أمر الله بإقامة العدل طلبا لوجهه الكريم؛ فيقوم به المؤمن على نفسه وعلى أرحامه وولده، وعلى مُبغضيه وشانئيه؛ كقيمة ربانية لا تحيف ولا تميل مع اختلاف الأوضاع والظروف.

تعريف العدل

قال في لسان العرب:

“العدْل: ما قام في النفوس أنه مستقیم، وهو ضد الجور. عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلا، وهو عادل من قوم عدول.. وفي أسماء الله الحسنى (العدْل) وهو الذي لا يميل فيجور في الحكم. والعدل : الحكم بالحق “.

وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه: إن العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم ، قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 42]، والعدل في القول، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام: 152]، والعدل: الفدية، قال تعالى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: 123]، والعدل في الإشراك، قال تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 1] أي يشركون.

وفلان يعدل فلانا: أي يساويه، وعدل الموازين والمكاييل: سواها، وتعديل الشيء: تقويمه، والاعتدال: توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم: جسم معتدل بين الطول والقصر، ماء معتدل بين الحار والبارد..إلخ، والمعادلة: الشك في أمرين، يقال: أنا في عدال في هذا الأمر؛ أي: في شك منه أأمضي عليه أم أتركه..؟

والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل، والحث عليه، والتحذير من ضده كثيرة جدا، لكننا نقتصر على بعضها مع نقل بعض أقوال علماء التفسير حولها .

الآيات الآمرة بالعدل

الآية الأولى: الاعتدال والقسط متلازمان

يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18] يعلق شيخ الإسلام على قوله تعالى: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾؛ فيقول:

“فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان؛ فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيما، ومن كان قوله وعمله مستقيما كان قائما بالقسط.؛ ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقیم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط، والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل”. (1مجموع الفتاوی (19/ 179))

الآية الثانية: القسط على النفوس ولأقربين

قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 135].

يعلق “سيد قطب” على هذه الآية بقوله :

“إنها أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كل حال، وفي كل مجال؛ القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض، والذي يكْفُل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه، من المسلمين وغير المسلمين. وفي هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد ويتساوى الأعداء والأصدقاء، والأغنياء والفقراء..

والمنهج الرباني يجنّد النفس في وجه ذاتها، وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أوّلا ﴿ولو على أنفسكم﴾، وتجاه الوالدين والأقربين ثانية، وهي محاولة شاقة أشق بكثير من نطقها باللسان..

إلى أن قال:

“ثم هو يجنّد النفس كذلك في وجه مشاعرها الفِطرية، أو الاجتماعية حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا؛ تشفق النفس من شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه، أو من یكون فقره مدعاة للشهادة ضده ـ بحكم الرواسب الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية ـ وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته، أو قد يثير غناه وتبطّره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده …”. (2في ظلال القرآن (2/ 549) ط. دار المعرفة)

الآية الثالثة: العدل رغم البغضاء

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة :8].

يعلق “سید قطب” رحمه الله على هذه الآية بقوله:

“لقد نهى الله عز وجل الذين آمنوا من قبل، أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام على الاعتداء، وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة، يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم؛ فها هم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق؛ فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض”. (3في ظلال القرآن (2/ 997) ط. دار المعرفة) (باختصار))

الآية الرابعة: العدل مع حساسية الضمير

قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152].

يعلق “سید قطب” رحمه الله على هذه الآية؛ فيقول:

“وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري. وقد ربطه بالله ابتداء ـ إلى مستوی سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته. فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري؛ الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل والامتداد، بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل. وفي قوة القرابة سند لضعفه، وفي سعة رقعتها كمال لوجوده، وإن امتدادها جيلا بعد جيل حماية لامتداده؛ ومن ثَم يجعله ضعيفا تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم وبين الناس.

وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربي، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه؛ وهو سبحانه أقرب إلى المرء من حبل الوريد”. (4في ظلال القرآن (3/ 246 ) ط. دار المعرفة)

أمْر رسول الله بالعدل

أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل، وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جدا نقتصر على بعضها:

الحديث الأول: العدل بين الأولاد

ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: «نحلني أبي نحلا، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه ليُشهده على صدقتي، فقال: «أكلَّ ولدك نحلت مثله؟»، فقال: لا، فقال: «اتقوا الله واعدلوا في أولادكم»، وقال: «إني لا أشهد على جور». قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة». (5رواه البخاري في الهبة (2578)، ومسلم في الهبات (1623))

الحديث الثاني: العدْلُ صدقة

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ يعدل بين اثنين صدقة». (6رواه البخاري في الصلح (2707)، ومسلم في الزكاة (1009))

الحديث الثالث :العدل بلا خوفٍ من لومة لائم

ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «بايعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا؛ لا نخاف في الله لومة لائم»، وزاد النسائي: «وعلى أن نقول بالعدل أين كنا». (7رواه البخاري في الأحكام (7199)، (7200)، ومسلم في الإمارة (1709) واللفظ له، والنسائي في البيعة على السمع والطاعة (7/ 137))

الحديث الرابع :جزاء العدل يوم لقاء الله

روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وُلُّوا». (8رواه مسلم في الإمارة (1827) باب: فضيلة الإمام العادل)

الحديث الخامس: الدعاء بنعمة القيام بالعدل

روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن یاسر رضي الله عنه ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغِنی، وأسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين». (9رواه النسائي في كتاب السهو (3/ 55). وهو في صحيح سنن النسائي (1237)، (1238))

القيام بالعدل مِنة

إن العدل ـ كما عرضه كتاب الله تعالى ـ قيمة سامية، ونعمة كبرى أن تكون قائما بها؛ ليس نعمة فقط في أن ترى العدل وتعيش في بيئته؛ بل قيامك به مِنَّة تُسأل من الله تعالى؛ فهي سموّ بشري ورقي أخلاقي وترفع على جواذب النفوس والقربى والأرض، وارتفاع الى الربانية التي يصطفي لها الله من خلقه. ومخالفة العدل وخيم العاقبة على الظالم في الدنيا والآخرة، ويمتد شؤمها؛ فيعاني منها من حوله.

……………………

الهوامش:

  1. مجموع الفتاوی (19/ 179).
  2. في ظلال القرآن (2/ 549) ط. دار المعرفة.
  3. في ظلال القرآن (2/ 997) ط. دار المعرفة.
  4. في ظلال القرآن (3/ 246 ) ط. دار المعرفة.
  5. رواه البخاري في الهبة (2578)، ومسلم في الهبات (1623).
  6. رواه البخاري في الصلح (2707)، ومسلم في الزكاة (1009).
  7. رواه البخاري في الأحكام (7199)، (7200)، ومسلم في الإمارة (1709) واللفظ له، والنسائي في البيعة على السمع والطاعة (7/ 137).
  8. رواه مسلم في الإمارة (1827) باب: فضيلة الإمام العادل.
  9. رواه النسائي في كتاب السهو (3/ 55). وهو في صحيح سنن النسائي (1237)، (1238).

المصدر:

  • الشيخ/ عبد العزيز الجليل، “وإذا قلتم فاعدلوا” المجلد الأول، ص18-26.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة