العليم هو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار، والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.

ورد اسم (العالم) ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم أضيف في عشر منها إلى الغيب والشهادة، وأضيف في ثلاث منها إلى الغيب وحده.

قال تعالى: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 94].

وقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) [الجن: 26].

كما ورد هذا الاسم مرتين في صورة الجمع:

قال تعالى: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) [الأنبياء: 51].

وقال تعالى: (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [الأنبياء: 81].

أما اسم الله (العليم) فقد ورد في القرآن الكريم مائة وسبعًا وخمسين مرة

من ذلك قوله تعالى: (وَأَن اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة: 97]، وقوله تعالى: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 32].

وقوله تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].

وقوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [النمل: 78].

وقوله تبارك وتعالى: (وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) [النساء: 12].

وأما اسمه سبحانه (علام الغيوب) فقد ورد أربع مرات ثنتان منها في سورة المائدة

قال تعالى: (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109]، وقال تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 116].

وفي سورة التوبة: قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَن اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة: 78].

وفي سورة سبأ: قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سبأ: 48].

ويلاحظ إضافة “علامّ” إلى الغيوب في هذه المواضع، والغيوب جمع غيب.

فالزيادة والتكثير في هذا الاسم “علامّ” تشاكل الجمع في غيوب.

المعنى اللغوي لهذه الأسماء

(العليم والعالم) اسمان متضمنان صفة العلم، (فالعالم): اسم الفاعل من علم يعلم فهو عالم، والعليمُ من أبنية المبالغة في الوصف بالعلمِ، وهو بمنزلة قدير من القادر.

والعلامّ بمنزلة عليم في المبالغة في الوصف بالعلم إلا أن علامًا يتعدى إلى مفعول، وبناء فعال بناء تكثير وزيادة1(1) انظر الزجاجي ص 50..

وقال في اللسان: “والعلم: نقيض الجهل .. وعلمت الشيء: عرفته وخبرته. وعلم بالشيء: شعر به”2(2) انظر لسان العرب 4/ 3082..

وقال الراغب: “العلم: إدراك الشيء بحقيقته”3(3) مفردات الراغب “علم”..

معناه في حق الله تعالى

قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة:32]: “إنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك”4(4) تفسير الطبري 1/ 175، 11/ 127..

وقال: “إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر، وحق وباطل، وخير وشر، وما تستجنه مما لم تجنه بعد”5(5) تفسير الطبري 1/ 175، 11/ 127..

وقال صاحب اللسان: “فهو الله العالم بما كان وما يكون قبل كونه، وبما يكون ولما يكن بعد قبل أن يكون، لم يزل عالمًا ولا يزال عالمًا بما كان وما يكون ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها، دقيقها وجليلها على أتم الإمكان”6(6) لسان العرب 4/ 3082، 3083..

وقال السعدي رحمه الله تعالى: “وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار، والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء”7(7) تفسير السعدي 5/ 299..

وقال أيضًا: “وهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22]، وقال تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [المؤمنين:91].

فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ منها لو وجدت على وجه الفرض والتقدير. ويعلم تعالى الممكنات – وهي التي يجوز وجودها وعدمها- ما وجد منها، وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده؛ فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي، والسفلي لا يخلو عن علمه مكان، ولا زمان ويعلم الغيب، والشهادة، والظواهر، والبواطن، والجلي، والخفي، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال: 75].

والنصوص في ذكر إحاطة علم الله، وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جدًا لا يمكن حصرها، وإحصاؤها، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر، وإنه لا يغفل، ولا ينسى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59]، (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه:7]”8(8) توضيح الكافية الشافية ص 118، وانظر الحق الواضح المبين ص 36..

“وإن علوم الخلائق على سعتها، وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلت، وتلاشت، كما أن قدرتهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجه من الوجوه، فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأقدرهم على مالم يكونوا عليه قادرين.

وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي، والسفلي، وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها.

فهو يعلم ما كان، وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم، وبعد ما يميتهم، وبعد ما يحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها خيرها، وشرها، وجزاء تلك الأعمال، وتفاصيل ذلك في دار القرار”9(9) الحق الواضح المبين ص 38،37..

“فينبغي للمؤمن الناصح لنفسه أن يبذل ما استطاع من مقدوره في معرفة أسماء الله، وصفاته، وتقديسه، ويجعل هذه المسألة أهم المسائل عنده، وأولاها بالإيثار، وأحقها بالتحقيق ليفوز من الخير بأوفر نصيب.

فيتدبر مثلاً اسم (العليم): فيعلم أن العلم كله بجميع وجوهه واعتباراته لله تعالى؛ فيعلم تعالى الأمور المتأخرة أزلاً وأبدًا، ويعلم جليل الأمور وحقيرها، وصغيرها وكبيرها، ويعلم تعالى ظواهر الأشياء وبواطنها، غيبها وشهادتها، ما يعلم الخلق منه وما لا يعلمون، ويعلم تعالى الواجبات -أو المستحيلات- والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلى ويعلم ما فوق السماوات العلى، ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور، وخفايا ما وقع ويقع في أرجاء العالم وأنحاء المملكة؛ فهو الذي أحاط علمه جميع الأشياء في كل الأوقات، ولا يعرض تعالى لعلمه خفاء، ولا نسيان؛ كقوله في غير موضع: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282]، وقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 199] “10(10) المواهب الربانية من الآيات القرآنية ص 63، 64..

وقال الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في نونيته:

وهو العليم أحاط علمًا بالذي في الكون من سر ومن إعلان

وبكل شيء علمه سبحانه فهو المحيط وليس ذا نسيان

وكذاك يعلم ما يكون غدًا وما قد كان والموجود في ذا الآن

وكذاك أمر لم يكن لو كان كيف يكون ذاك الأمر ذا إمكان11(11) نونية ابن القيم 2/ 215، الأبيات (3234 – 3237).

“وبراهين علمه – تعالى – مشاهدة في خلقة وشرعه، ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق يستلزم الإرادة، ولابد للإرادة من علم بالمراد”12(12) صفات الله – عز وجل – الواردة في الكتاب والسنة علوي السقاف 185..

ذكر بعض متعلقات علم الله – عز وجل- في خلقه سبحانه وأمره

أولاً: شمول علم الله – عز وجل – لكل شيء في السماوات وفي الأرض قال الله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق: 12]، وقال الله – عز وجل -: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [سبأ: 3].

ثانيًا: علمه الشامل لكل ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، قال الله – عز وجل -: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].

ثالثًا: علمه المحيط واختصاصه بمفاتيح الغيب، وبما يحدث من صغير أو كبير في البر والبحر، قال الله – عز وجل -: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].

رابعًا: علمه المحيط بمكنونات القلوب، وما تخفيه الصدور، وما توسوس به النفوس، قال الله – عز وجل -: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 29]، وقال سبحانه: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10]، وقال – عز وجل -: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16].

ومن ذلك علمه سبحانه بكل ما يقوله العباد ويعلمونه سرًا وعلانية في ليل أو نهار، فرادى أو جماعات، قال الله – عز وجل -: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [يونس: 61].

خامسًا: علمه الشامل بما في الأرحام لكل أنثى، قال سبحانه: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) [الرعد: 8]، وقال سبحانه: (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) [لقمان: 34].

سادسًا: علمه سبحانه لكل الأشياء قبل وقوعها وأن ذلك في كتاب، وله الحكمة البالغة في تقديرها، قال سبحانه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22].

سابعًا: علمه سبحانه لأحوال عباده تقيهم من فاجرهم، وغنيهم من فقيرهم، وغير ذلك من الفوارق، وذلك قبل أن يخلقهم ويكلفهم، وأن توفيقه لمن يشاء وخذلانه لمن يشاء إنما يكون عن علم بأحوال عباده وعن حكمة بالغة، قال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124]، وقال سبحانه: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الحج: 75]، وقال عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) [الفتح: 26].

ثامنًا: علمه المحيط الدقيق لكل مناجاة بين اثنين فأكثر مهما أسروا النجوى، قال الله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 1]، وقال عز وجل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].

تاسعًا: علمه الشامل لما ينزل من الشرائع على رسله وأنه سبحانه أعلم بما ينزل، وأعلم بما يصلح لعباده، وينتهي بهم إلى السعادة والخير في الدارين، قال الله – عز وجل -: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [النحل: 101]، وقال سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38]، وكثير من آيات الأحكام يختمها الله – عز وجل – بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ليخبرنا الله – عز وجل – أنه إنما يشرع بعلم وحكمة. يقول الله – عز وجل -: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [النساء: 166].

عاشرًا: هذا العلم الذي يعلمه الإنسان المحدود من علوم الدين والدنيا إنما هو من تعليم الله تعالى له واختصاصه له بالعقل، وقابليته التعلم، وإلا فالإنسان كما قال عنه خالقه – عز وجل -: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]، وهذا العلم الذي عند الإنسان مهما كثر وتفرع، فإنه لا يساوي شيئًا البتة عند علم الله تعالى. وما أحسن ما وصف به الخضر -عليه السلام- علم الإنسان بالنسبة إلى علم خالقه عز وجل، حينما قال لموسى – عليه السلام – وهو يرى طائرًا ينقر في البحر ليأخذ من مائه فقال عليه السلام: (يا موسى إن معك علم لم يعلمنيه الله تعالى ومعي علم لم يعلمكه الله – عز وجل – يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر)13(13) رواه البخاري (3401)، ومسلم (2380)..

يقول الخطابي رحمه الله: “والآدميون – وإن كانوا يوصفون بالعلم – فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فَيَخلُفُ علمهم الجهل، ويعقُبُ ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالمًا بالفقه غير عالم بالنحو، وعالمًا بهما غيرَ عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله سبحانه علم حقيقة وكمال: (قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق:12]، (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن:28]”14(14) شأن الدعاء ص (57)..

حادي عشر: اختص الله عز وجل نفسه سبحانه بعلوم الغيب، قال سبحانه: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) [الأنعام: 59]، وقال: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 65].

وذكر منها خمسة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 34].

قال الألوسي رحمه الله: “وما في الإخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر، إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه إلا الله تعالى”15(15) روح المعاني 7/ 171..

فعلم الغيب لا شك أنه أعظم وأوسع من أن يحصر في هذه الخمس فقط.

ومن زعم أن أحدًا يعلم الغيب غير الله سبحانه فقد كفر بالآيات السابقة.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: ومن زعم أنه – تعني النبي صلى الله عليه وسلم – يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل:65]16(16) جزء من حديث رواه مسلم (177)..

ثاني عشر: إن الله سبحانه لكمال علمه، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، لو كان كيف يكون، أي: أنه سبحانه يعلم الأمور الماضية التي وقعت، والأمور المستقبلية التي لم تقع بعد، ويعلم الأمور التي لن تقع لو فرض أنها تقع كيف تقع، وهذا من كمال علمه بالغيب وعواقب الأمور قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر: 49]، وقال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الآية [التوبة: 47]، وقال سبحانه: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح: 27].

الرد على من قال أن الله يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي

ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو يوصي من يخاصم القدرية بقوله: حجوهم بالعلم؛ أي: اسألوهم: هل الله – عز وجل – علم بالأشياء قبل وقوعها؟ فإن أقروا خصموا، وإن نفوا العلم كفروا.

وأشنع من القدرية أولئك الفلاسفة الذين نفوا علم الله تعالى بالجزئيات وقالوا: أنه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي. وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – في كتابه “درء تعارض العقل والنقل” فليرجع إليه وممن رد عليهم بالقرآن تلميذه ابن القيم – رحمه الله تعالى – حيث قال: “إن (الحمد لله) – يعني الفاتحة – تتضمن الرد على منكري علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه:

أحدها: كمال حمده وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئًا من العالم وأحواله وتفاصيله …

الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلهًا وأن يكون ربًا، فلابد للإله المعبود المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.

الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.

الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكًا لا يعرف أحدًا من رعيته البتة ولا شيئًا من أحوال مملكته البتة ليس بملك بوجه من الوجوه.

الخامس: كونه مستعانًا.

السادس: كونه مسؤولاً أن يهدي سائله ويجيبه.

السابع: كونه هاديًا.

الثامن: كونه منعمًا.

التاسع: كونه غضبانًا على من خالفه.

العاشر: كونه مجازيًا يدين الناس بأعمالهم يوم الدين ففي نفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله17(17) مدارج السالكين 1/ 67..

الهوامش

(1) انظر الزجاجي ص 50.

(2) انظر لسان العرب 4/ 3082.

(3) مفردات الراغب “علم”.

(4)، (5) تفسير الطبري 1/ 175، 11/ 127.

(6) لسان العرب 4/ 3082، 3083.

(7) تفسير السعدي 5/ 299.

(8) توضيح الكافية الشافية ص 118، وانظر الحق الواضح المبين ص 36.

(9) الحق الواضح المبين ص 38،37.

(10) المواهب الربانية من الآيات القرآنية ص 63، 64.

(11) نونية ابن القيم 2/ 215، الأبيات (3234 – 3237).

(12) صفات الله – عز وجل – الواردة في الكتاب والسنة علوي السقاف 185.

(13) رواه البخاري (3401)، ومسلم (2380).

(14) شأن الدعاء ص (57).

(15) روح المعاني 7/ 171.

(16) جزء من حديث رواه مسلم (177).

(17) مدارج السالكين 1/ 67.

اقرأ أيضا

من أسماء الله الحسنى: [الحكيم]

من أسماء الله الحسنى: [العلي، الأعلى، المتعال]

من أسماء الله الحسنى [العظيم]

من أسماء الله الحسنى: [الظاهر، الباطن]

التعليقات غير متاحة