كل عبادة مرتبطة بآثار سلوكية وأخلاقية وقيمية ينبغي أن تؤتيها في قلب العبد لو أداها على وجهها؛ فإن لم يجد فأداؤه مدخول ينبغي مراجعته.

مقدمة

المهمة التي خلق الله البشر من أجلها هي عبادته وحده لا شريك له؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] لكنّ الله جل وعلا مستغن عن الخلق كلهم، ولا حاجة له تبارك وتعالى لعبادتهم كما جاء في الحديث القدسي: «لو أنَّ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً». (1أخرجه البخاري) لكن نفع العبادة حاصل لنا أولاً وأخيراً، ولهذا قال العلماء: إن مبنى الشريعة على تحصيل مصالح العباد في الدنيا والآخرة.

فعبادة الله جل وعلا هي المنهج الذي يحفظ لهذا الكون انتظامه وسيره دونما تخبط في أي ناحية من نواحي الحياة، وعلى أي مستوى من المستويات، وإن اختلال هذه العبادة اختلال لنظام هذا الكون، وبالتالي دخوله في دهاليز الضلال والانحطاط والفساد، على جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَاًتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ﴾ [الرعد: 41].

فأداء العبادة كما أمر الله بها هو سبيل سعادة هذه البشرية بأكملها.

فالعبادة هي الزمام الذي يكبح جماح النفس البشرية، أن تلِغَ في شهواتها، وهي السبيل الذي يحجز البشرية عن التمرد على شرع الله تعالى.

فالخلل في أداء العبادة مؤْذن بالخلل في الكون.

أعظم مقاصد العبادة

فأعظم مقاصد العبادة حصول التقوى التي هي الحاجز عن وقوع الإنسان في المعاصي، وهي كذلك المحرك الفعال لهذه النفس حتى تنطلق من قيود الأرض، فترفرف في علياء السماء، وتنطلق في أفعال الخير بشتى صوره.

فإذا كان مردود العبادة من التقوى والخشوع لله عز وجل ضعيفاً أو ميتاً، فإن الهدف الذي شرعت من أجله العبادة لم يتحقق؛ وبالتالي تكون العبادة وكأنها لم تؤدّ.

ولنتأمل هذه النصوص القرآنية والنبوية:

﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 182]، ﴿.. وَأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ..﴾ [العنكبوت: 45].

ويقول الرسول: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». (2البخاري، كتاب الصوم)

فليس المقصود من العبادة مجرد الحركات الظاهرة التي تمارسها الجوارح دون أن تؤثر في الباطن، وإنما المقصود مع ذلك عمل القلب، من الإخبات والتذلل والخضوع بين يدي الله عز وجل، وذلك روح العبادة ولُبّها.

إن الذي يؤدي العبادة، أيَّ عبادة كانت، ولم يقم في قلبه أثناء ذلك مقام العبودية لله عز وجل؛ فكأنه ما أدى تلك العبادة؛ وبمعنى آخر فقد أدى صورة العبادة لا حقيقتها.

فشرود القلب في مواطن العبادة هو من أعظم الآفات التي تعرض للإنسان في سَيره لله عز وجل، لأن العبادة بقلب شارد غافل لاهٍ، لا تترك الأثر المطلوب على النفس الإنسانية، فلا يحصل الإنسان بها على الأجر المطلوب؛ ولذلك يقول الرسول: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها». (3انظر صحيح الجامع، ح1622)

ومع استمرار الغفلة، وشرود القلب في مواطن العبادة تصبح العبادة مجرد حركات ظاهرة، ليس لها أي أثر على قلب صاحبها؛ ومن ثم ليس لها أي أثر على تصرفاته، فتصبح العبادة عادة.

وهذا ما يفسر لنا ما نراه من سلوك بعض الناس المخالف لشرع الله في المعاملة وفي الخُلُق مع أنهم من المصلين ومن رواد المساجد، بل ربما من قارئي القرآن ومن صائمي هواجر الأيام؛ لذلك يلاحظ الفرق الكبير بين من يصلي ثم ينصرف من صلاته كما دخل فيها، وبين من إذا وقف استشعر أنه واقف بين يدي الله، فاستحضر نية التقرب إلى الله عز وجل عند شروعه في الصلاة، وقام وفي قلبه مقام العبودية لله عز وجل، وشعر بالانكسار بين يدي العزيز الجبار، ثم إذا قرأ القرآن أو تلاه أو ذكر الأذكار واطأ قلبه لسانه، فإذا قال مثلاً: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾؛ فهو قد سأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، وهكذا حتى ينصرف من صلاته.. انظر إلى حال هذا الرجل وحال من دخل في صلاته وقلبه في مكان آخر، فالقرآن والأذكار تتردد على لسانه، دون أن تتجاوزه إلى عقله أو فكره.

وانظر إلى من إذا انصرف من صلاته قال: (استغفر الله) ثلاث مرات، وقلبه يطلب العفو والمغفرة من الله على ما حصل من تقصيره في هذه العبادة، وانشغال قلبه بغير الله فيها.

ولا يقتصر الأمر على الصلاة، بل إنه عام في جميع العبادات أو أغلبها؛ انظر إلى الصيام.. تلك العبادة العظيمة التي يقول الله عز وجل فيها: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». (4أخرجه البخاري)

إن كثيراً من الناس لايشعرون بأثر للصيام على نفوسهم، مع أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، يقول: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَحَر الصدر». (5أخرجه البزار وأحمد بن حنبل، ج5ص363، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: ج1ص429 البيان) أي: غِلّه وحِقده، فالصوم يقطع أسباب التعبد لغير الله، ويورث الحرية من الرق للمشتبهات؛ لأن المراد من الحرية أن يملك الأشياء ولا تملكه. (6انظر: فيض القدير ج4ص211)

هل يفعل الصيام بنا هذا..؟! بل إن الله عز وجل قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ لأجل ّ ﴿لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183] فإذا لم يُحدث الصيام للإنسان تلك التقوى، فإنه لم يحقق الغرض الذي شرعه الله من أجله، ولكن.. ما السبب في عدم إحداثه للتقوى في النفوس..؟

سبب عدم إيتاء العبادات أثرها

الأسباب كثيرة، أعظمها أن الصيام وهو عبادة من العبادات أصبح عند كثير من الناس مجرد عادة، يدخل الإنسان فيه دون أن يستحضر نية التقرب لله عز وجل بهذه العبادة، وفي أثناء الصوم ترى قلبه غافلاً لاهياً عن التذكر والتفكر في هذه العبادة العظيمة.

وفي المقابل؛ انظر إلى ذلك الرجل الذي قام من أجل السحور، تذكر أنه يأكل هذه الأكلة من أجل أن يتقوَّى على الصيام الذي يتقرب به إلى الله عز وجل، وفي أثناء صومه ـ وكلما تذكر الطعام أو الشراب أو غيرهما من المحظورات ـ حدَّث نفسه وعالج قلبه بأنه إنما يفعل ذلك حبّا وتقرباً إلى الله، حتى يأتي يوم القيامة وقد وضع في ميزان أعماله صيام ذلك اليوم، ثم إذا أفطر فرح بهذا الإفطار

وانتظر فرحه الآخر بهذا الصوم حين يلقى ربه جل وعلا.. فقلبه أثناء الصوم أو في أغلبه منشغل بالتعبد لله عز وجل؛ فهذا هو الصيام الذي رتّب الله عليه ذلك الأجر العظيم، وهذا هو الصيام الذي يعالج النفس والقلب من أمراضها وأدرانها.

وبعد؛ فخلاصة ما تقدم بعبارة سريعة مختصرة أن حقيقة الإيمان التي أُمرنا بها أن تتواطأ عبادة القلب مع عبادة الجوارح، فتتحقق عبودية القلب مع عبودية الجوارح، فنحسن العبادة باطناً كما نحسنها ظاهراً.

كيف نبعث الروح في عبادتنا..؟

إذا تبينت أهمية ما تقدم، فلسائل أن يسأل ما هي الوسائل التي تقود إلى إحسان العبادة باطناً، أو بعبارة أخرى: كيف نبعث الروح في عبادتنا، ونجنبها الموت؟

الوسائل كثيرة ومتنوعة، ولكن حسبي أن أشير إلى بعضها:

حضور القلب قبل ـ أو عند ـ البدء بالعبادة

والفقهاء يتحدثون عن النية قبل الشروع في العمل ويعنون بها النية التي تميّز العمل نفسه، كصلاة الظهر عن صلاة العصر، وصوم النافلة عن صوم الفرض.. وما إلى ذلك، ويتحدث أرباب التوحيد وأهل السلوك عن النية التي تميز المعمول له، وهو المقصود بهذه العبادة.

تحديث القلب وتذكيره بالتعبد لله عز وجل

سواء أكان ذلك خارج العبادة أو حتى في أثنائها إن أمكن، وليس هذا مجال الحديث عن عبودية القلب لله رب العالمين. وكثير من الناس ـ بل ومن بعض طلاب العلم وغيرهم من أهل الخيرـ يغفلون عن هذا كثيراً، وهذا التحديث والتذكير نهر يمد القلب باللين والرقة والخشوع، فإذا شحّ ماؤه جفّ القلب ويبس ثم قسا، نعوذ بالله من ذلك.

التهيؤ للعبادة والاستعداد لها

والمثال الذي يوضح هذا وأثره: التبكير إلى المساجد لأداء الصلاة، وهذا التهيؤ المادي الجسدي يصاحبه ولا شك تهيؤ نفسي وروحي وقلبي، وفي حثِّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على التبكير إلى المساجد خير دليل على ذلك، والأحاديث كثيرة مشهورة.

والحج كذلك له تهيؤ؛ فردُّ الأمانات والمظالم، والتخلص من الحقوق قبل الشروع في السفر كلها صور للاستعداد لهذه العبادة العظيمة، وكذلك تهيئة الزاد والراحلة والرفقة الصالحة.

والمتأمل في ذلك يجد الفرق شاسعاً بين من يؤدي العبادة دون استعداد بدني يصحبه تهيؤ قلبي ومن يأتي الصلاة مسرعاً حتى يدرك الركعة فيدخل في الصلاة ولم يسكن جسده من ذلك السعي، ولعل في نهي الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن السعي بعدَ الإقامة إشارة إلى ذلك، وإلى أن يتفاعل الإنسان روحيّاً ونفسيّاً مع هذه العبادة تكون الصلاة أوشكت على النهاية.

الابتعاد عما يشوش القلب أثناء العبادة

ففي الصلاة مثلاً؛ نهى الرسول، صلى الله عليه وسلم، المصلي أن يصلي إلى ما يشغله أثناء الصلاة (فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي).

ولهذا جاء النهي عن أن يصلي الإنسان في حضرة طعام أو وهو يدافع الأخبثين؛ كل هذا من أجل أن ينخلع القلب من علائق الدنيا وينجذب إلى حقيقة العبادة ويجتمع في قلب العبد وفكره ووجدانه الاتجاه إلى الله تعالى. ومثل هذه الأمور يمكن فعلها في عبادات أخرى. ليكون أدعى لانشغاله وتفرغه للعبادة، مما يؤدي لتفرغ قلب الإنسان للتوجه وللعبودية لله عز وجل أثناء الصوم.

الأداء الآليّ..!

المُشاهد أن كثيراً من الناس يؤدي بعض العبادات بصورة تلقائية أقرب إلى الحركة الميكانيكية، فمثلا في الصلاة ترى كثيراً منهم يدخل في صلاة النافلة فيقرأ دعاء الاستفتاح الذي يجري على لسانه، ومن ثم سورة الفاتحة، ثم تجري على لسانه إحدى السور الصغار التي يحفظها على ظهر القلب، وربما إذا سألته بعد صلاته ماذا قرأ، فإنه لا يذْكر.

ولا تفكر الأغلبية العظمى من الناس مثلا في قراءة صيغة أخرى لدعاء الاستفتاح، أو في قراءة آيات أو سور من غير تلك السور التي تجري على ألسنتهم دون أن يتفكروا فيها أو يشعروا بها، مع أن السنة وردت بالتنويع في هذه الأذكار، فهناك عدة صيغ لدعاء الاستفتاح، والرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ من القرآن كله في تطوعه.

خاتمة

هذا والوسائل كثيرة ومتنوعة، لكن حسْب الإنسان أن يضع هذه القضية نصب عينيه هدفاً منشوداً، وأن يحاسب نفسه فيما يتعلق بها، فكلما عمد إلى عبادة من العبادات عليه أن ينأى بعبادته أن تكون ميتة.

وقد ورد أن صلاة المرء إذا ضيعها قالت ضيعك الله كما ضيعتني، والعكس إن أداها على وجه الكمال والإحسان..

إن يوما قريبا ستنكشف الأمور وتظهر لنا حقيقة التعبدات التي قمنا بها؛ فوطِّيء نفسك لتكون أمينا موفّيا حق الله سبحانه.

…………………………..

الهوامش:

  1. أخرجه البخاري.
  2. البخاري، كتاب الصوم.
  3. انظر صحيح الجامع، ح1622.
  4. أخرجه البخاري.
  5. أخرجه البزار وأحمد بن حنبل، ج5ص363، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: ج1ص429 البيان.
  6. انظر: فيض القدير ج4ص211.

المصدر:

  • د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف، مجلة البيان، العدد 94.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة