هذه أسطرٌ أُسطِرُ فيها بعض ما أعتقد أنه نصيحة لكل ناظرٍ في النوازل، وفيها أضع اليد على جروحٍ تنزف في الجسد الفقهي؛ تسببت في أمراض في النظر الفقهي؛ أدى إلى تشوه في أهم المخرجات الفقهية؛ وهي فقه النوازل والتي عليها مدار الاجتهاد، والنظر، وهي ثمرته، ومواطن أسباب الخلل حين النظر في النازلة في منتهى الخطورة لمن غفل عنها، وهي من أهم أسباب النجاة لمن حاذر من الوقوع فيها، فوجدت أنه من النصيحة بيان أهمها ولا أزعم أني أحطت بها؛ ولكن لعل من أنار الله بصيرته للوقوف على مثل هذه الأخطاء – التي كانت سبباً في الانحراف بفقه النوازل – أن يكمل ما ابتدأناه؛ فإن هذه الأمة يكمل بعضها بعضاً فهي كالجسد الواحد.

من مواطن أسباب الخلل في فقه النوازل

الموطن الأول: التركيب المخطئ

من أكثر مواطن الزلل لدى الناظر في النوازل؛ هو أن يُنشئ حكماً قد بني على مقدمةٍ غير صحيحة، فيكون هذا الحكم المُنشأ خطأً تبعاً لتلك المقدمة؛ وإن كان الحكم في ظاهره أنه وفق الشريعة، وهذا الفعل يقع فيه البعض من  المنتسبين للفقه ويستغله كثير من أهل الزيغ في التلبيس، وهذا التركيب الخاطئ له صور:

الصورة الأولى: القياس المخطئ

وجعل هذا القياس مقدمة لما يترتب عليه من أحكام، وقد نبه ابن تيمية رحمه الله إلى خطورة هذا البناء الخاطئ، فقد رد الأقيسة التي بنى عليها كثير من الفقهاء فتاواهم في النوازل، ومن ذلك نقضه لقياسهم حال ( قازان ) ومن معه على البغاة، وبنوا أحكامهم على ذلك فجعلوهم من جنس المسلمين، فنقض ابن تيمية قياسهم، ورده إلى القياس الصحيح بأن قاسهم على مانعي الزكاة، بجامع أنهم لم يؤمنوا بالدين كله، فكانت الأحكام التي بنيت على هذا القياس أن قازان ومن معه باقون على جاهلية التتار، ولا يعاملون معاملة المسلمين1(1) انظر: مجموع الفتاوى، (28/509). ، فكان لهذه الفتوى الأثر الكبير في تصحيح مسار الصراع مع التتار، ورفع اللبس الذي أحدثته الفتاوى السابقة.

أما الأمثلة المعاصرة فكثيرة لمن تفطن لها:

قياس زنادقة العلمانيين على المأمون

منها ما يردده الكثير ممن لم يفهم الشريعة من قياسهم الزنادقة من العلمانيين والشيوعيين وما هم عليه من الكفريات، على ما ارتكبه المأمون من القول بخلق القرآن وأن الأئمة اعتبروا المأمون ولي أمر وإن قال بالكفر، ثم جعلوا هذا القياس مقدمة لجعل هؤلاء الزنادقة ولاة أمور للمسلمين، ولم يتفطنوا أن المأمون إنما اعتبره العلماء ولي أمر في زمنه لأنه لم ينسلخ من الشريعة؛ بل انطلق من الإذعان بالجملة للشرع، فهو لا يساوم على الشرع، ولا على أنه أصل الحق، ولا يقبل المناظرة إلا بالأدلة الشرعية  ولم يعطل الجهاد، ولم يسخر نفسه وحكومته واستخباراته لسلخ الناس من الدين، ولم يوظفه أهل الصليب. والمأمون لا يعتقد أن الكتاب والسنة رجعية، فياحسرة على هذه العقول كيف تقيس.

وإنما القياس الصحيح لهؤلاء، هو أن يقاسوا على عمال التتار الذين كانوا يوضعون على البلدان الإسلامية بعد أن يستبيحوا أهلها، ومعلوم ما نقله ابن كثير من فتوى ابن تيمية في من انحاز مع صف التتار.

قياس فعل الباطنية الجدد ممن يريد تعطيل العمل بالسنة مطلقا على رد المعتزلة لخبر الآحاد

ومن الأمثلة: قياس فعل من يرد السنة اليوم بحجة أنها آحاد، على قول المعتزلة في عدم الاحتجاج بخبر الآحاد في باب الاعتقاد.

فهذا القياس خاطئ؛ بل خطؤه فاحش؛ لأن المعتزلة لم يردوا العمل بالآحاد بالكلية؛ بل كان لهم2(2) بل لم يقل أحد من فرق الإسلام برد العمل بالآحاد بالكلية. نظر من خلاله يظنون أنهم يعظمون أمر الاعتقاد، فهو لا يقبل الاحتمال والظن، فمذهبهم وإن كان في غاية الخطورة والضلال إلا أنهم لم يردوا العمل بالآحاد بالجملة، بل ثبت عن بعضهم الصلاح والزهد وقد ترجم الذهبي لبعضهم ونقل من دينهم وزهدهم، فانحراف المعتزلة في هذا الباب لا يمكن أن يقاس عليه فعل الباطنية الجدد ممن يريد تعطيل العمل بالسنة مطلقا ولا أن يعد قولهم امتدادا لقول المعتزلة.

أما القياس الصحيح لقول من يرد الآحاد بالكلية فهو أن يقاسوا على قول الباطنية من الروافض وأشباههم الذين أسقطوا عدالة الصحابة رضي الله عنهم ، وقد يقول القارئ في بادي الرأي وما العلة الجامعة بين القياسين: فنقول إن السنة هي البيان الموضح لوجوه الاحتمال في القرآن، فتجريد كتاب الله من هذا الحصن يكون إما بإسقاط السنة عن طريق إسقاط العدالة عن النقلة وهم الصحابة، أو إسقاطها عن طريق كيفية الأداء وهو الآحاد.

فيفتح الباب للباطنية للتلاعب بكتاب الله وحمله على ما أرادوا من الوجوه مع بقاء ادعائهم أنهم قائمون بالعمل به، وبهذا تعطل الرسالة النبوية، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل:44].

فالصحيح أن رد العمل بالآحاد ليس امتدادا لقول المعتزلة من عدم الأخذ به في باب الاعتقاد؛ بل هي حركة باطنية جديدة أرادت الانسلاخ من الشرع، وإعادة النظر في تفسير القرآن بعد إسقاط الحصن المبين له؛ وهي السنة.

الصورة الثانية: تركيب الحكم على مصطلح شرعي غير محرر

ومن أشهر الأمثلة: مصطلح ولي الأمر في الإسلام

فإن هذا المصطلح قد اعتدي عليه وحرّف أيما تحريف، ثم بنيت عليه الأحكام الشرعية مع أنه ركب على من تنزه الشريعة من أن تضع له هذه الحقوق.

وبيان ذلك: أن من قرأ مصطلح ولي الأمر في الإسلام في ضوء فهم الصحابة له، إلى امتداد ذلك من أئمة الحديث، والفقه، يجد تحريرا لمصطلح ولي الأمر يضاد تماماً؛ بل وينقض الولاية التي يجعلها فقهاء السوء والغفلة3(3) لأن بعضهم فيه من الصلاح والزهد والخير الكثير؛ لكن الغفلة التي فيه تجعله لا يتفطن لسبيل المجرمين. لكثير من المجرمين الذين تغلبوا على البلاد الإسلامية بأيدي الصليبيين، فالذي يقرأ في تعاريف الفقهاء لولي الأمر في الإسلام يجد مدار التعاريف يقوم على ركنين أساسين: وهما قيام أمر الدين وأمر الدنيا.

ومن تأمل أحوال أكثر ولاة العصر الذين أُصدرت لهم صكوك العصمة من علماء السوء؛ يجد أنهم قد قامت ولايتهم على نقض هذين الركنين.

فهم قد حملوا على عواتقهم ألا يُحكم عباد الله بما شرع الله؛ بل وحربهم شعواء في سبيل ذلك.

وقد دأبوا على تعطيل منافع الدنيا، والعبث بمقدرات الأمة؛ لأنهم يعملون بما يوحي إليهم أسيادهم من عباد الصليب والملاحدة. إن نهضة الأمة تقوم على خلع ربقة الصليبيين وأذنابهم عن رقاب الأمة.

إذن قبل أن توضع الحقوق والإلزامات على رقاب عباد الله؛ يجب أن يحرر من هو ولي الأمر في الإسلام4(4) أذكر أني حاجيت أحد اساتذة العقيدة بهذا الكلام – وكان من أهل الحق – فقال هذا الكلام كان يقوله الشيخ: البسام في المجالس الخاصة..

أما مجرد نقل المصطلح دون احتوائه على المعنى الصحيح فهذا تحريف.

وأبسط مثال على انهيار بعض الحقوق عند السلف أن الظلم يسقط حق العرض، قال إبراهيم5(5) هو النخعي.: كانوا يقولون: ثلاثة ليست لهم غيبة: السلطان الجائر، وذو الهوى، والفاسق المعلن لفسقه6(6) شرح السنة للبغوي (13/142)..

وقال حرب الكرماني: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا زياد بن الربيع، عن عبد الرحمن بن أذينة قال: حدثنا أشياخنا قال: ثلاثة لا حرمة لهم ولا غيبة، الوالي الظالم الجائر، والفاسق المعلن بفسقه، وصاحب البدعة.

قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن دينار العدل نا زكريا بن دلويه نا علي بن سلمة اللبقي قال: سمعت ابن عيينة يقول: ثلاثة ليست لهم غيبة الإمام الجائر والفاسق المعلن بفسقه والمبتدع الذي يدعو الناس إلى بدعته7(7) شعب الإيمان، (5/318)..

فهذا سببه الجور فقط، فكيف بمن تقوم استراتيجيته على ألا تقوم للإسلام قائمة، بل وأمنه القومي يعتمد على حرب الإسلاميين، وإعلامه يشن حرباً ضروسا على معالم الشريعة، فحسبنا الله هو مولانا كيف تُتمّم لمثل هؤلاء الحقوق.

حقيقة الحال في مصطلح ولي الأمر

وقد نبه شيخ الإسلام على غلط من أفرغ المصطلح الشرعي من مضمونه الشرعي؛ حيث يقول عن مصطلح الشرع: “وقد وقع فيه التفريط من بعض ولاة الأمور والعدوان من بعضهم ما أوجب الجهل بالحق والظلم للخلق وصار لفظ “الشرع” غير مطابق لمسماه الأصلي”8(8) مجموع الفتاوى، (35/395)..

وقال في موطن آخر مبين حقيقة الحال في مصطلح ولي الأمر وقياسها الصحيح؛ لا مجرد المسمى: “وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه: كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه؛ ليجمع بين اثنين على فاحشة وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) وقال تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ). فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية. فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك. وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله فقاتل به المسلمين”9(9) مجموع الفتاوى، (28/306)..

الموطن الثاني: التقليد الخفي

هناك اعتقاد خاطئ عند كثيرٍ ممن يمارسون العلم الشرعي أنهم يتبعون مدرسة الاجتهاد، وتسمعهم يلمزون فلانا وفلانا بأنه لا يخرج عن قول المذهب، ويعتقد أنه يتبع القول الراجح، وفي الحقيقة أنه يقلد من رجح هذا القول؛ حتى إذا أتت نازلة تجده متحيراً ينتظر من يفتي بها حتى يرجح ما رجحه ويعتقد أنه بهذا يتبع القول الراجح، والصحيح أن هذا هو التقليد بعينه، بل بعض من يلمزهم بأنهم لا يخرجون عن المذهب لديهم من مكنة التخريج والقياسات ما لا يمتلك هذا المدعي.

مواطن الخطورة في التقليد الخفي

الأول: حينما يعجز هذا المقلد عن النظر في نصوص الكتاب والسنة والاسترشاد بهديهما يلجأ إلى استجلاب فتاوى سابقة لكي ينزلها على الحال الحادثة التي بين يديه، مع تغير الواقعة والحال والمآرب، وأقرب مثال لهذا الزلل ما تعمده البعض من جلب فتاوى من تقدم من العلماء الثقات في مسألة مكبرات الصوت الخارجية مع اختلاف الحال والدوافع، وهذا المسلك خطير جدا؛ وهو استجلاب الفتاوى السابقة وإنزالها على الحال الواقعة.

فقه ابن دقيق العيد في تعامله مع فتوى العز بن عبد السلام

وقد تفطن ابن دقيق العيد لهذا المسلك حينما غفل غيره عنه، وإليك الحادثة: “كانت الأمراء اجتمعوا عند السلطان قبل النفقة وتشاوروا أن يؤخذ من سائر التجار والسّوقة وسائر من يتسبب بمصر والقاهرة عن كل رأس دينار، وطلبوا مجد الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة وقالوا له: انزل وتحدث مع القضاة في ذلك وخذ لنا الفتوى منهم. فقال لهم مجد الدين: إن عندي فتوى بخط الشيخ عز الدين بن عبد السلام 10(10) انظر إلى أثر التقليد وعدم العودة لنصوص الوحيين، مع أنهم شافعية والإمام الشافعي يقول: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها” الرسالة للشافعي، (1/19).، لما خرج الملك المظفر قطز إلى ملتقى نائب هلاون وهو كتبغا نوين لما سيره إلى أخذ مصر، فتلاقى معه على عين جالوت كما ذكرناه مفصلاً، وأنه لم يجد من المال ما يكفي نفقة العساكر وقصدوا أخذ المال من العامة استفتوا الشيخ عز الدين في هذا فأفتى لهم بأخذ دينار من كل أحد، وهذه الفتوى عندي، فأحضرها عندهم11(11) انظر سرعة الانسياق لرغبة الوالي، وما أكثر نظراءه في هذا الزمن. وقال له الأمير سلار: اكتب صورة الاستفتاء وأنزل بها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد قاضي القضاة حتى يكتب عليها بخطه12(12) وكذلك الولاة في كل زمان يحملون هم الفقيه المصدق عند عامة المسلمين، فإن هذا الفقيه المسارع لهم عفى الله عنه وغفر له وإن قدم الخدمات لكن الذي عليه مدار الأمر هو الذي ينظر العامة إلى قوله.، فكتب مجد الدين صورة الاستفتاء ونزل بها إلى قاضي القضاة ومعه شخص من الحجاب، وتحدثوا مع الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وناولوه صورة الاستفتاء، فأخذها وتأمل ما فيها، ثم هز رأسه وقال يا فقيه: ما القصد في ذلك؟13(13) انظر إلى تعجب ابن دقيق العيد من غفلة الفقيه، فكيف لو رأى من يبرر لأخذ المكوس بحجة الفتاوى السابقة، مع أنه عجب من غفلة فقيه استجلب الفتاوى السابقة للجمع للجهاد، فسبحان الله. فقال: يا سيدي القصد أن تكتب على هذا لتطيّب خواطر الناس بالعطاء. قال: فرماها من يده وقال: لا حاجة للفتوى، وما ثم مانع إذا أراد ولاة الأمر بشيء قبل الناس، فخرج المحتسب والحاجب من عنده على هذا، وجاءوا إلى الأمراء وعّرفوهم بذلك. فقال الأمير سلار: ما بقي يمكن الكلام في ما قصدناه دون أن نجتمع بالقاضي ونعرفه بالأمر ونسأله هل هذا جائز أم لا؟ فإذا امتنع أخرجنا له فتوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام. ففي بكرة النهار انزلوا إليه، وسلموا عليه واسألوه الاجتماع بنا لالتماس بركته، فلما أصبحوا نزلوا إليه وبلّغوه الرسالة، فقام وركب وجاء عند الأمراء، والكل حاضرون عند الأمير سلار، فلما رأوه قاموا كلهم وتلقوه من أسفل الإيوان، وأخذ السلار بيمينه والأمير بيبرس بشماله إلى أن أجلساه بينهما، وبقيت الأمراء جلسوا بين يديه وتأنّسوا به حتى فتحوا له باب النفقات وقلة الحواصل في بيت المال وبينوا له الضرورات، ثم ذكروا له أمر الفتوى. فقال الشيخ: أيها الأمراء ما المانع لما تفعلوه إذا رسمتم بشيء ولا ثمة أحد يخالف. وقال الأمير سلار: يا سيدي نريد أن يكون معنا فتوى حتى لا نقع في أمر غير جائز، فيحصل علينا الإثم. فقال الشيخ: أما الفتوى فما يمكن أن أكتبها في مثل هذا. فقال له مجد الدين ابن الخشاب المحتسب: يا سيدي هذا خط الشيخ عز الدين بن عبد السلام كتبها في أيام الملك مظفر قطز، فنظر إليه وتبسم وقال: يا فقيه تعرف كيف أفتى الشيخ عز الدين في ذلك الوقت؟ قال: لا. فقال لما سألوه الفتوى، قال لهم: إن الفتوى في هذا لها شروط إن فعلتموها صحّت الفتوى14(14) انظر كيف يعرف هذا العالم الجليل أن نقل الفتوى يحتاج لشروط ومعرفة في منازع الأحكام، وهذا ما لا يحسنه أكثر المقلدة.. فقالوا: ما هي؟ فقال: أن يتقدم كل أمير منكم ويحلف بالله أنه لا يملك فضة ولا ذهباً ولا لزوجته وأولاده مصاغ ولا غيره، فلما سمعوا هذا من الشيخ قام كل منهم وأحضر من موجوده وموجود أهله من حليّ وغيره، ثم حلف كل واحد منهم أنه لا يملك غير ذلك، فعند ذلك كتب لهم هذه الفتوى، ويا فقيه أما أنا فإنه يبلغني أن كل أمير يجهّز بنته بأنواع اللؤلؤ والفصوص، ويعمل بكالى فضة لبيت الماء، وقباقيب مكللة بأصناف الجواهر، وتريد مني أن أكتب فتوى على ما لا يحل، ثم قام ناهضاً وخرج، وقد أفحم كل واحد منهم عن الجواب”15(15) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان للعيني، (4/72)..

وإن كنت أطلت بنقل هذه الحادثة لكن أتيقن أن فيها من الفوائد الوفيرة والغزيرة لطالب العلم.

اتباع وتقليد فقهاء أصابهم الانحراف في أمور خطيرة كالعقيدة

الثاني: من مكامن الخطر الناتجة عن التقليد الخفي، ما يصيب المجتمع الفقهي من انحراف وهو في حال غفلة، وكيف يكون هذا؟ ذلك بأن المجتمع يكون على خير مقلداً لعلماء أفاضل أهل حق ثم تتغير الحال من بعدهم وتصبح القياسات على ما سبق فاسدة، ويبقى الفقيه في غفلة فلا يتفطن أن ما كان عليه الأوائل ليس الحال التي بين يديه، وهذا سببه البعد عن هداية الوحيين واندراس معالم النبوة وهذه حالة خطيرةٌ جداً، فقد ينحرف المجتمع الفقهي في قطر من الأقطار وهو ظان أنه على نهج من ترتضى سيرته؛ بل هذا الانحراف كثيرا ما يكون في أمور عقدية يبنى عليها التوحيد، فكثير ممّن يدعي أنه سلفي وينادي بالتوحيد تجد عنده غفلة شديدة عن شرك الطاعة وخطورة الوقوع فيه، وكذلك من المحزن على هؤلاء الذين يدعون السلفية، أنهم يتعاملون مع أوامر البشر كأنها نصوص وحي يلتمس فيها مواطن الحكمة التي تخفى على البعض، وهذا تأليه خفي سببه الغفلة، ومن ذلك الجاهلية التي يقع فيها أدعياء السلفية من أصحاب القلوب الحاقدة على أهل الإسلام، والكره لانتصار المسلمين، وهذا انحراف عقدي خطير نبه عليه شيخ الإسلام حيث قال: “فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا.

إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسئول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد: مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم؛ وإن كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق:(فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار”16(16) مجموع الفتاوى، (10/675)..

ولقد كان لابن تيمية – بتوفيق الله له – دور بارز في رفع تلك الغفلة عن قلوب نخبة من أهل العلم والفضل، فيقول ابن تيمية في هذا الشأن: ” لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن وقال هذا أصل دين الإسلام.

وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول هذا أعظم ما بينته لنا لعلمه بأن هذا أصل الدين”17(17) المرجع نفسه، (2/731)..

الهوامش

( 1) انظر: مجموع الفتاوى، (28/509).

(2) بل لم يقل أحد من فرق الإسلام برد العمل بالآحاد بالكلية.

(3) لأن بعضهم فيه من الصلاح والزهد والخير الكثير؛ لكن الغفلة التي فيه تجعله لا يتفطن لسبيل المجرمين.

(4) أذكر أني حاجيت أحد اساتذة العقيدة بهذا الكلام – وكان من أهل الحق – فقال هذا الكلام كان يقوله الشيخ: البسام في المجالس الخاصة.

(5) هو النخعي.

(6) شرح السنة للبغوي (13/142).

(7) شعب الإيمان، (5/318).

(8) مجموع الفتاوى، (35/395).

(9) مجموع الفتاوى، (28/306).

(10) انظر إلى أثر التقليد وعدم العودة لنصوص الوحيين، مع أنهم شافعية والإمام الشافعي يقول: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها” الرسالة للشافعي، (1/19).

(11) انظر سرعة الانسياق لرغبة الوالي، وما أكثر نظراءه في هذا الزمن.

(12)  وكذلك الولاة في كل زمان يحملون هم الفقيه المصدق عند عامة المسلمين، فإن هذا الفقيه المسارع لهم عفى الله عنه وغفر له وإن قدم الخدمات لكن الذي عليه مدار الأمر هو الذي ينظر العامة إلى قوله.

(13) انظر إلى تعجب ابن دقيق العيد من غفلة الفقيه، فكيف لو رأى من يبرر لأخذ المكوس بحجة الفتاوى السابقة، مع أنه عجب من غفلة فقيه استجلب الفتاوى السابقة للجمع للجهاد، فسبحان الله.

(14)  انظر كيف يعرف هذا العالم الجليل أن نقل الفتوى يحتاج لشروط ومعرفة في منازع الأحكام، وهذا ما لا يحسنه أكثر المقلدة.

(15) عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان للعيني، (4/72).

(16) مجموع الفتاوى، (10/675).

(17) المرجع نفسه، (2/731).

اقرأ أيضا

أسباب اختلال فقه النوازل (2-4)

أسباب اختلال فقه النوازل (3-4)

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

أسباب-إختلال-فقه-النوازل

 

التعليقات غير متاحة