للفتوى شروط شرعية لامتلاك الأدوات التي أمر الله بها من العلم الشرعي، وشروط في معرفة الواقع “المناط” ومآلاته. وثمة خطورة في هذا في واقعنا المعاصر.

 مقدمة

مرتبة الإفتاء ومنصبها مرتبة عظيمة الخطر في دين الله تعالى وفي واقع المجتمعات، فإنه يترتب عليها اتجاهات للمجتمع، وإما ان تثبت بها مجتمعات في مواجهة خطط ومكر من المنافقين، وإما ان يُسمح من خلالها بتمرير فواجع في الأمة.

وبحسب نضج هذه الفتاوى واستيفائها للشروط الشرعية واستيعابها للواقع ومعرفة المفتي بالبيئة حوله؛ بحسب هذا تكون دقة الفتوى وإصابتها لموافقة الشرع وتحقيق مقاصده في المجتمع.

ومن هذه الشروط معرفة مآلات ما يفتي به المفتي، لا النظر الى الجزئي الذي يتكلم فيه فقط بل  النظر الى سياقه وكلّيّه الذي ينتمي اليه في الشرع، ومآلاته التي سيفضي اليها.

وجوب النظر الى مآلات الفتوى

يجب الانتباه الشديد إلى مآلات الفتوى، وما يترتب عليها من الأفعال والمواقف، وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي كثرت فيه النوازل، وانتشرت فيه الأهواء والشهوات فلا جَرَمَ كان الاهتمام بهذه المسألة متعينًا؛ إذ قد لا يكون في المسألة المراد بحث حكمها المجرد بأس ولا حرج، أو قد تكون مسألة خلافية، لكن عندما ينظر إلى مآلات الحكم في زمن ما أو مكان ما أو شخص ما؛ فإن الحكم حينئذ قد يتغير؛ فإن كان يغلب على الظن أن الحكم سيؤول إلى مفسدة وشر، ووقوعٍ في الحرام، فإنها تصبح حرامًا؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد، وإن كان الحكم لا يئول إلى وقوع في الحرام، أو مفسدة على الدين فإنها تبقى جائزة.

وهذا يدخل فيما يعرف بقاعدة “سد الذرائع”، وهي قاعدة عظيمة شريفة يحصل بإلغائها وعدم مراعاتها مفاسد عظيمة في أديان الناس ونفوسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم.

والعجب ممن لا يراعيها في نظره للأحكام وما يفتي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، مع أن كثيرًا من التشريعات الإسلامية في الكتاب والسنة كان قائمًا على هذه القاعدة؛ لأن المحرمات في الإسلام منها ما هو محرم لذاته ومنها ما هو محرم لغيره.

والمحرم لغيره إنما حُرِّم لا لأنه في ذاته حرام، وإنما لما سيؤدي إلى الوقوع في المحرم لذاته، والأمثلة في ذلك كثيرة.

أمثلة معاصرة

وأضرب مثالين من واقعنا المعاصر أحدهما اجتماعي، والآخر سياسي، ليتبين لنا من خلالها أثر الحكم في حال اعتبار المآلات، وفي حال عدم اعتبارها.

المثال الأول: الأحكام المتعلقة بالمرأة في مجالاتها المختلفة

وذلك بأن يتعرض المفتي لمسائل كثيرة عن المرأة، كأن يسأل عن الحجاب الشرعي، وحكم اختلاطها بالرجل، وهل تجوز قيادتها للسيارة؟.. وغير ذلك من المسائل التي تخصها.

فإن أفتى المفتي في مثل هذه المسائل دون النظر إلى مآلات الحكم، أو دون النظر لمكر المستفتِي، أو دون النظر لمن سيوظف الفتوى في مخططه المرسوم لإفساد المرأة..

إذا لم يراع المفتي هذه الأمور، فإنه سيفتي فتوى مجردة كأن يقول بالرأي المرجوح في جواز كشف المرأة لوجهها، أو جواز اختلاطها بالرجل بالضوابط الشرعية! أو جواز قيادتها للسيارة، كما كانت تقود البعير والحمار في القديم!

أما إذا نظر المفتي في هذه المسائل وتأملها، ووعى واقعه الذي يعيشه والذي ستنتشر فيه فتواه، وماذا ستؤول إليه فتواه، ومَن هم المفسدون الذين سيتخذون الفتوى ذريعة لمفاسد يبيتونها وتطفح على ألسنتهم وكتاباتهم؛ إنه إذا نظر إلى ذلك كله، فإن الفتوى حينئذ ستأخذ في الاعتبار مفاسد كشف الوجه في هذا الزمان، وما يترتب عليه من الفتن، وأنه باب إلى السفور والتبرج.

وكذلك مفاسد اختلاط المرأة بالرجل، وأن المتربصين بالمرأة يريدون زجَّها مع الرجل في كل ميادين العمل، ما يناسب المرأة منها وما لا يناسبها، وستكون سكرتيرة وعاملة في المصنع مع الرجل، تخلو به ويخلو بها، وغير ذلك من المفاسد.

وكذلك ما يتعلق بقيادة السيارة؛ فعندما ينظر إلى المفاسد العظيمة التي تئول إليها، فإن الفتوي تتغير ولا يصبح الأمر شبيهًا بقيادة الحمار أو البعير! وإنما الأمر فيه من المخاطر ما الله به عليم، ولا يقال إن هذا الكلام تخرُّص وتوهُّم، وإنما هو عين الحقيقة لمن تبصَّر واقعه، وما جدَّ فيه من الفتن والشرور، ويكفي أن نلقي نظرة فاحصة على من وقع في هذه الفتن من بلدان المسلمين لتكون شاهدًا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وليس المقام مقام تفصيل هذه المفاسد، فهي أوضح من أن تفصل وتذكر، ولسنا بحاجة إلى ذكر ذلك كله، وإنما حاجتنا إلى أن يتق اللهَ بنو قومنا من الذين يتكلمون بلا علم أو وعي لواقعهم؛ فيفتون بلا مراعاة لمآلات فتواهم فيَضلون ويُضلون.

ليتقوا الله في دين الأمة وأعراض المسلمين، وليحذروا من مكر الماكرين ومغالطات المفسدين الذين يفرحون بمثل هذه الفتاوى لينفذوا بها مخططاتهم الخبيثة باسم الشرع والدين.

وبالجملة؛ فإن المفتي الموفَق في هذا الزمان هو الذي يأخذ حذره في فتواه وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة لأنها مستهدفة، ويراد لها أن تحاكي المرأة الغربية في زيها وممارساتها في نهاية الأمر، فإذا أدرك المفتي هذا المخطط الإفسادي، وأدرك حقيقة المعركة اليوم بين السفور والحجاب، فإنه حينئذ سيكون فَطِنًا ولا يُصدر فتواه إلا بعد رويّة ومعرفة بمآلات فتواه، وهذا يقتضي وعيه بالواقع، وسؤال أهل الخبرة والاختصاص والاستفصال من السائل عن كل ما يتعلق بسؤاله، ويفصّل في جوابه بحيث يسدّ على المفسد أي باب يمكن أن يدخل منه في توظيف الفتوى في غير مقصودها الشرعي.

والمصيبة اليوم أن الفتوى لم تعد قاصرة على أهلها، بل تسلَّق إليها كل رويبضة من رجل وامرأة، وصغير وكبير، فأصبحنا نرى نساء ورجالًا قد وضعوا أنفسهم في رتبة “المجتهدين” في نوازل الأمة، فسوَّدوا الصحف والمجلات بجرأتهم العجيبة على دين الله عز وجل وأحكامه؛ فهذا يفتي في حجاب المرأة ولباسها، وهذه تفتي في حكم سفَرها بلا محرم وقيادتها للسيارة، وأخرى تفتي في حكم عملها مع الرجل، وغير ذلك من الفتاوى التي تصدر عن جاهل أو جاهلة بشرع الله عز وجل.

ولو سألت هذا الظالم عن أركان الصلاة أو شروط الوضوء أو مفسدات الصوم لما علم لذلك جوابًا! فكيف يبيح هؤلاء لأنفسهم الإفتاء في أمر يجهلون أدلته وقواعده؟ بينما لو تكلم أحد في غير اختصاصه من علوم الدنيا كالطب والهندسة لأنكروا عليه وشنعوا!

أَلَا إنه الهوى والجَرأة على دين الله عز وجل ، وخلوّ الساحة ممن يأخذ على أيديهم ويؤدبهم.

المثال الثاني: أحكام الصلح والسلام مع الكفار

وهذا مما كثرت فيه الأقوال، واختلطت فيه الأوراق وذلك نتيجة لعدم تحقيق المناط أو عدم مراعاة لمآلات الأحكام.

وسبب هذا الخلط هو عدم معرفة الواقع، وأبعاد القضية وما تئول إليه في نهاية الأمر؛ فعندما لا ينظر المفتي إلى هذه الأبعاد ومآلاتها، فإنه سيفتي فتوًى مجردة وسيقيسها على صلح الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين يوم الحديبية، أو على معاهدته صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة، أو غيرها من معاهدات المسلمين مع الكفار، وسيكون الحكم بالجواز!

أما إذا نظر إلى حقيقة الواقع، وأن طرفي الصلح لا يَمُتَّان إلى الإسلام بصلة؛ فطرف فيه الكافر الأصلي، والطرف الآخر ينسب نفسه للإسلام مع رفضه للإسلام وشريعة الرحمن، فكيف يقاس مَن هذا شأنه بالرسول صلى الله عليه وسلم المستسلم لشرع ربه عز وجل القائم بأمر الله تعالى في كل شئونه وشئون الأمة؟

كيف يعطَى هؤلاء الرافضون لشرع الله عز وجل فتوى من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنهم لا يرضون بشريعة الإسلام ولا يتحاكمون إليها؟

إن في هذا إهانة للإسلام وخدمة لأهواء الطواغيت.

وكذلك عندما ينظر المفتي إلى مآلات الحكم بجواز السلام مع العدو الكافر، وما يترتب على “التطبيع” معهم من المفاسد العظيمة في أديان الناس وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم، فإن الحكم حينئذ سيتغير، وسيكون الرفض والمنع سدًّا للذريعة وحماية للأمة من هذه الشرور العظيمة.

وقد يفتي المفتي بجواز الصلح المؤقت معهم لمصلحة، لكن إذا علم أن في هذا الحكم مجالًا لتوظيفه في الصلح الدائم والإقرار المطلق لليهود في استيلائهم على بلاد المسلمين؛ فإن هذا الحكم سيتغير ما دام أنه ذريعة لمفاسد تنتهي إليه.

خاتمة

إن المقصود بيانه هنا هو أن اعتبار قاعدة سد الذريعة، ومراعاة مآلات الفتوى لها الأثر الكبير في الوقوف أمام مخططات الأعداء ـ الكفار منهم والمنافقون ـ في تمرير مخططات الاستسلام والخنوع، وأن عدم اعتبارها فيه تقديم خدمة لأعداء الدين فيما يرومونه من الكيد لهذه الأمة.

……………………………………

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة