إن من المصطلحات الخطيرة التي يتلاعب بها اليوم تلك المصطلحات التي يلبَّس على الناس بها لهدم عقيدة “الولاء والبراء” وتفريغها من قلوب المسلمين، تلكم العقيدة التي تقوم على المعاداة والموالاة في الله عز وجل، ومن هذه المصطلحات الخطيرة مصطلح “التسامح الديني والإخاء” و”نشر المحبة” و”نبذ الكراهية مع بني الإنسان” حتى يعيش الناس في عالم مسالم مطمئن بعيدًا عن الحروب والعداوة والخصومات.

التصدي للهجوم على عقيدة الولاء والبراء وإزالة الشبهات المثارة حولها

إن دور أهل العلم والدعاة إلى المنهج الحق هو التصدي للشبهات والتأويلات الفاسدة، وأن هذا ضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله عز وجل لا يقل إن لم يفق جهاد الكفار باليد والسنان، لأن الجهاد بالسنان يكفي فيه النية الصادقة والدربة على فنون القتال؛ ليكون صالحا وفاعلا في هذا النوع من الجهاد، أما الجهاد بالبيان والحجة ورد تأويلات المبطلين والمشبهين فلا يصلح له إلا من آتاه الله العلم والبصيرة النافذة في الدين مع التقوى واليقين.

وقد ذكرنا في مقال سابق [ بعض مظاهر الغزو الفكري ] بعض مظاهر الغزو الفكري، وإثارة الغبش حول العقيدة الصحيحة، عقيدة أهل السنة والجماعة، وأساليب هذا الغزو في التشويش على أصول الدين وأحكامه وعلى تاريخ المسلمين. ويحسن هنا ذكر بعض الردود على هذه المظاهر مشاركة في جهاد البيان، وهي على سبيل المثال في جهاد المبطلين لا على سبيل الحصر.

وقد سبق الإشارة إلى أهم هذه الصور التي يسعى فيها أعداء الدين بتسليط معاولهم هدم هذا السور المنيع الذي حفظ الله عز وجل به هوية المسلمين وولاء بعضهم لبعض، وتميزهم عن الكفار طيلة التاريخ الإسلامي، ألا وهو سور الولاء والبراء، ومن أهم هذه الصور:

التسامح الديني والإخاء

قولهم: إن الولاء والبراء يتعارض مع التسامح الديني والإخاء، وعليه ينبغي أن نلغي مصطلح (المسلم والكافر)، ونستبدله (بنحن والآخر)!! وعلينا أن نبدي تسامحنا مع الآخر.

ولا يخفى تهافت هذه الشبهة وسرعان ما تذوب وتضمحل عند الرجوع إلى كتاب الله عز وجل الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 46] ويكفينا في ذلك قول الله عز وجل: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85] وقوله تعالى: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..) الآية [المجادلة:22]، وقوله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ… ) الآية [الممتحنة: 4]، وقوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ…) الآية [المائدة: 72]، وقوله سبحانه: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْر…)الآية [الحشر: 2]، وختاما قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون: 1-6].

فهل بعد هذه الآيات البينات الواضحات عذر لمن ينادي بمحبة الكافر والتسامح الديني معه، وعدم تسميته بالكافر؟

بعض المؤاخذات العقدية في هذا الطرح

أولا: استبدال الأسماء والمصطلحات الشرعية بأخرى من أفكار البشر

العدول عن الأسماء والمصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أسماء ومصطلحات بشرية غامضة، ونحاتات أفكار واهية، أفرزتها عقول مهزومة، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتركت ما أسماه الله عز وجل من الأسماء المنطبقة على مسمياتها في كتابه -سبحانه وتعالى-، حيث قسم الناس إلى حزبين: حزب الله المؤمنين وحزب الشيطان الكافرين، قال الله عز وجل: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:۲۰۷].

فليس هناك (نحن والآخر) وإنما هناك (المسلمون والكافرون)، قال تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) [الحج:78]، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) [التغابن :2]، والآيات في ذكر الكفر والكافرين كثيرة جدا، جاء ذكرها في ما يزيد على 352 موضعا، فلماذا التحرج من كلام الله عز وجل الذي هو أحسن الحديث وأصدقه وأفصحه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلً)، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا).

إن من يتحرج من كلام الله عز وجل وتسمياته، ويرتاح لكلام البشر ومصطلحاتهم ومسمياتهم يخشى عليه أن يكون تحت طائلة قوله تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر:45].

لقد نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده من أن يكون في الصدور حرج من الصدع بكل ما جاء في القرآن من أسماء وأحكام، وعقائد وقصص وأخبار، بل الواجب اتباعه، فقال تعالى: (المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 1-3].

وعند هذه الآية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه، وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق، فلما أنزل كتابه؛ ارتفع به عنها ذلك الحرج، وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمنوا به، كما قال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام: 125])1(1) «الصواعق المرسلة» (4/1518 ) (باختصار)..

ويقول أيضا في موطن آخر: (ولا تجد مبتدع في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته، كما أنك لا تجد ظالما فاجرا إلا وفي صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته، فتدبر هذا المعنى، ثم ارض لنفسك بها تشاء)2(2) «الفوائد» (ص90)..

ثانيا: الهزيمة النفسية أما الكافر

لو أن الأمر في استبدال (الآخر) بالكافر توقف عند الاستبدال اللفظي لكان الأمر أهون مع مخالفته لكلام الله عز وجل كما تبين، ولكن الخطورة في هذا الاستبدال يتجاوز اللفظ إلى الهزيمة النفسية أمام الآخر الكافر، وذلك بالدعوة إلى عدم الكراهية له، وإخفاء ظلمه، وعدوانه، وإرهابه، وكأنه مظلوم قد سلبت حقوقه!! ويشعر السامع من الذين يطرحون مصطلح (الآخر) بأنهم يعيشون تحت ظرف سياسي داخلي أو خارجي صور لهم الآخر، وكأنه مظلوم يريد من ينصره ممن ظلمه!

واعتمدوا في ذلك على نصوص في الكتاب والسنة تدعو إلى التسامح والبر والقسط مع الكفار، وحرفوها عن معانيها، وفصلوها عن مناسباتها التي نزلت فيها، ونسوا أو تناسوا الآيات التي فيها وجوب عداوة الكافر والبراءة منه، وجهاده حتی یکون الدين كله لله، فالبر والقسط شی ء ، والموالاة والنصرة شيء آخر.

الخلط والتلبيس في تسمية موالاة الكافرين ومداهنتهم تسامح ومدارة

(إن رفع شعار التسامح والصفح مع الكفار اليوم ليوضع في غير موضعه، لأن في ذلك خلط وتلبيس وتضليل، حيث تسمى الموالاة والمداهنة للكفار تسامح ومداراة، وفرق كبير بين المداراة والمداهنة التي فيها تصحيح مذاهب الكفار أو السكوت عليها، وإظهار المحبة لهم ونسيان عداوتهم وحربهم للمسلمين في القديم والحديث، إن الذين كفروا من أهل الكتاب هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا هم درعا وردءا، وأهل الكتاب، هؤلاء هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان، في الحبشة والصومال وأرتيرية، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان، وهم الذين قتلوا أهلنا ونساءنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق، ثم يظهر بيننا من يظن أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر، ندفع به الإلحاد والإرهاب، إن هؤلاء لا يتدبرون القرآن الكريم، وإلا لما اختلطت عليهم دعوة السياحة التي هي طابع الإسلام بدعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن.

إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون في فهم معنى الأديان، كما يخطئون في فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي، إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم، بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام، ولا يقبل دونه بديلا، ولا يقبل فيه تعديلا – ولو طفيفا هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم، وهو يقرر (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران:19]، (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85]، (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة:49]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]، وفي القرآن كلمة الفصل ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين)3(3) انظر: (طريق الدعوة) أحمد فايز (بشيء من التصرف والاختصار)..

الهوامش

(1) «الصواعق المرسلة» (4/1518) (باختصار).

(2) «الفوائد» (ص90).

(3) انظر: (طريق الدعوة) أحمد فايز (بشيء من التصرف والاختصار).

اقرأ أيضا

التهوين من عقيدة الولاء والبراء

مقومات الولاء والبراء

الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة

الطائفة المنصورة وواقعنا المعاصر (1-8) محورية الولاء والبراء

 

التعليقات غير متاحة