يفخر المؤمن بهذا الدين، وبسِماته المتفردة من وسطيةٍ وتوازن، لكن يحذر أيضا من التفسير الخطأ للوسطية لتصبح غلوّا أو تفريطا؛ فكلٌ يدعي وَصْلا بها.

تحريف المفاهيم

لقد ظهر في هذه الأزمنة المتأخرة فهْمٌ منحرف لمعنى “الوسطية” و”الأمة الوسط”؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لها.

وقد أثمر هذا المفهوم المنحرف لـ “الوسطية” عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجدّ، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط؛ فلابد من التوسط في أَخْذ هذا الدين حتى لا ينفر الناس منه.

سبب الفهْم الخطأ

وهذا المفهوم المنحرف لمعنى “الوسطية” له ما يفسره، لكن ليس له ما يبرره، وقد انطلق بعض من يدعو إلى هذه الأفكار من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن الالتزام بهذا الدين وأخْذَه بقوة كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن دعوة الناس إلى ذلك هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية؛ ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام بل من بعض الدعاة من َيصِمُ بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف، وهذا كله إنما نشأ من الفهم المنحرف لـ “الوسطية” و”التشديد” و”التيسير”؛ فلابد إذن من تحرير مفهوم “الوسطية” كما جاء عن السلف الصالح رضي الله عنهم.

ظهر ما يسمى بـ “أنصاف الحلول” أو “الحلول الوسطية” من قِبل بعض المشتغلين بالدعوة، ويقصدون بالحلول الوسطية ألا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تُجْرِ إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لابد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة، ومدّ الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر؛ ويسمون ذلك وسطية.

ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المُرْضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصّها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يُرضي الله تعالى؟!

إفراط في مقابل التفريط

في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة لظاهرة الاختلاف الحاصل بين الدعاة وطلبة العلم، وما نشأ ذلك إلا بسبب فِقدان التوازن والوسطية في بعض الأخلاق والمعاملات.

ومن ذلك التطرف في معالجة الأخطاء: ما بين غالٍ في الحب والتقدير لبعض الأشخاص فلا يرى أخطاءهم إلا بمنظار الحسن والتبرير، وغالٍ في الكُرْه والخصومة فلا يرى إلا الأخطاء، وما كان من صواب فيسيء الظن بصاحبه.

وإن مثل هذه المواقف ـ فوق أنها فاقدة للتوازن والوسطية والعدل ـ يدخل فيها الهوى وحظ النفس، والوسط والعدل بين هذين الطرفين.

ولا أبالغ إذا قلت إن الفُرقة الحاصلة اليوم بين أهل السنة إنما يعود السبب الأكبر فيها إلى فقدان الوسطية والعدل والتوازن في علاج الخلاف.

ولعل في ذلك مساهمة أقدمها لنفسي ولجميع المنتسبين لأهل السنة والجماعة؛ حتى نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر نحب الألفة والاجتماع، ونَكره الفرقة والاختلاف، ولنكون من الأمة الوسط العادلة الشاهدة على الناس، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تكالب فيها الأعداء على المسلمين من كل صوب، ورموهم عن قوس واحدة، فتعينت المحافظة على وحدة الصف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي المخالف لنا في أصل الملة وليس في مسألة أو مسائل فرعية؛ لأن الفقه في الدين ومقاصد الشريعة، والتحلي بالعدل والإنصاف؛ يفرضان على المسلمين تآلفهم وتحمّل خلافاتهم الجزئية أمام الطامة الكبرى التي يريدها الكفار بالإسلام والمسلمين.

غياب الميزان الحق

والمقصود أن غياب الوسطية واضطراب الميزان يقود إلى الإجحاف ومجانبة الرفق في تقويم الرجال والكتب والمواقف، وعدم إعذار من له عذر؛ وهذا بدوره يقود إلى التفرق والتعصب والغلو والعدوان، وعند فقد الميزان والوسطية والعدل تصبح الكبائر التي يعملها الشخص أو مَن معه في طائفته من اللمم والصغائر، وتنقلب الصغائر والاجتهادات الخاطئة إلى كبائر حينما تقع من الآخرين.

وهذه الظواهر لا يشك أحد في وجودها اليوم بين بعض العاملين في حقل الدعوة؛ وسببها غياب الميزان الحق والوسطية والعدل التي هي من أبرز سمات هذا الدين، ومن أخص خصائص هذه الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شاهدة على الناس.

نظرٌ أحاديّ

ظهور بعض المتحمسين للدعوة والغيرة على الدين ممن لم يكن لهم علم كافٍ بمقاصد الشريعة، وبمبدأ الموازنات في الشريعة الإسلامية؛ حيث ركَّزت طائفة منهم النظر في المفاسد المترتبة على الأخذ ببعض القضايا المستجدة دون مراعاة لما فيها من المصالح، وطائفة أخرى ركزت على ما فيها من المصالح بغض النظر عما يترتب عليها من المفاسد، وكلا الطرفين مذموم، والحق هو الموازنة؛ فما كانت محصلته الخير والصلاح في الدين أو الدنيا أُخذ به ولو كانت فيه مفاسد قليلة ترجح بها كثرة المصالح كمًّا أو كيفًا، وما كان محصلته الفساد والشر فإنه يترك ولو ظهرت فيه بعض المصالح التي ترجح بها كثرة المفاسد كمًّا أو كيفًا.

والمقصود: أن ظاهرة الأحادية في النظرة والتعصب لها توجد اليوم من بعض الغيورين، وهي بدورها تُوقِع أصحابها في مصادمة دائمة مع إخوانهم الدعاة، بل قد توقعهم في مصادمة مع بعضهم البعض أو مع أنفسهم.

والوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بمبدأ الموازنات هو أصل عظيم في تشريع الأحكام والحكم على النوازل، ورحِم الله من قال: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين».

[للمزيد: ضع نفسك مكان أخيك!]

سمةٌ ربانية

إن الحديث عن سمة الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين وأحكامه وأخلاقه ليبعث في النفس الغبطة والفرح والسرور، والفخر بدين الإسلام، وهذا بدوره يورث في النفس تعظيم الله عز وجل وحمده وشكره، وتعظيم دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله به إلى صراطه المستقيم؛ وبخاصة عندما ننظر إلى المناهج البشرية المضطربة التي فقدت هذه الخاصية فذهبت بها الأهواء تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشمال.

كما أن ذلك يبث في النفس الطمأنينة والثبات على هذا الدين، ويدفع المسلم إلى الدعوة لهذا الدين وإيصاله إلى الناس لينعموا به في الدنيا، وتسعدَ حياتهم به وبما فيه من العدل والتوازن والشمول والكمال، ولتكمل سعادتهم في الدار الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

يقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ عن خاصية التوازن في دين الإسلام:

“…وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه الآفة التي لم يسلم منها أيُّ تصور آخر، سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوّهتها التصورات البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أوَّلته تأويلًا خاطئًا وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة”. (1)

……………………………………..

الهوامش:

  1. خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، صـ 136.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة