يُقْدم بعضهم فيما يظنه شجاعة ولا ينظر للعواقب فيورط ويتورط ويسيء، أو يتأخر بعضهم هلعا. وبين الأخذ بالأسباب والحيطة أو سوء الظن والإضرار بالخلق؛ توازن جاء به الإسلام.

الشجاعة

الشجاعة خُلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله تعالى وفيما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد الاعتدال والتوسط فتكون تهورًا وجرأة، وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع.

خلق محمود بين طرفين مذمومين

إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:

طرف الإفراط والتهور

وهو الغلو في الشجاعة والإقدام، دون النظر في عاقبة ذلك، ويسمى هذا تهورًا؛ حيث تقْدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك.

طرف التفريط والجبن

وهو ضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولد عنه الجبن والخوف، «والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فلا يظن الجبان بالظفر، ولا يساعده الصبر، فإذا ساء الظن ووسوست النفس بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته». (1كتاب «الروح» لابن القيم (صـ 501، 502))

موقف التوازن؛ ثبات ونظر في العواقب

وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ «لأن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من “الصبر” و”حسن الظن”. والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولَّى ولَّتْ سائر جنوده». (2انظر: كتاب «الروح» لابن القيم (ص 501-502))

ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إلا أنه لا يتهور ولا يتجرأ على الإلقاء بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، ولا يقدم في غير موضع الإقدام.

الحذر وأخذ الحيطة

إن أخذ الحيطة والحذر من الأعداء وممن يُظَن به الشر هو أمر مطلوب، وهو من باب الأخذ بالأسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]، ولكن هذا الاحتراز قد يختل التوازن فيه، فيميل إما إلى الإفراط ومجاوزة الحد وإما إلى التفريط والإضاعة. والناس فيه:

طرفان مذمومان ووسط عدل

طرف الغلو وتعميم سوء الظن

وهو الغلو والإفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفْرط الذي أدى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجالات الخير أو السكوت على بعض المنكرات بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة.

طرف التفريط وقِلة الوعي

وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة والاحتراز ممن يظن به الشر، وإنما غلب عليهم البَلَهُ وقلة الوعي حتى أحسنوا الظن بكل الناس وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.

التوازن بين الحذر وعدم التفريط

وهو الموقف العدل والمتوازن، وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى الأخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن شره وفساده، لكنه لم يُفْرِط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، بل الفرق عنده واضح بين الاحتراز وسوء الظن الفاسد.

يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى:

“والفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعدَّ له عُدَّتَه، فهمُّه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب.

وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحْذرهم ويحْذرون منه؛ فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم، الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض». (3«الروح» (ص504))

بين الحذر ومن الآيات التي يظهر فيها التوازن والطمأنينة: قوله تعالى في صلاة الخوف: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [النساء:102].

ويجلي هذا التوازن في الآية صاحب الظلال، رحمه الله تعالى، فيقول:

“الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصَى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف: التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: ﴿إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾..

وهذا التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!». (4«في ظلال القرآن» (2/ 748))

خاتمة

هكذا جاء الإسلام بمنهج قصد قويم، بالغ الاستقامة ومطر مع الفطرة؛ فيتجنب السالك رعونة وتهورا، ويتجنب جبنا وهلعا.

كما يتقدم ليحصل منافعه آخذا حذره، ولا يقعد مسيئا للظن مانعا النفع عن نفسه وعن خلق الله. هكذا منهج الله فبئسا لقوم لا يوقنون.

…………………………..

الهوامش:

  1. كتاب «الروح» لابن القيم (صـ 501، 502).
  2. انظر: كتاب «الروح» لابن القيم (ص 501-502).
  3. «الروح» (ص504).
  4. «في ظلال القرآن» (2/ 748).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة