إذا افتقد الإنسان الثوابت ضل واضطرب في التصور والسلوك، وإذا افتقد للمتغيرات جمد وتوقف عن الحياة. لا بد منهما، لينمو في طريق مستقيم.

مقدمة

إن سلفية العقل عند أهل السنة تتجلَّى أكثر ما تتجلى في تمسُّكه بالثوابت التي لا تقبل النقض، ولا التجاوز، ولا التغيير. وما سوى الثوابت من الفروع المتجددة والنوازل المتغيرة؛ فإن العقل تظهر مرونته واجتهاده فيها حسب الأحوال والأمكنة والأزمنة منطلِقًا في اجتهاداته من الأصول، والثوابت المقررة في الشريعة الإسلامية.

وليس التمسك بالثوابت جمودًا، ولا تحجرًا، بل هو إقرار واقعي بآدمية الآدمي وقصور عقله ومحدوديته، وربوبية الرب عز وجل وكماله وعظمته وجلاله. (1انظر: «العقلانية هداية أم غواية» (ص44) (بتصرف))

ماذا نعني بالثوابت..؟

والثوابت لا يمكن الفَكاك عنها ولا تجاهلها، ولا بد منها حتى عند أصحاب الأفكار المنحرفة من أصحاب المذاهب والأحزاب الأرضية، وعند الغرب والشرق، وعند أصحاب الإدارة، فكلهم يؤكدون على الثوابت، وعدم التنازل عنها؛ فكيف بدين سماوي هو خاتم الرسالات إلى البشر، وهو من عند الله العليم الحكيم، واللطيف الخبير.

والثوابت التي يعنيها أهل السنة هي تلك التي لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الأحوال، فمَن وصفه الله عز وجل بالشرك أو الكفر أو النفاق لا يصبح في زمان آخر أو مكان آخر؛ غير مشرك، أو غير منافق. وكذلك الأخلاق والقيم الثابتة لا تتغير؛ فلا يتحول مثلًا الزنا والسفور والعري في وقت من الأوقات أو في مكان من الأمكنة مباحًا مستحسنًا.

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن خاصية الثبات كخاصية من خصائص العقيدة الإسلامية:

“من الخاصية الأساسية للتصور الإسلامي خاصية «الربانية» تنبثق سائر الخصائص الأخرى، وبما أنه «رباني» صادر من الله، ووظيفة الكينونة الإنسانية فيه هي التلقي والاستجابة والتكيّف والتطبيق في واقع الحياة، وبما أنه ليس نتاج فكر بشري، ولا بيئة معينة، ولا فترة من الزمن خاصة، ولا عوامل أرضية على وجه العموم.. إنما هو ذلك الهُدى الموهوب للإنسان هِبة لدنّية خالصة من خالق الإنسان، رحمة بالإنسان..

بما أنه كذلك فمن هذه الخاصية فيه تنشأ خاصية أخرى؛ خاصية:

«الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت».

هناك «ثبات» في مقومات هذا التصور الأساسية، وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتطور؛ حينما تتغير «ظواهر» الحياة الواقعية، و«أشكال» الأوضاع العملية؛ فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع، يظل محكومًا بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور.

ولا يقتضي هذا «تجميد» حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة ـ بل دفعها إلى الحركة ـ ولكن داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت.

ونزوع هذا الإنسان إلى «الحركة» لتغيير الواقع الأرضي وتطويره حقيقة ثابتة كذلك منبثقة أولًا من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون، ومنبثقة ثانيًا من فطرة هذا الإنسان، وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض، فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته، أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور.

وهكذا تبدو سمة:

«الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت» سمة عميقة في الصنعة الإلهية كلها، ومن ثم فهي بارزة عميقة في طبيعة التصور الإسلامي.

وهنا نستعرض نماذج من المقومات والقيم الثابتة في هذا التصور… وهي التي تمثل «المحور الثابت» الذي يدور عليه المنهج الإسلامي في إطاره الثابت.

إن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية ـ وهي قاعدة التصور الإسلامي ـ ثابت الحقيقة، وثابت المفهوم أيضًا، وغير قابل للتغيير ولا للتطوير:

حقيقة وجود الله وسرمديته، ووحدانيته، وقدرته، وهيمنته، وتدبيره لأمر الخلق، وطلاقة مشيئته.. إلى آخر صفات الله عز وجل وآثارها في الكون والحياة والناس.

وحقيقة أن الكون كله ـ أشياءه وأحياءه ـ من خلق الله وإبداعه، أراده الله سبحانه فكان، وليس لشيء ولا لحيّ في هذا الكون أثارة من أمر الخلق في هذا الكون، ولا التدبير ولا الهيمنة، ولا مشاركة في شيء من خصائص الألوهية بحال.

وحقيقة العبودية لله.. عبودية الأشياء والأحياء.. وعموم هذه العبودية للناس جميعًا.

وحقيقة أن الإيمان بالله ـ بصفته التي وصف بها نفسه ـ وملائكتِه وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره شرط لصحة الأعمال وقبولها.

وحقيقة أن الدين عند الله الإسلام، وأن الله لا يقبل من الناس دينًا سواه، وأن الإسلام معناه إفراد الله سبحانه بالألوهية وكل خصائصها، والاستسلام لمشيئته، والرضا بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته، وأن هذا هو دينه الذي ارتضاه، لا أي دين سواه.

هذه وأمثالها من المقومات والقيم كلها ثابتة، غير قابلة للتغير ولا للتطور، ثابتة لتتحرك ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع في إطارها، وتظل مشدودة إليها، ولتراعي مقتضياتها في كل تطور لأوضاع الحياة، وفي كل ارتباط يقوم في المجتمع، وفي كل تنظيم لأحوال الناس أفرادًا وجماعات في جميع الأحوال والأطوار». (2«خصائص التصور الإسلامي» (ص 85 – 93) (باختصار) وتصرف يسيرين)

وما ذكره سيد قطب رحمه الله تعالى من الثوابت هو على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وإلا فهناك تفصيلات تحت هذه العناصر هي الأخرى من الثوابت التي ثبت عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان، وقد تمثَّل هذا في الأصول التي قررها سلف الأمة في العقيدة، ودوَّنوها في كتبهم، وردودهم على أصل البدع، وبنوا دليلهم عليها من الكتاب والسنة.

وكذلك هناك الثوابت التي تتعلق بالأخلاق والقيم الثابتة، وكل ما علم من الدين تحريمه بالضرورة فهي الأخرى تعدُّ من الثوابت التي لا تتغير منذ وُجِد الحق على وجه الأرض، فالزنا، والظلم، وسفور المرأة وعُرْيُها، وعقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وهتك العرض والربا، وغيرها من مساوئ الأخلاق كلها من المحرمات الثابتة بثبوت الحق.

وبالجملة فإن الثوابت التي نعنيها هي:

“القطعيات ومواضع الإجماع التي أقام الله بها الحجة بينة في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا مجال فيها لتطوير أو اجتهاد، ولا يحل الخلاف فيها لمن علمها، بالإضافة إلى بعض الاختيارات العلمية الراجحة التي تمثل مخالفتها نوعًا من الشذوذ أو الزلل.

ومجال هذه الثوابت إنما يكون في كليات الشريعة، وأغلب مسائل الاعتقاد، وأصول الفرائض، وأصول المحرمات وأصول الفضائل والأخلاق. وأبرز ميادينها العقائد والعبادات والأخلاق أصول المعاملات». (3«الثوابت والمتغيرات» (ص35 – 37) (باختصار) د. صلاح الصاوي)

وهذه الثوابت وأمثالها منها ما هو شرط لبقاء عقد الإسلام ومنها ما هو شرط للبقاء في دائرة أهل السنة.

ماذا نعني بالمتغيرات..؟

وأما المتغيرات فهي التي تتعلق بموارد الاجتهاد التي لا يضلَّل فيها المخالف، والتي وسع السلف الصالح الاختلاف فيها، وبالتالي يسع المتبِعين لهم ما وسع سلفهم، إما للاختلاف في الدليل، أو الاختلاف في فهم الدليل. (4ولا يعني هذا عدم الإنكار على المخالف للدليل الصحيح بل ينكر عليه ويبيَن له الحق لكن لا يعادَى أو يفارَق. وتبقى المسألة التي ظهر فيها الحكم بدليله ثابتة وملزمة لمن علمها ولا يحل له تركها إلى ما يعلم بطلانه)

أو الاختلاف في مسألة لم يرد بشأنها دليل معين ولا قول للسلف؛ وإنما ينشأ الاختلاف من الاجتهاد في الترجيح بين المفاسد والمصالح المتعلقه بها، كالمستجدات التي تجدُّ في كل عصر.

كما يلحق بالمتغيرات كل ما تركه الشرع لأعراف الناس وعاداتهم في “القبض” و”الحرز” و”المعروف” في العشرة والنفقة وبعض الأخلاق المتعلقة بأعراف الناس مما لم يأت في الشرع نهي عنه كتغطية الرأس للرجل، وكشفه أمام الناس.

هل “المتغير” بلا قيود..؟

وعندما يقال عن بعض المسائل أنها من المتغيرات؛ فلا يقصد أنها منطلقة بلا قيد ولا ضابط، وإنما هي كما أشار سيد قطب رحمه الله تعالى: «تدور داخل إطار ثابت حول محور ثابت»؛ أي: أنها تنطلق من الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية، بحيث لا يقبل أي أمر جديد أو تغيير أمر كان العمل عليه في زمن معين إذا كان الأخذ به هدفًا أو مخالفة لأصل من أصول الدين، أو كان منطلقًا من هوى وفساد نية.

أما أهل العصرنة والعقلنة فيأخذون بمستجدات عصرهم ولو كان في ذلك هدم للثوابت بحجة التجديد والتطور..!

ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى في موطن آخر على الأهمية الكبرى لخاصية الثبات في هذا الدين فيقول:

“والقيمة الكبري لهذه الخاصية، هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوُّرُه؛ فتقوم عليه الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في استقرار وثبات، مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي الأنظمة، والأوضاع، فلا تتجمد في قالب حديدي ميّت ـ كالذي أرادته الكنيسة في العصور الوسطى ـ ولا تنفلت كذلك من كل ضابط انفلات النجم الهالك من مداره وفلكه..! وانفلات القطيع الشارد في المَهْلَكَة المقطوعة كما صنعت أوربا في تاريخها الحديث، حتى انتهت إلى ذلك التفكير الماركسي الشائه..!

ولعل هذه الخاصية هي التي ضمنت للمجتمع الإسلامي تماسكه وقوته مدى ألف عام، على الرغم من جميع الهِزَّات، ومن جميع الضربات، ومن جميع الهجمات الوحشية عليه من أعدائه المحيطين به في كل مكان؛ ولم يبدأ تفككه وضعفه إلا منذ أن تخلى عن هذه الخاصية في تصوره، وإلا منذ أن أفلح أعداؤه في تنحية التوجيه الإسلامي، وإحلال التوجيهات الغربية مكانه في العالم الإسلامي.

ومما لا شك فيه أن المجتمع الذي يجري دائمًا وراء تصورات متقلّبة أبدًا، لا تستند إلى أصل ثابت إطلاقًا، تنبع من الفكر البشري المحدود المعرفة، الظني المعرفة كذلك، الذي يبني علمه ـ مهما علم ـ على الظن والحدس والخرص، والفروض المتقلبة أبدًا، ثم يجعل من هذا العلم الظني إلهًا، أو يجعل من الهوى المتقلب إلهًا، يتلقى منه التصورات والقيم والموازين.

مما لا شك فيه أن مجتمعًا كهذا معرَّض دائمًا للهزات العنيفة، والأَرْجَحَة المستمرة، التي تنشئ في عقله الحيرة، وفي ضميره البلبلة، وفي أعصابه التعب، وفي حياته الشرود، وفي كيانه الفساد.

وهذا هو الذي حدث في المجتمعات الأوربية المفلتة من كل أصل ثابت، وهذا هو الذي تشقى به البشرية كلها اليوم، وهي تخبط في التِّيه، وراء المجتمعات الأوربية الشاردة..! (5«خصائص التصور الإسلامي» (ص102، 103))

خاتمة

لا بد من تصور ثابتِ المقومات والقيم، يجيء من مصدر ثابتِ العلم والإرادة، مصدر يرى المجال كله والخط كله، فلا تخفى عليه منحنيات الدروب، ولا يقدّر اليوم تقديرًا يظهر في غد خطؤه ونقصه، ولا تتلبس به شهوة أو هوى يؤثّر في موازينه، وتقديراته، ولا ضيْر بعد هذا من الحركة، والتغيّر، والتطوّر، والنمو، والترقّي؛ بل تصبح كلها مطلوبة، وتصبح كلها مأمونة، وتصبح كلها تلبية للفطرة القائمة على الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت، ولكنها حركة راشدة واعية، مدركة للغاية الثابتة التي تتجه إليها، في خَطْو متزن، مستقيم راسخ، وهذا هو ضمان الحياة الطويلة المدى، المتناسقة التصميم». (6المصدر السابق)

………………………………

الهوامش:

  1. انظر: «العقلانية هداية أم غواية» (ص44) (بتصرف).
  2. «خصائص التصور الإسلامي» (ص 85 – 93) (باختصار) وتصرف يسيرين.
  3. «الثوابت والمتغيرات» (ص35 – 37) (باختصار) د. صلاح الصاوي.
  4. ولا يعني هذا عدم الإنكار على المخالف للدليل الصحيح بل ينكر عليه ويبين له الحق لكن لا يعادي أو يفارق.وتبقى المسألة التي ظهر فيها الحكم بدليله ثابتة وملزمة لمن علمها ولا يحل له تركها إلى ما يعلم بطلانه.
  5. «خصائص التصور الإسلامي» (ص102، 103).
  6. المصدر السابق.

المصدر:

  • كتاب الوسطية، الجُليّل، الجزء الثامن ص170-187.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة