خلق الله ـ تعالى ـ الثقلين لعبادته وحده لا شريك له، وأوجب عليهم تقواه والاشتغال بطاعته، وامتحاناً منه ـ عز وجل ـ لهم سلط عليهم من نفوسهم الأمارة بالسوء ومن شياطين الجن والإنس ما يزين لهم المخالفة ويدعوهم إليها، وحف ـ سبحانه ـ طاعته بالمكاره، ومخالفة أمره بالشهوات.

أبرز ما يعين المرء على التعبد

وأمام ذلك فلا بد لمريد النجاة من وسائل معينة له تثبته على الطاعة ، وتقوِّيه في مواجهة أعدائه، وتجاوز العقبات التي تدفعه إلى الزلل وتحول بينه وبين عمل الآخرة، وفي المقال السابق [ معينات التعبد دعوة للتنافس في القرب والطاعات(1) ] ذكرنا بعض الوسائل من أبرز ما يعين المرء على التعبد ونكمل في هذا المقال من خلال النقاط التالية:

 خامساً: فقه نهج التقرب

غاية العبد من تعبده النجاة يوم القيامة وعلو المرتبة عند الله تعالى، وإن من أعظم السبل الموصلة لذلك فقه الكيفيات والتوجيهات التي رسمها الشارع في باب التعبد، والتي يتمكن بها العبد من مداومة العمل ومضاعفة الأجر، ولعل من أبرز ما ينبغي فقهه في هذا الجانب ما يلي:

1 ـ المسارعة إلى العمل

حثت الشريعة على المبادرة إلى الطاعات وعدم الإبطاء في أدائها. قال ـ تعالى ـ: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148] ، وقال ـ سبحانه ـ: (وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133] ، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة»1(1) صحيح أبي داود (4810). ، وقال -صلى الله عليه وسلم -: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»2(2) المستدرك، للحاكم: 4/341، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3355) . ، وعن أحمد قال: (كل شيء من الخير يبادر به)3(3) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 2/239.، وقال ابن بطال: (الخير ينبغي أن يبادَر به؛ فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمَن، والتسويف غير محمود)4(4) فتح الباري، لابن حجر: 3/299..

فيا باغي الرفعة لا تسرح لنفسك في الطول؛ فما أنت إلا في مزرعة، من يجني منها أكثر يعلو عند الله قدره، وترتفع في الآخرة منزلته؛ فبادر إلى العمل قبل أن يبادر بك، فإنك عندها تغتبط بالمبادرة إلى الخير، وتندم على التفريط في أعمال البر.

2 ـ المداومة على فعل الخير

المداومة على الطاعات هدي راشد، وجَّه إليه النبي -صلى الله عليه وسلم – ومارسه؛ فعن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – سئل: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: أدومه وإن قلَّ»5(5) مسلم (782) . ، وعنها ـ رضي الله عنها ـ أن عمله -صلى الله عليه وسلم – كان دِيمة6(6) البخاري (6101) ، ديمة: أي دائم شبهته بالمطر الدائم في سكون. ، وأنه -صلى الله عليه وسلم – كان إذا عمل عملاً أثبته7(7) مسلم (746) ..

وحتى يتمكن العبد من الاستمرار في المداومة على الطاعات نجده -صلى الله عليه وسلم – يأمر بالاقتصاد في العبادة، وينهى عن التعمق والتشديد على النفس فيها؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «القصدَ القصدَ تبلغوا»8(8) البخاري (6098) . ، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم – المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا؟ قالوا: لزينب تصلي؛ فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حُلُّوه! ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد»9(9) مسلم (784) .، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وعندي امرأة، فقال: مَنْ هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام تصلي، قال: خذوا من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»10(10) مسلم (785) . ، وعن عبد الله ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: «قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم -: ألم أُخْبَر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟ قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً، ولأهلك حقاً، فصُم وأفطر، وقم ونم»11(11) البخاري (1153) ..

قال النووي: (وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ويثمر القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة)12(12) شرح النووي على مسلم: 6/71.، وليس المراد من الأمر بالقصد في العبادة منع طلب الأكمل فيها؛ فإن ذلك من الأمور المحمودة، بل المراد التدرج في مراقي الخير، والإيغال في الدين برفق، وقياد النفس خطوة خطوة حتى يصلب عودها في باب التعبد، وتعتاد الإكثار من القُرَب دون أن تكره العمل، حتى لا يكون المرء كالمنبتِّ الذي لا هو قطع أرضاً، ولا أبقى أرضاً، فلا بد من (منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته، كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة)13(13) فتح الباري، لابن حجر: 1/94..

وفَهْمُ طبيعة النفس من أعظم مُعينات العبد على مدوامة العمل الصالح؛ إذ لها إقبال وإدبار، وقد أوضحت ذلك النصوص والآثار؛ فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال: «لكل عابد شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فإمَّا إلى سُنَّة وإما إلى بدعة؛ فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك»14(14) أحمد (6477) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والشرَّة: النشاط والحرص.، وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «إن لهذه القلوب إقبالاً وإدباراً؛ فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض»15(15) مدارج السالكين، لابن القيم: 3/126.، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن لهذه القلوب شهوة وإقبالاً، وإن لها فترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، ودعوها عند فترتها وإدبارها»16(16) الزهد، لابن المبارك (1331) ..

ومما يُكمِل مسألة مداومة العبد على العمل الصالح قضاؤه ما فاته منه، وقد جاءت النصوص دالة على مشروعية ذلك؛ فمنها حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل»17(17) مسلم (747) ..

وبالعموم؛ فكل الخير في اجتهاد باقتصاد مقرون بمتابعة النبي -صلى الله عليه وسلم -، وما أجمل مقولة أُبَيِّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ: «وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم – إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً – أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم»18(18) اعتقاد أهل السنة، لللالكائي (10) .، فاللهم مُنَّ علينا بلزوم السنة في كل أمورنا.

3 ـ تنويع العمل

جمع القرب وتنويع الطاعات من أمتن السبل المعينة على التعبد، وأبلغ الطرق الموصلة إلى مرضاة الله ـ تعالى ـ وعلو المنزلة عنده سبحانه؛ يدل على ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»19(19) مسلم (1028) ..

وما ذلك إلا لأن في تنويع الطاعات تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم -، واستكثاراً من الخير، وتحفيزاً للنفس على العمل، ومراعاة لطبيعتها؛ لأنها قد تصاب بنوع من الرتابة والاعتياد نتيجة لزوم أنواع محددة من القُرَب، وقد يُفتَح لها في أبواب من الخير أخرى يكون القلب فيها أحضر؛ فكلما نوَّع العبد من قُرَبه، وتقلَّب بين جنباتها كلما جدد إيمانه، وتعرف على الحال التي هي أنفع لقلبه، وأتقى لربه، وتمكن من استغراق وقت أطول في عمل ما يحبه ـ سبحانه ـ ومكَّنه ذلك من استثمار قلبه ولسانه وجوارحه في طاعة مولاه، وقضاء جميع أحواله وأوقاته في مرضاة الله تعالى.

4 ـ إدراك مراتب الأعمال

فاضَلَ الله ـ تعالى ـ بين الأعمال الصالحة، كما قال ـ سبحانه ـ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة: 19] ، وقال سبحانه: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت: 45] ، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»20(20) مسلم (58) .، وكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «قلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»21(21) البخاري (2782) ..

وتفاضل الأعمال مرده تارة إلى جنس العبادة؛ فمثلاً جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.

وتارة إلى حال العبد فالتسبيح والذكر في حال الركوع أفضل من القراءة، والطواف للآفاقي22(22) الآفاقي: الآتي من الآفاق، أي من غير المقيمين في مكة. أفضل من الصلاة، بينما الصلاة للمقيم بمكة أفضل، وما يقدر عليه العبد من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنس المعجوز عنه أفضل.

وتارة إلى وقت العمل؛ فالصدقة في رمضان خير منها في غيره، والقراءة والذكر والدعاء بعد صلاتي الفجر والعصر هي من الأعمال المشروعة دون الصلاة.

وتارة إلى مكان العمل؛ فالصلاة في المساجد الثلاثة أفضل من الصلاة في غيرها، والمشروع للحاج بعرفة ومزدلفة وعند الصفا والمروة هو الذكر والدعاء دون الصلاة.

وتارة إلى جنس العابد؛ فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج23(23) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/427 – 429..

فالذي يحسن أن يختار العبد من القُرَب أعلاها منزلة وأكثرها أجراً، هذا من حيث الإطلاق. أما من حيث التقييد؛ فمن الصعب القول بأن قُرْبة معينة هي الأفضل في حق شخص معين؛ إذ الأفضل في حق كل إنسان ما كان أنفع له وأجمع لقلبه وأشرح لصدره؛ فكل قُرْبة يأتي بها العبد على الوجه الكامل، ويكون فيها أتقى لله وأخشع، فهي أفضل في حقه من غيرها، وإن كانت هناك قُرْبة أفضل منها. يقول ابن تيمية مبيناً ذلك: (من الناس من لا يصلح له الأفضل، بل يكون فعله للمفضول أنفع، كمن ينتفع بالدعاء دون الذكر، أو بالذكر دون القراءة، أو بالقراءة دون صلاة التطوع. فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه، ويرغب فيها ويحبها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة)24(24) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 22/347-348. ، وفي موضع آخر يقول: (فأكثر الخَلْق يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل: من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك فإنه قد يفسد عقله ودينه)25(25) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 19/119، وانظر: 17/131-132، 18/238، 22/308 – 309، 23/63، 24/198 – 200..

ولهذا فقد تكون قُرْبةٌ في وقت أفضل للعبد، وفي وقت آخر لا تكون الأفضل له، بل يكون الأفضل له قربة أخرى بحسب جمعيته لقلبه عليها، فينبغي للعبد أن يجتهد في اختيار القربة التي هي أرضى لربه، وأعظم لأجره، وأن يستهدي الله ـ تعالى ـ ويستعينه على ذلك، فإنه ما صدق عبد ربه إلا صنع له سبحانه.

5 ـ توسيع دائرة التقرب

مهما اجتهد المرء في العبادات المحضة وأعطاها من وقته فإنها تبقى معدودة؛ إذ له قدرة محدودة لا يمكنه تجاوزها، كما أن له متطلبات جسدية، واحتياجات فطرية، وعليه واجبات اجتماعية لا بد من مجيئه بها وإعطائها جزءاً كبيراً من وقته، ولذا فقد فتح الرب الرحيم للمسابقين في الخيرات الحريصين على عالي الدرجات أموراً يمكنهم من خلالها توسيع دائرة تقربهم، ولعل من أبرزها ما يلي:

أ – احتساب الأجر في المباح

والتي لا يثاب المرء عليها إلا بنية رجاء الأجر على فعلها من الله تعالى، كما دل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة»26(26) البخاري (5351) .، وقوله -صلى الله عليه وسلم – لسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»27(27) البخاري (56) .، فالمباح (إذا قصد به وجه الله ـ تعالى ـ صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبه -صلى الله عليه وسلم – على هذا بقوله -صلى الله عليه وسلم -: «حتى اللقمة تجعلها في فِيِ امرأتك»28(28) جزء من حديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ، انظر: البخاري (3936) .؛ لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها؛ فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح؛ فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر -صلى الله عليه وسلم – أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله ـ تعالى ـ حصل له الأجر بذلك؛ فغير هذه الحالة أوْلى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى؛ ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً أصله على الإباحة وقصد به وجه الله ـ تعالى ـ يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكفَّ نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام وليقضي حقها وليحصل ولداً صالحاً، وهذا معنى قوله -صلى الله عليه وسلم -: «وفي بضع أحدكم صدقة»29(29) مسلم (1006) .، والله أعلم)30(30) شرح النووي على مسلم: 11/77 – 78، وانظر: فتح الباري، لابن حجر: 5/368، عمدة القاري، للعيني: 8/91، فيض القدير، للمناوي: 5/32..

وقد وردت آثار عدة عن بعض السلف تحث على هذا الأمر؛ فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ حين سئل: كيف تقرأ؟ فقال: «أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»31(31) البخاري (4342) . ، أي: أنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم؛ ليكون أنشط عند القيام بالعبادة، وعن زيد الشامي قال: (إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام والشراب) ، وعنه قال: (انوِ في كل شيء تريد الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة)32(32) انظر قولي زيد في: الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 72، جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 13. الكُناسة: اسم موضع بالكوفة..

فيا من تريد توسيع دائرة قُرُباتك، والإكثار من أجورك أرد إرضاء الله ـ تعالى ـ بما تأتي من الأمور المباحة والأعمال المعتادة؛ فإن المرء يؤجَر عليها متى جعلها وسيلة لطاعة واجبة أو مندوبة أو تكميلاً لشيء منهما33(33) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/460 – 461، فتح الباري، لابن حجر: 12/275، عون المعبود، للعظيم آبادي: 12/7..

ب – الهم بعمل الخير وإن لم يعمل

فإن نية الخير المجردة من الفعل يثاب المرء عليها، كما في حديث: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة)34(34) البخاري (6491) ..

فإن نوى الخير، وكانت النية مستقرة في القلب فحال بينه وبين عمله عذر أو عجز كان له أجر عامل، كما يدل على ذلك حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة،، فقال: «إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله! وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر»35(35) البخاري (4423) . ، وحديث أبي كبشة الأنباري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: فهما في الأجر سواء،….»36(36) ابن ماجة (4228) ، وصححه الألباني. ، وحديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً»37(37) البخاري (2996) .، وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة»38(38) سنن أبي داود (1314) ، وصححه الألباني.؛ فالنية أبلغ من العمل، والخير كله إنما يجمعه حُسن النية، وإن لم ينصَب العبد.

ت – إرادة أكثر من قُرْبة بالعمل الواحد

إذ يُشرَع في بعض الأعمال نية أداء أكثر من طاعة بعمل واحد؛ فالنية الصالحة تُكثِر العمل وتباركه وإن كان قليلاً، كمن يريد بمكثه في المسجد: الاعتكاف، وانتظار الصلاة، وينوي بتناول طعامه: حفظ النفس، والتقوِّي على أعمال البر، وينوي بطهارته: المكث في المسجد، والصلاة، وقراءة القرآن، والطواف، … ونحو ذلك من الأعمال التي يثاب فيها المرء على تعدد قصده، ويكون جمع نيته فيها أفضل من كثير من الطاعات39(39) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي: 221..

فيا مسارعاً في الخيرات تفقه في كيفية الظفر بالأجور، ومرِّن نفسك على تطبيقها! فإن أمامك جبالاً من الأجور بإمكانك نيلها دون مشقة أو عناء.

كانت هذه بعض مُعِينات التعبُّد، والموضوع واسع، والمهديُّ من وفقه الله وأعانه. نسأل الله ـ تعالى ـ أن يلهمنا رشدنا، ويهدينا سواء السبيل بمنه وكرمه، إنه جواد تواب رحيم، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهوامش

(1) صحيح أبي داود (4810).

(2) المستدرك، للحاكم: 4/341، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3355) .

(3) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 2/239.

(4) فتح الباري، لابن حجر: 3/299.

(5) مسلم (782) .

(6) البخاري (6101) ، ديمة: أي دائم شبهته بالمطر الدائم في سكون.

(7) مسلم (746) .

(8) البخاري (6098) .

(9) مسلم (784) .

(10) مسلم (785) .

(11) البخاري (1153) .

(12) شرح النووي على مسلم: 6/71.

(13) فتح الباري، لابن حجر: 1/94.

(14) أحمد (6477) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والشرَّة: النشاط والحرص.

(15) مدارج السالكين، لابن القيم: 3/126.

(16) الزهد، لابن المبارك (1331) .

(17) مسلم (747) .

(18) اعتقاد أهل السنة، لللالكائي (10) .

(19) مسلم (1028) .

(20) مسلم (58) .

(21) البخاري (2782) .

(22) الآفاقي: الآتي من الآفاق، أي من غير المقيمين في مكة.

(23) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/427 – 429.

(24) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 22/347-348.

(25) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 19/119، وانظر: 17/131-132، 18/238، 22/308 – 309، 23/63، 24/198 – 200.

(26) البخاري (5351) .

(27) البخاري (56) .

(28) جزء من حديث سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ، انظر: البخاري (3936) .

(29) مسلم (1006) .

(30) شرح النووي على مسلم: 11/77 – 78، وانظر: فتح الباري، لابن حجر: 5/368، عمدة القاري، للعيني: 8/91، فيض القدير، للمناوي: 5/32.

(31) البخاري (4342) .

(32) انظر قولي زيد في: الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 72، جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 13. الكُناسة: اسم موضع بالكوفة.

(33) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 10/460 – 461، فتح الباري، لابن حجر: 12/275، عون المعبود، للعظيم آبادي: 12/7.

(34) البخاري (6491) .

(35) البخاري (4423) .

(36) ابن ماجة (4228) ، وصححه الألباني.

(37) البخاري (2996) .

(38) سنن أبي داود (1314) ، وصححه الألباني.

(39) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي: 221.

المصدر

مجلة البيان العدد:217، فيصل بن علي البعداني.

اقرأ أيضا

معينات التعبد دعوة للتنافس في القرب والطاعات(1)

علاقة المحبة بالإيمان والعبادة

مجاهدة النفس على العمل: (المحبة والإخلاص)

الآثار السلوكية لتوحيد العبادة

التعليقات غير متاحة