم يرد هذ التفرق ديناً وشرعاً بل نهى عن ذلك في كتابه سبحانه بقوله (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا….. الآية) [آل عمران:105] وقوله سبحانه: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال: 46] وقوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ونهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة – خلاصة القول أن الله عز وجل وإن أراد وقوع التفرق والتحزب كوناً وقدراً لحكمة الابتلاء فإنه لم يرد ذلك ديناً وشرعاً بل نهى عنه وأمر بالاجتماع والائتلاف على الحق.

التحزب المحمود والمذموم

الأمر الثاني: إن مقت التعصب والحزبية البغيضة لا يعني أن لا يتحزب أهل الحق ويتعاونوا بينهم في بيان الحق وتعرية الباطل وأهله وذلك بصورة منظمة ومرتبة توزع فيها الأدوار حسب التخصصات بل لابد من ذلك على أن لا يكون هناك تعصب وهوى وتكبر على الحق وعلى الناس.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصيرحزباً فإن كانوا مجتمعين على أمر الله ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا زادو في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والإتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان)88-[مجوع الفتاوى: 11/91]..

إذن فمصطلح الحزب ليس مذموماً بإطلاق وإنما حسب غاية هذا الحزب وعقيدة أهله فإن كان قائماً على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المعتقد والمنهج والسلوك يوالون في الله ويعادون فيه فهذا حزب الله الذي ذكره الله عز وجل في قوله سبحانه: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22] وفي قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 56] وأصحاب هذا الحزب هم الفرقة الناجية المذكورة في حديث الافتراق وفيه (وستتفرق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) وبقية الفرق تدخل في الأحزاب والفرق المذمومة لمخالفتها ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولتعصبها وتحزبها على ذلك، ومن الفرقة الناجية تبرز الطائفة المنصورة التي تقوم وتنفر لنصرة الدين بالبيان والسنان وصفاتهم مذكورة في أحاديث الطائفة المنصورة التي بلغت حد التواتر حيث رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وعشرون صحابياً وقد بينت هذه الأحاديث صفات أهلها وأنها قائمة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم وأنها موجودة إلى قرب قيام الساعة فيا سعد من كان من أهلها القائمين بالحق ونصرته.

قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)99-[مسلم :1037]..

بعض صور التحزب المذموم

الصورة الأولى: حصر الفرقة الناجية في فئة معينة

قد يقع بعض المنتسبين للفرقة الناجية والطائفة المنصورة في التحزب المذموم حيث يحصرونها في فئة ضيقة من فئات هذه الطائفة ويخرجون من سواهم، كمن يحصرها في أهل الحديث المهتمين بالصناعة الحديثة وحفظ الأحاديث وتصحيحها وتخريجها مستدلين بقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى عندما سأل عن الطائفة المنصورة فقال: (ان لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) ونسوا أو غفلوا عن أن مراد الإمام أحمد بأهل الحديث أنهم أهل الأثر المعظمين لنصوص الكتاب والسنة في مقابل أهل الكلام والذوق والسياسة والأقيسة الفاسدة الذين يقدمون العقل والرأي والذوق والسياسة على كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم . إذن فهم أوسع دائرة من دائرة المهتمين بالصناعة الحديثة فحسب فكل من عظم نصوص الوحيين وعمل بها ودعا إليها ونصرها سواء كان ذلك محدثاً أو فقيهاً أو لغوياً أو مجاهداً في الثغور أو تاجرا فهو من أهل هذه الطائفة ومن حزب الله المفلحين الغالبين.

الصورة الثانية: التقليد والتعصب المذهبي

هناك آفة قد يقع فيها بعض المنتسبين إلى الفرقة الناجية من حيث يشعرون أو لا يشعرون وهذه الآفة قد تؤدي بهم إلى الحزبية المذمومة والتعصب لآراء الرجال على حساب الدليل من الكتاب والسنة، وهذا التقليد المذموم على نوعين: تقليد جلي، وتقليد خفي.

فأما التقليد الجلي: فهو هذا المنتشر عند اتباع المذاهب الفقهية المتعصبة لها ولا نعني بهم عامة الناس الذين لا علم عندهم ولا قدرة لديهم على البحث ومعرفة الدليل فمثل هؤلاء قد يعذرون لجهلهم وإنما المقصود هنا اولئك المنتسبين للمذاهب من بعض طلاب العلم الذين يظهر لهم الدليل الصحيح الراجح في مسألة ما ولكنهم يقدمون قول المذهب أو قول إمام المذهب على الدليل الصحيح تعصباً وتقليداً وتقديساً لمن قلدوه.

وأما التقليد الخفي: فإنا نشهده عند بعض المتبعين لمنهج السلف المحذرين من التعصب لأقوال الرجال والمنادين بنبذ التقليد والأخذ بالدليل الصحيح وأن لا يقدم عليه أقوال الرجال وآرائهم وهذا منهج وعمل طيب ولكننا مع ذلك نرى بعض هؤلاء يقلدون مشائخهم ويتعصبون لهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون ويلاحظ هذا كثيراً عند المنادين بالسلفية العلمية فمع نبذهم للتقليد الجلي نجد أن بعضهم وقع في التقليد الخفي.

يقول الشيخ المعلمي اليماني رحمه الله تعالى: (افرض أنك نظرت إلى مسألة قال فيها إمامك قولاً وخالفه غيره ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين. إفرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما أحدهما يوافق قول إمامك والآخر يخالفه أيكون نظرك فيهما سواء لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف)1010-[القائد إلى صحيح العقائد]..

الصورة الثالثة: التعصب لبعض الرايات والدعوات الجاهلية

كالقومية، والوطنية، والقبلية، وغيرها من الرايات العمية التي يعقد الولاء والبراء عليها ويعادى من أجلها ويوالى من أجلها ويقاتل من أجلها وفي هذا خطر عظيم وخرق شديد لعقيدة التوحيد القائمة على الموالاة والمعاداة في الله لا يقدم على ذلك أهل ولا قبلية ولا وطن ولا قوم. وقد ظهرت هذه الأصنام الجاهلية والحمية لها في واقعنا المعاصر بشكل جلي ونال غبارها بعض المنتسبين للعلم والدعوة حيث ظهرت هذه اللوثات في بعض مواقفهم وأحكامهم وقد لا يكون دافعها قناعة وعقيدة وإنما رغبة أو رهبة ولكن هذا لا ينفعهم عند الله عز وجل بل يضرهم إلا أن يكونوا مكرهين الإكراه الذي توفرت شروطه . ومن مخاطر هذا التعصب والتحزب أنه قد يؤول بصاحبه إلى الاصطفاف مع رؤوس هذه الرايات من الظلمة والكفار والمنافقين والفساق والتعصب لآرائهم وقراراتهم المحادة لشرع الله عز وجل والمعادية للدين وأنصاره والتكلف في تبريرها.

ومن الصور التي نراها ونسمعها والدالة على تلوث قائلها بهذا النوع من حمية الجاهلية تلك الجمل التي يتفوهون بها كقولهم لمن هو ليس من جنسية بلدهم بأنه أجنبي لا حق له في ما يتمتع به أبناء البلد ويقر تلك القرارات الجاهلية التي تحرم المسلم الوافد من العلاج والدراسة والتجارة والتوظيف بحجة انه أجنبي غير مواطن فيفضل عليه ابن البلد ولو كان نصرانياً أو رافضياً وكل من يتجنس بجنسية البلد وهذه والله حمية الجاهلية التي حذرنا الله عز وجل في كتابه بقوله سبحانه: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وقال سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)

الصورة الرابعة: التعصب للجماعة وشيوخها

وهي تلك الصورة المنتشرة اليوم في بعض الفئات والجماعات المنتسبة لأهل السنة والجماعة من التعصب للجماعة وشيوخها حتى وصل الحال من بعضهم أن يرى بأن فئته أو جماعته هم الذين على المنهج الصحيح في الدعوة وغيرهم مخالف لذلك مما حدى ببعضهم أن يعقد ولاءه وبراءه على جماعته فمن كان منها فلهم الولاء المطلق ومن سواهم فله مطلق الولاء.

وقد أدى بعضهم إلى التهوين من شأن الدعوات الآخرى حيث يتهمهم بقلة الوعي وسذاجة التفكير ومثل هذه المواقف قد يكون دافعها ضعف الإخلاص والتعصب للرجال وآرائهم. وما أجمل ما قاله الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في مسائل كتاب التوحيد وذلك عند قوله تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) حيث استنبط استنباطاً دقيقاً من قوله تعالى: (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ) فقال: (من الناس من يدعوا إلى الله ولكنه يدعوا إلى نفسه) وهذا مشاهد عند بعض أفراد الجماعات الإسلامية حيث يظهر من حاله وتحزبه أنه يدعوا إلى جماعته وتكثير المنتمين إليها وليس إلى الله وحده وقد يتجاوز ذلك الى التنفير ممن هو خارج عن جماعته سواء كان فرداً أو جماعة حتى تحول هدف الجماعة من الدعوة الى الله عز وجل ليصبح دعوة الى الجماعة وتكثير أفرادها.

ومن نتائج هذا التعصب والتحزب أن يصيب هؤلاء المتحزبين غروراً بأنفسهم وادعاؤهم الكمال بحيث يستهينون بجهود إخوانهم الدعاة الآخرين سواء كانوا أفراد أو منظمين في عمل جماعي ينظرون لهم بعين الازدراء والسطحية وعدم جدوى دعوتهم وهذا من عمل الشيطان إذ أنه ينافي الإخلاص وحب الخير ونشره بين الناس سواء تحقق ذلك على أيديهم أو يد غيرهم بل قد يصل الحال ببعضهم إلى ان يناصبوا من ليس معهم العداء والتشهير بل واستعداء السلطة عليهم وما علم هذا المفتون أنه يقدم خدمة لأعداء الإسلام شعر أو لم يشعر. إن الساحة الإسلامية الدعوية واسعة والواجبات والتخصصات الدعوية كبيرة لا تستطيع طائفة بمفردها أن تسدها فالقائمون لنصرة الدين فئات متعددة وتخصصات مختلفة فمنهم من نصر هذا الدين بجهاد الكفارالغزاة  في الثغور ومنهم من قام بجهاد البيان : بيان الحق وفضح الباطل والرد على الشبهات ومنهم المربون الذين اهتموا بشباب الامة تربية وتزكية وتحصيناً لهم من الشبهات والشهوات ومنهم المحتسبون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. والداعية الصادق المخلص يحب هذه الفئات كلها ويفرح بما يحقق الله عز وجل على ايديهم من الخير ويضع نفسه في المجال الذي يستطيع من خلاله نصرة الدين وينظر الى هذه الفئات المختلفة الأدوار كجامعة فيها كليات متخصصة الاختلاف فيها اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.

الصورة الخامسة: الغلو في محبة شخص والتعصب له

سواء كان هذا المحبوب شيخ علم أو شيخ قبيلة أو رئيساً أو مديراً أو قريباً ذلك الحب الذي يقود هذا المتعصب الى تقديس هذا المحبوب وكأنه معصوم ومبرأ من الأخطاء ويسوؤه أن يرمى محبوبه بالخطأ.

ويقابل هذا الغلو في الحب والتعصب غلو في البغض فتراه يتجاوز العدل الى الظلم والجور والنظر الى هذا المبغض بنظرة قاتمة تضخم فيها اخطاؤه  وسيئاته وتنسى فيها حسناته وخيره وبلاؤه قال علي رضي الله عنه: (أَحْبِب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما).

يذكر المعلمي اليماني صوراً من التعصب في الحب والبغض فيقول: (افرض أن رجل تحبه وآخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها وتريد أن تنظر، ألا يكون هواك في موافقة من تحبه؟

إفرض أن عالماً تحبه وآخر تكرهه أفتى كل منهما في قضية واطلعت على فتويي  صاحبيك فرأيتهما صواباً ثم بلغك أن عالماً آخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدد النكير عليها أيكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك)1111- [القائد إلى تصحيح العقائد ص31]..

الصورة السادسة: الحمية للنفس والتعصب لآرائها وموافقتها

وذلك يكون بدافع الهوى وقد يبرر هذا المتعصب حميته بأنها لله عز وجل ولدينه والله أعلم بما في القلوب وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معياراً يفرق به بين الحمية لله تعالى وبين الحمية للنفس حيث يقول: (وكذلك الحمية لله والحمية للنفس فالأولى يثيرها تعظيم الأمر والآمر والثانية يثيرها تعظيم  النفس والغضب لفوات حظوظها فالحمية  لله أن يحمي قلبه له من تعظيم حقوقه وهي حال عبد قد أشرق على قلبه نور من سلطان الله فامتلأ قلبه بذلك النور فإذا غضب فإنما يغضب من أجل نور ذلك السلطان الذي  ألقي على قلبه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمرت وجنتاه وبدا بين عينيه عرق يدره الغضب ولم يقم لغضبه شيئ حتى ينتقم لله وهذا بخلاف الحمية للنفس فإنها حرارة تهيج من نفس لفوات حظها  أو طلبه)1212-[الروح:234]..

ويحذر الشيخ المعلمي اليماني من التعصب للنفس وهواها فيقول: (فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين وتجد في من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشد مما انت مبتلى به فهل تجد استشناعك ما عليه مساوياً للاستشناعك ما أنت عليه وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك اياه؟ -إلى  أن قال- وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى وقد جربت بنفسي أنني لربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي منها معنى فأقرره تقريراً يعجبني ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى فأجدني اتبرم بذلك الخادش وتنازعني نفسي الى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب وإنما هذا لأني لما قررت  ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر اعترض علي به فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه.

هذا ولم يكلف العالم بأنه لا يكون له هوى فإنه هذا خارج عن الوسع وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه وعن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه)1313-[القائد إلى صحيح العقائد ص32]..

الصورة السابعة: الحمية والأنفة من التسليم لأحكام الشريعة وجعلها المهيمنة على جميع مجالات الحياة إلا ما يوافق الهوى وهذا شأن المنافقين في كل زمان.

وقد يتأثر بهم وببعض شبهاتهم بعض الطيبين من المسلمين حيث نرى من بعض المصلين وبعض الصائمين من يفضل الحكم بالقوانين والتحاكم إليها ويتعصب لها لأنها هي الصالح للواقع المعاصر.

يتحدث الشيخ أحمد شاكر عن اولئك الذين يتعصبون للقوانين الوضعية ويحكمون بها فيقول: (إنا نرى كثيراً من المسلمين الذين عهد إليهم تنفيذ القوانين والقيام عليها بالحكم بها أو بالشرح لها أو بالدفاع عنها نراهم مسلمين فيما يبين لنا من أمرهم يصلون ويحرصون على الصلاة ويصومون ويحرصون على الصيام ويؤدون الزكاة ويجودون بالصدقات راضية نفوسهم مطمئنة ويحجون كأحسن ما يحج  الرجل المسلم بل يرى بعضهم يكاد يحج هو وأهله في كل عام . ولن تستطيع أن تجد عليهم مغمزاً في دينهم لا خمراً ولا رقصاً أو فجوراً وهم فيما يفعلون مسلمين مطمئنين إلى الاسلام راضين معتقدين عن معرفة ويقين ولكنهم إذا مارسوا صناعتهم في القضاء والتشريع أو الدفاع لبستهم هذا القوانين وجرت منهم كالشيطان مجرى الدم فيتعصبون لها أشد التعصب ويحرصون على تطبيق قواعدها والدفاع عنها كأشد ما يحرص الرجل العاقل المؤمن الموقن بشيئ يرى أنه هو الصواب ولا صواب غيره وينسون إذ ذاك كل شيئ يتعلق بالاسلام في هذا التشريع إلا ما يخدع به بعضهم أنفسهم أن الفقه الاسلامي يصلح أن يكون مصدراً من مصادر التشريع فيما لم يرد به نص في قوانينهم)1414-[تعليق أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد]..

وبعد فهذا ما يسره الله عز وجل من كتابة حول هذا الموضوع الخطير المتعلق بالقلوب وآفاتها نسأل الله عز وجل أن يصلح لنا السريرة والعلانية وأن يرزقنا العافية واليقين وأن يستعملنا في طاعته ونصرة دينه.

والحمدلله رب العالمين.

الهوامش

1- [رواه البخاري ومسلم وهذه الرواية للبخاري].

2-[سسن النسائي الكبرى] .

3-[البغوي في شرح السنة].

4-[رواه أحمد في المسند وأبو داود] .

5-[رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه].

6-[صححه الألباني في صحيح الجامع].

7-[رواه مسلم2890] .

8-[مجوع الفتاوى: 11/91].

9-[مسلم :1037].

10-[القائد إلى صحيح العقائد].

11- [القائد إلى تصحيح العقائد ص31].

12-[الروح:234].

13-[القائد إلى صحيح العقائد ص32].

14-[تعليق أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد].

اقرأ أيضا

الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق (1-2)

الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق (2-2)

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (1-8) محورية الولاء والبراء

كيف أخرج رسول الله للناس خير أمة؟ (1) تحديد الهوية ومنع الالتباس

 

التعليقات غير متاحة