هذه أسطرٌ أُسطِرُ فيها بعض ما أعتقد أنه نصيحة لكل ناظرٍ في النوازل، وفيها أضع اليد على جروحٍ تنزف في الجسد الفقهي؛ تسببت في أمراض في النظر الفقهي؛ أدى إلى تشوه في أهم المخرجات الفقهية؛ وهي فقه النوازل والتي عليها مدار الاجتهاد، والنظر، وهي ثمرته، ومواطن أسباب الخلل حين النظر في النازلة في منتهى الخطورة لمن غفل عنها، وهي من أهم أسباب النجاة لمن حاذر من الوقوع فيها، فوجدت أنه من النصيحة بيان أهمها ولا أزعم أني أحطت بها؛ ولكن لعل من أنار الله بصيرته للوقوف على مثل هذه الأخطاء – التي كانت سبباً في الانحراف بفقه النوازل – أن يكمل ما ابتدأناه؛ فإن هذه الأمة يكمل بعضها بعضاً فهي كالجسد الواحد.

من مواطن أسباب الخلل في فقه النوازل

تحدثنا في مقالين سابقين عن عدة مواطن لأسباب الخلل في فقه النوازل وهما: “أسباب اختلال فقه النوازل (1-4)

و “أسباب اختلال فقه النوازل (2-4)” وفي هذا المقال نورد بعض المواطن الأخرى.

الموطن السابع: الخلط بين مراتب المصالح

فهذا الباب قد وضع العلماء الرحال في مجاله؛ بل وأجمعوا على رتبة أهم مراتبه وهو حفظ الدين؛ بل كل مراتب المصالح مسخرة للمرتبة الأولى؛ وهي مرتبة حفظ الدين، فالنفوس التي تأتي في المرتبة الثانية، والمال الذي يليها قد تمت بها البيعة بين المؤمن وربه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111].

فالمؤمن قد باع النفس والمال وإلهه قد اشترى، وطريقة البيع أن يبذلا في سبيل الله؛ وهو الدين، فهذا الأمر قد انقضى فلا مجال للبحث فيه، فالإجماع قد انعقد على أن أول المراتب وأولاها بالحفظ الدين، بل وكل شيء مما دونها إنما هو مسخرٌ للحفاظ على هذه المرتبة، فذهاب هذه المرتبة بالكلية لا يقبل معه أي عذر في الشريعة، لأن أصله في القلب، ويبقى الحفاظ عليها على قدر الاستطاعة، ومما ينبغي التنبيه عليه جهل كثير من المكلفين بمعنى الاستطاعة، فقد ترسخ في الأذهان أن الاستطاعة مرادفة للاختيار، وهذا خلل كبير وخطير، فليعلم المكلف أن الشريعة إذا علقت الفعل بالاستطاعة إنما المعنى الصحيح هو بذل المكلف وسعه، لا يعني ذلك رد الفعل لاختيار المكلف وهواه.

أمثلة على الخلط بين مراتب المصالح

إذا علمت هذه القطعية في الشريعة، علمت خطورة الخلط بين هذه المرتبة العظمى وهي حفظ الدين، وما دونها من المراتب، والعجب من الغفلة عن هذه القطعية، أهو الجهل أم التعمد بالركون إلى الدنيا والرضى بها، ونذكر لهذا الخلط أمثلة من الواقع للإيضاح: 

يغضبون لإراقة دماء المسلمين -وهو حق- ولا يغضبون لمحاولات خلع الأمة من ربقة الإسلام

مثال: تجد كثيرا من الشرعيين يغضبون لأجل دماء المسلمين، وهذا من سلامة اعتقاد المسلم أنه يتألم لجراحات إخوانه، وهذا واجب التلاحم الجسدي بين الأمة، لكنك لا تجد شكوى أكبر أو حتى توازيها لما يحل بالمسلمين من مصائب ذهاب المرتبة الأولى وهي مرتبة الدين، فلا نجد ردة فعل من الأمة من العالم إلى العامي على ما يفعله المجرمون من القيام بمحاولات دؤوبة لخلع الأمة من ربقة الإسلام عبر طرق وأساليب ممنهجة، إن ما حل بالشعوب من نكبات إنما هو امتداد ونتيجة للمصيبة الكبرى التي حلت بالأمة من ذهاب معالم الشريعة من حياة الشعوب حتى أنك ترى دولاً وشعوباً إذا عرضتها على الشريعة وعلى ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم تجد أن الشريعة العامة التي يذعن لها البلاد، والحاكم والمحكوم، والمال والشؤون العامة، قد عطلت، فتجد الخير في الأفراد، وتجد الصمت والسكوت وعدم الغضب والقلق لما حل بالمسلمين من ذهاب ضرورة الشريعة من حياتهم، والرضى بالعلمانية أللا دينية حاكماً لهم، ويرددون ما لقنهم الإعلام العلماني أن الشريعة لا يصلح تطبيقها الآن، حتى أصبح على الفقيه إقناع هذه الشعوب بأن يحكمها ربها وخالقها، فضلاً عن أن يسلم له وكلاء الصليب بالشريعة.

نجاة الشعوب في حفاظها على دينها

فحينما قبلت الأمة بحياتها الدنيا هانت على ربها لأنه سبحانه يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)، يقول ابن القيم رحمه الله: ” فدفعه ودفاعه عنهم بحسب قوة إيمانهم وكماله”1(1) الوابل الصيب، ص (99).، إن السبب الرئيس لنكبات الأمة هو بعدها عن وقاية الله لها، إن الفئة المؤمنة ولو كانت قليلة مستضعفة فإن لها من الله العون والنصر والمدافعة، يقول تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال:26]، فهذا هو جزاء الشعوب المؤمنة التي تحيا من أجل ربها، ولو كانت تفتقد لجميع أسباب القوة والنجاة، فهم قليل، ومستضعفون، والمخاطر تحيط بهم يخشون التخطف المفاجيء من أي أحد ومن أي اتجاه، وبسبب الإيمان كان الإيواء والتأييد والنصر والرزق لهم من الله، فليعلم الفقيه أن السبب الرئيس لنجاة الشعوب هو حفاظها على دينها.

مصيبة فقدان الدين هي أم المصائب في الدنيا والآخرة

ولقد آلمني ترديد بعض الطيبين عبارات عن سوريا ماذا استفادوا من حربهم للنصيرية فقد تشردوا وقتل منهم من قتل فماذا استفادوا.

سبحان الله وهل الفائدة بقاء المسلمين تحت وصاية الفرنسيين وأذنابهم النصيرية يذهبون بدينهم، ومن عرف تلك الديار علم ما حل بهم من انهدام شرعي خطير بعد أن كانت الشام محضن العلم والدين والعفة والثبات، أحالها النصيرية إلى الحال التي علمها الناس قبل قتال النصيرية.

إن النعمة والدعة التي انغمس فيها هؤلاء الأفاضل – لأن بعضهم لا اتهمه بل هو من الصالحين – قد جعلته يزن الموازين بمكتسباته هو من مال، ومسكنٍ فاره، ومركبٍ وثير، حتى إذا جال في مخيلته فقدان ذلك والتجرد عنه لم يتصور تلك المصيبة وعظمها، ونسي مصيبة فقدان الدين وأنها أم المصائب في الدنيا والآخرة، ولم يتفطن هذا الفاضل أن الدعة والانغماس في الدنيا من أهم أسباب الغفلة عن الميزان الصحيح: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) [يونس:7].

الميزان الرباني في تحديد المكتسبات

فلابد للفقيه أن يبدأ بما بدأ الله به، وأن يقدم ما قدمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولو وزنا حال الصحابة بميزان أهل الغفلة من أهل العلم ، لقلنا إن الصحابة خسروا  كل شيء بالهجرة فبعدما كانوا يسكنون في وطنهم مكة أم القرى سيدة بلاد العرب ووجهتهم،  فقد خسروا أوطانهم، وبعد العز تحت أكناف أبائهم سادات العرب؛ أصبحوا قليلين مستضعفين، وبعد الثراء أصبحوا فقراء بنص القرآن، فهذا هو ميزان المكتسبات الدنيوية الظاهرة، بل أصحاب الشجرة قد بايعوا على الموت وأسلموا أنفسهم للهلاك، وقد قام بعض الباحثين بحصر وفيات الصحابة فوجد 82 من المئة استشهدوا في سبيل الله، فعلى ميزان النفاق فقد خسر المهاجرون جميع مكتسباتهم، وتعرض أهل الشجرة للفناء بالبيعة على الموت، وهلك 82 من المئة من الشعب.

أما في الميزان الرباني فإن المهاجرين نالوا من المكانة مالم يسبقهم عليها إلا الأنبياء عليهم السلام.

وأما أصحاب الشجرة فقد قال الله عزوجل فيهم: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18] فماذا يوزن بهذا.

وأما الجيل الشهيد فإنهم قد علموا بلاغ ربهم عمن سبقهم فلحقوا بالركب: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:169-171] فهذا هو ميزان القرآن والنبوة.

ولقد نهينا أن نزن بميزان أهل الدنيا الذين ليس لهم في الآخرة نصيب، فهم لا يؤمنون إلا بحياتهم الدنيا وعليها يقيسون ، يقول تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [آل عمران:156].

بل الميزان الصحيح والسليم: (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [آل عمران:157].

الأصل في الشريعة حال التمكين والاستقلال وليس فقه الاستضعاف والضرورة

هذا واعلم أيها الفقيه، أني لا أدعوا للمجازفات، ولا لعدم الواقعية، بل التكليف في الشريعة له مراتب معلومة، لكن الكلام فيما سبق إنما هو لرسم المسار الصحيح للأولويات الشرعية في عقلية طالب العلم، ولكي يعلم طالب العلم أن الأصل في الشريعة ليس هو فقه الاستضعاف والضرورة، بل إن هذه الحال إنما هي خارجة عن أصل حال الأمة من التمكين والاستقلال في قرارها ، ولذلك يبنى الفقه على الأصل لا على الحال الشاذة.

الأمن والسلام ليس في كنف الطواغيت

وليعلم كل من يبتغي الأمن في كنف الطواغيت، أن الأمن الحقيقي في الدنيا والآخرة إنما هو في توحيد العبد لربه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

إن الأحوال العقدية والسياسية والاجتماعية المحيطة بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، إنما هي مخاطر محققة في ظاهر الأمر، لكن إبراهيم عليه السلام يعلم الموطن الحقيقي للأمن، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [آل عمران:82] ولذلك قام لله وتحدى الأرض ومن عليها، فهو المؤمن الوحيد على وجه الأرض، فانظر إلى ما وصف الله لنا من حاله: (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران:80-81].

فاعلم أن الأمن والسلامة وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة إنما هو في تعلق العبد بربه، والتقوى والتعرف على الله في الرخاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصحاب هذه الأحوال هم الذين نجاهم الله ممن سبق من الأمم، وهم الذين سينجيهم ممن تبع بإحسان إلى يوم الدين.

الموطن الثامن: الغفلة حين النظر في النازلة عن مقاصد الشريعة

فيجب أن يعلم الفقيه أن ظواهر النصوص لا يمكن أن تخالف قواعد الشرع العامة، وأن استنباط الأحكام من الأدلة الفرعية دون أن تكون تحت مظلة مقاصد الشريعة العظمى قد يؤدي بالزلل العظيم، والخطأ على الشريعة وأن يلصق بها أحكام لا تليق بها وتنزه شريعة الرحمن عن مثلها.

تنزيه الشريعة عما ألحق بها من خطأ العباد وأهوائهم وضعفهم

يقول ابن القيم رحمه الله: (هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.

فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة)2(2) أعلام الموقعين (3/12)..

مراعاة الفقيه قواعد الشرع الكبرى

هذا الكلام من هذا العالم الرباني لا بد أن يعلمه بل يستظهره كل فقيه، وهو المقصد الأساس من كتابتي لهذه الصفحات؛ وهو أن تنزه شريعة أحكم الحاكمين عما ألحق بها من خطأ العباد وأهوائهم وضعفهم.

إذن فيجب على الفقيه أن يراعي قواعد الشرع الكبرى حين النظر في ظواهر النصوص، وهذا هو فقه الفاروق رضي الله عنه كما في العمرية فظاهر النص يربي نصيب الأم على الأب، ولكن عمر أعمل القاعدة العامة في الشرع فأعطاها ثلث الباقي وأبقى المضاعفة للأب، ومثلها الحمارية، فظاهرها عدم ميراث الأشقاء وهم يدلون من طريقين، وميراث من هم لأم مع إدلائهم من طريقٍ واحدةٍ، لكن قاعدة الشرع تمنع ذلك.

حدود طاعة ولاة الأمر كما حددتها قواعد الشرع

وإليك مثالاً أوضح وأعلى رتبة، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَاسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوهَا، فَقَالَ: ادْخُلُوهَا، فَهَمُّوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا، وَيَقُولُونَ: فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ، فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتِ النَّارُ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»3(3) صحيح البخاري، حديث رقم : (4340)..

فالأمير في هذه الحادثة قد عين بالنص، وجاء الأمر بطاعته بالنص، فظاهر النص يلزمهم طاعته، لكن  الصحابة أخضعوا هذا الظاهر لمقصدٍ عظيم تواترت به النصوص من الكتاب والسنة أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث لمقصد إنقاذ الناس من الهلاك في جهنم فكيف يكون الأمر المطلق والعام بالطاعة يخالف هذا المقصد العظيم.

ومن الأمثلة على هذا الزلل والانحراف الخطير؛ تجد من يستدل بالنصوص التي أتت بالحث على طاعة ولاة الأمور فيسخرونها لإخضاع المسلمين لأوامر تضاد الشريعة بحجة الطاعة، حتى أحدثوا في قلوب العباد من الريبة والحيرة هل هكذا الشريعة تسلط عبداً مخلوقاً يضاد أوامر الله تعالى، فكيف يأمر الله تعالى العباد بطاعة من يضاد أمره، وأهم مقاصد الشريعة هي التسليم إلى أمر الله؛ بل هو المعنى الكلي للإسلام، ولذلك خلقوا، ولفك هذا الالتباس وضع النبي صلى الله عليه وسلم ضوابط للطاعة؛ فقال كما في الحديث السابق: (الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ)، وقال في حديث آخر: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)4(4) صححه الألباني مشكاة المصابيح..

والصحابة قد كان عملهم على هذا الأصل، ومن اطلع على سيرهم تواترت عنده الحوادث عنهم في هذا الأصل.

الهوامش

(1) الوابل الصيب، ص (99).

(2) أعلام الموقعين (3/12).

(3) صحيح البخاري، حديث رقم : (4340).

(4) صححه الألباني مشكاة المصابيح.

اقرأ أيضا

أسباب اختلال فقه النوازل (1-4)

أسباب اختلال فقه النوازل (2-4)

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

أسباب-إختلال-فقه-النوازل

التعليقات غير متاحة