بين اعتبار العقل مصدرا يوجب على الله ويحرم عليه، ويقتحم الغيب ويفتري الكذب، ويفتئت على الله، وبين إلغائه واحتقاره ومخالفة الضروريات؛ يقع تصور أهل السنة المتوازن للعقل.

مقدمة

أهل السُّنة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين “غلَوا” في العقل وعظّموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنّوا أنه يمكن أن يقدَّم على النقل، وردّوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء؛ وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبِلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول.

وكلا الطرفين ابتعد عن منهج أهل السُّنة، وهدى الله السلف وأتْباعهم لما اختُلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به، ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجَّهوه لتدبُّرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تُحِطْ به العقول منها.

والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية؛ كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذمّ المعطِلين لعقولهم كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج:46]، وكما في قوله تعالى ـ وفي أكثر من آية: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الروم: 24]، وقوله: ﴿أَفَلَا يَعْقِلُونَ﴾ [يس: 68] (1(انظر كتاب: «فاستقم كما أمرت» (ص 170-171) للمؤلف)

بين المتكلمين والمتصوفة

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى:

“ولمّا أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان؛ تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعَيْن له.

والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.

وكثير من المتصوفة يذمّون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرّون من الأمور بما يُكذِّب به صريح العقل.

ويمدحون السُّكْر والجنون والوَلَه، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يُعلم بالعقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه.

وكلا الطرفين مذموم.

بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمُل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلًا بذلك؛ لكنه “غريزة” في النفس، و”قوة” فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.

وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.

فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.

والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكنِ المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًّا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدّقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم”. (2«مجموع الفتاوى» (3/338، 339))

دور العقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها

وهنا مسألة تتعلق بدور العقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها. وهذه أيضًا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق، وهدى الله عز وجل أتباع السلف إلى الحق فيها؛ فكان الناس فيها طرفان مذمومان ووسَط عدل محمود.

الطرف الأول: من غلا وأفرط في دور العقل واستقلاليته في معرفة قبح الأشياء وحسنها، حتى آل بهم الأمر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت بالعقل وليس متوقفا على الشرع وإبلاغ الرسل.

الطرف الثاني: من فرَّط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح وإنما ذلك متوقف على الشرع.

الوسط العدل: يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.

وقد أفاض الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، في ذكر الأدلة التي يرد بها على الفريقين المذمومين: الغلاة والجفاة، وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال، رحمه الله تعالى:

“فاعلم أن هذا مقام عظيم زلّت فيه أقدام طائفتين من الناس: طائفة من أهل الكلام والنظر، وطائفة من أهل السلوك والإرادة.

فنفى لأجله كثير من النُّظَّار التحسين والتقبيح العقليين، وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يميَّز القبيح بصفة اقتضت قبحه؛ بحيث يكون منشأ القبح. وكذلك الحسن؛ فليس للفعل “عندهم” منشأ حسن ولا قبح، ولا مصلحة ولا مفسدة، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين السفاح والنكاح، إلا أن الشارع حرَّم هذا وأوجب هذا؛ فمعنى حُسْنه كونه مأمورًا به، لا أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبحه كونه منهيًّا عنه، لا أنه منشأ مفسدة، ولا فيه صفة اقتضت قبحه، ومعنى حُسْنه أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة، ولا فيه صفة اقتضت حسنه.

وقد بيّنّا بطلان هذا المذهب من ستين وجهًا في كتابنا المسمى «تحفة النازلين بجوار رب العالمين» (3لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: «مفتاح دار السعادة»؛ حيث ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجهًا على بطلان هذا المذهب) وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك. وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبيّنّا بطلانه.

فإن هذا المذهب ـ بعد تصوره، وتصور لوازمه ـ يجزم العقل ببطلانه، وقد دل القرآن على فساده في غير موضع، والفطرة أيضًا وصريح العقل.

فإن الله سبحانه فَطَر عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة والإحسان، ومقابلة النعم بالشكر. وفَطَرَهم على استقباح أضدادها. ونسبة هذا إلى فِطَرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النَّتْن إلى مشامِّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم، وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرّقون بين طيبه وخبيثه، ونافعه وضاره.

وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى الملاءمة والمنافرة، بحسب اقتضاء الطباع، وقبولها للشيء، وانتفاعها به، ونَفرتها من ضده.

قالوا: وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام في كون الفعل مُتَعَلَّقًا للذم والمدح عاجلًا، والثواب والعقاب آجلًا، فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنه لا يعلم إلا بالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتضٍ له.

فيقال: هذا فرار من الزحف؛ إذ هاهنا أمران متغايران لا تلازم بينهما:

أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشئًا لهما أم لا..؟

والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المرتب على قبحه، ثابت ـ بل واقع ـ بالعقل، أم لا يقع إلا بالشرع..؟

ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم، وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعًا استطالوا عليكم، وأبدوا من فضائحكم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه؛ وهم غَلطوا في تلازم الأصلين، وأنتم غَلطْتم في نفي الأصلين.

والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل: أنه لا تلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات، ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحًا موجبًا للعقاب مع قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والأوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع.

فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع، والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل، وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزَّنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا، لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل.

وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح

ونحن نبين دلالته على الأمرين:

أما الأول: ففي قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: 15]، وفي قوله: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165].

وفـي قـولـه: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك: 8-9]؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذُر. وبذلك دخلوا النار…

وأما الأصل الثاني: وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير جدًا كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ … يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ … قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:28- 33]؛ فأخبر سبحانه أن فعلهم “فاحشةٌ” قبل نهيه عنه، وأمر باجتنابه بأخذ الزينة، و«الفاحشة» هاهنا هي طوافهم بالبيت عُراة ـ الرجال والنساء ـ غير قريش، ثم قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ﴾؛ أي: لا يأمر بما هو مناف للحكمة.

ثم قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ﴾، ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلُّق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام: قل إنما حرم ربي ما حَرَّم.

وكذلك تحريم الإثم والبغي؛ فكون ذلك فاحشة وإثمًا وبغيًا بمنزلة كون الشرك شركًا؛ فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده؛ فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركًا بعد النهي، وليس شركًا قبل ذلك.

ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك؛ لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.

نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحًا؛ فكان قبحها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها، وذَمَّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها، كما أن العدل والصدق والتوحيد، ومقابلةَ نِعمَ المنعم بالثناء والشكر: حسن في نفسه، وازداد حُسنًا إلى حُسنه بأمر الرب به، وثنائه على فاعله. وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله”. (4«مدارج السالكين» (1/ 420-427) باختصار، ط. دار طيبة)

خاتمة

كم يفتن الناس في الموقف من العقل؛ بين معظم له يعبده كما هي فتنة الحضارة الغربية المعاصرة، وبين ملغٍ لمكانته يتأخر فيضعف ويقدح في العقل والشرع جميعا.

لذلك فالموقف الوسط لأهل السُنة باعتبار العقل ووضعه في مكانته اللائقة دون إفراط ولا تفريط أمر ضروري بيانه. وبالله التوفيق.

…………………………………

الهوامش:

  1. انظر كتاب: «فاستقم كما أمرت» (ص 170-171) للمؤلف.
  2. «مجموع الفتاوى» (3/ 338، 339).
  3. لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: «مفتاح دار السعادة»؛ حيث ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجهًا على بطلان هذا المذهب.
  4. «مدارج السالكين» (1/ 420-427) باختصار، ط. دار طيبة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة