إن أجل المقاصد وأنفع العلوم وأشرفها وأعلاها؛ العلم بأسماء الله عز وجل الحسنی وصفاته العلا؛ ذلك لأنها تعرف الناس بربهم سبحانه؛ الذي هو أشرف معلوم، وأعظم مقصود، و تعرفهم بخالقهم وخالق السماوات والأرض ومن فيهن، وهذا يستلزم عبادته سبحانه، ومحبته، وخشيته، وتعظيمه وإجلاله.

ومن رحمته سبحانه أن جعل توحيده، ومعرفته مركوزا في الفطر والعقول إجمالا، إلا أن يطرأ على الفطرة والعقل ما يفسدهما من فعل شياطين الجن والإنس ؛ قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30]. وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه … » الحديث1(1) جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه (1359)..

المحتويات

حاجة البشرية للرسل الكرام عليهم السلام

ولكن لما كانت هذه المعرفة إجمالية، بحيث إنها لا تكفي في معرفة الله عز وجل المعرفة الحقة التي تقود إلى عبادته وحده، ومعرفة تفاصيل أسمائه وصفاته التي لا يقوم ساق العبودية وفسطاط التوحيد إلا عليها، ولما يطرأ على الفطرة والعقل من ركام وانحراف واعوجاج، كان من تمام رحمته سبحانه وفضله، وإحسانه إلى خلقه أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب؛ ليعرفوا الناس بربهم سبحانه المعرفة التفصيلية التي تنير لهم الطريق إليه، ويدعوهم إلى توحيده وعبادته سبحانه، كما تعرفهم بغايتهم في هذه الدنيا وهي عبادته، ومصيرهم بعد ذلك إلى ربهم وخالقهم يوم القيامة: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]، وذلك بعد قيام الحجة الرسالية عليهم، وما تضمنت من بيان الحق من الباطل، والتوحيد من الشرك، والهدى من الضلال، وبعد أن عرفتهم على ربهم سبحانه وتفاصيل أسمائه وصفاته التي يتعبدون الله تعالى بها.

أفضل العلوم وأجلها على الإطلاق

والعلم بأسماء الله تعالى وصفاته أشرف العلوم والمعارف؛ لأنه العلم الذي يقوم عليه توحيد الرب سبحانه وعبادته، وتوحيد الله عز وجل وعبادته أول واجب على المكلف.

إذن، فلا جرم كان هذا العلم أشرف العلوم وأرفعها؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم؛ ولما كان المعلوم هو الله سبحانه وأسماءه وصفاته، كان هذا العلم هو أشرف العلوم.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (… إن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا ريب أن أجل معلوم وأعظمه وأكبره فهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص، وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله، ولا ريب أن العلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم، وأفضلها، ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات، وكما أن العلم به أجل العلوم وأشرفها فهو أصلها كلها …، والمقصود أن العلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله، ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه، ومصالحها وكمالها، وما تزکو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته)2(2) «مفتاح دار السعادة» (1/ 312)، ط. دار ابن عفان..

ويقول أيضا: (لا سعادة للعباد، ولا صلاح لهم، ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم، والتعرف إليه قرة عيونهم …، ومتى فقدوا ذلك كانوا أسوأ حالا من الأنعام، وكانت الأنعام أطيب عيش منهم في العاجل، وأسلم عاقبة في الآجل …)3(3) «مختصر الصواعق المرسلة » (1/ 47)..

ويفصل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى العلم بالله عز وجل فيقول: (وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان: أحدهما: العلم به نفسه؛ وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام، وما دلت عليه أسماؤه الحسنى، وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لا بد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته، كما شهد به القرآن والعيان، وهذا معنى قول أبي حبان التيمي -أحد أتباع التابعين -: «العلماء ثلاثة: عالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله، وعالم بالله وبأمر الله؛ فالعالم بالله الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام». .

وقال رجل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله . وقال عبد الله بن مسعود : كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا والنوع الثاني: يراد بالعلم بالله العلم بالأحكام الشرعية، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ترخص في شيء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنه، فقال: «إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية»)4(4) «مجموع الفتاوی» (3/ 333)..

الدراسات المتعلقة بأسماء الله وصفاته

ومقصودنا في هذه المقال هو النوع الأول: ألا وهو العلم بالله عز وجل وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام، وماله من الأسماء الحسنی والصفات العلا وما دلت عليه؛ لأن هذا العلم هو أصل العلوم، ولأن العلم الآخر – وهو العلم بأحكامه الشرعية – قد خدم كثيرا، وقد فصل أهل العلم الكتابة فيه بالمختصرات، والمطولات. والعلم بالأسماء والصفات على قسمين يفصلهما الدكتور عبد الرحمن المحمود -رحمه الله – فيقول: (والدراسات المتعلقة بأسماء الله وصفاته على قسمين: الأول: ما يتعلق بالإيمان بها وإثباتها، وقواعد أئمة السلف في ذلك، والرد على المخالفين من أهل التأويل والتحريف والتعطيل والتشبيه والتكييف والتفويض. وهذه -والحمد لله – قد كثرت فيها المؤلفات قديما وحديثا، وتنوعت فيها الدراسات المطولة والمختصرة، وكثير منها منشور ومطبوع ونسأل الله تعالى أن يثيب كل من كان له جهد في ذلك علمي أو عملي أو مادي في نشرها في كل مكان.

الثاني: ما يتعلق بأثر الإيمان بأسماء الله وصفاته على منهاج السلف الصالح في حياة المؤمن خاصة؛ وأمة الإسلام عامة، وهذا أمر مهم جدا له أثره العميق في حياة المؤمن، إذ هو الثمرة الحقيقية للإيمان بأسماء الله وصفاته ومعرفته، وتدبر معانيها. وكثيرا ما كنت أسأل عن هذا الموضوع، وعن كيفية تأثر المؤمن بالإيمان بها، وأهم المراجع المفيدة في ذلك)5(5) انظر: مقدمة كتاب «المنهج الأسنى»، للدكتور زين شحاته (ص 9)..

أهمية العناية بهذا العلم العظيم

ولكي يتبين لنا أهمية البحث في هذا العلم، وضرورة العناية به في دراسة العقيدة، وتدريسها أسوق فيما يلي بعض الأمور التي تطلعنا على أهميته وشرفه، وعلو شأنه.

معرفة أسماء الله الحسنى من أعظم أسباب دخول الجنة

أولا: إن أشرف غايات المسلم، ومنتهى طلبه أن يفوز برضوان الله تعالى وجنته، وأن يتنعم بالنظر إلى وجه الله ذي الجلال والإكرام في الدار الآخرة، ولكن هذه الغاية لن تتحقق إلا بتوفيق الله عز وجل لعبده للإيمان به وحده، وطاعته، واجتناب معاصيه. وهذا الإيمان والعمل الصالح لن يتحقق للعبد القيام بهما إلا بالعلم؛ لأن العلم قبل القول والعمل، وهو أساس العمل والخشية والبعد عن سخط الله تعالی. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، وقد شبه الله عز وجل العالم الذي لا يعمل بعلمه بالحمار؛ فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: 5]. ولما كانت أشرف الغايات لا يوصل إليها إلا بالعلم، فإن أشرف العلوم وأجلها في هذه الدنيا هو العلم المؤدي إلى النجاة في الآخرة، والفوز برضوان الله تعالى وجنته، فالعلم هو السبيل إلى العمل المقبول، والعمل المقبول هو السبيل إلى النجاة برحمة الله تعالى. ولما كان شرف كل علم بحسب ما يتعلق به هذا العلم، كان أشرف العلوم وأجلها هو العلم الذي يتعلق بالله عز وجل وبمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلا، وبقدر معرفة العبد بأسماء الله وصفاته يكون حظه من العبودية لربه والأنس به ومحبته، وإجلاله وتعظيمه.

أساس الإيمان وأول الواجبات

ثانيا: العلم بأسماء الله عز وجل، وصفاته هو أصل العلوم وأساس الإيمان، وأول الواجبات، فإذا علم الناس ربهم عبدوه.

يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (إن العلم بأسماء الله الحسنى أصل للعلم بكل معلوم؛ فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقا له تعالى أو أمرا، إما علم بملكوته، أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضي بمقتضيه، وإحصاء الأسماء الحسنى أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها)6(6) بدائع الفوائد» (1/163)..

ويقول قوام السنة الأصفهاني -رحمه الله تعالى -: (قال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه: معرفته، فإذا عرفه الناس عبدوه، قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]؛ فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها، فيعظموا الله حق عظمته، ولو أراد رجل أن يعامل رجلا طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره، فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها)7(7) «الحجة في بيان المحجة» (1/ 122)..

التعرف على أسماء الله الحسنى يزيد اليقين ويحقق التوحيد

ثالثا: في معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته زيادة في الإيمان واليقين وتحقيق للتوحيد، وتذوق لطعم العبودية.

يقول الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى -: (إن الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان وروحه، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوي يقينه)8(8) «التوضيح والبيان لشجرة الإيمان» (ص41) باختصار ..

ويقول أيضا: (وبحسب معرفته بربه یكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص، وأقرب طريق إلى ذلك: تدبر صفاته وأسمائه من القرآن)9(9) تفسير السعدي» (1/ 24)..

ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته وجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلا، وتلقيها من مشكاة الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد، فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورا ومحبة، فعلم أنه تعریف من تعريفات الله تعالی تعرف به إليه على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء أعظم ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة، فاشتد بها فرحه، وعظم بها غناؤه، وقويت بها معرفته، واطمأنت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه، فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها، لتيقنه بأن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا معلوم أعظم وأجل ممن هذه صفته، وهو ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وأن شرفه أيضا بحسب الحاجة إليه ، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد، والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه)10(10) «شرح قصيدة ابن القيم الشافية الكافية» (1/ 24)..

ويقول في موطن آخر: (والفرح والسرور، وطيب العيش والنعيم؛ إنما هو في معرفة الله وتوحيده، والأنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمة عليه، فإن أنكد العيش: عيش من قلبه مشتت؛ وهمه مفرق عن ذلك:

وما ذاق طعم العيش من لم يكن له      حبيب إليه يطمئن ويسكن

فالعيش الطيب، والحياة النافعة، وقرة العين: في السكون والطمأنينة إلى الحبيب الأول، ولو تنقل القلب في المحبوبات كلها لم يسكن، ولم يطمئن، ولم تقر عينه حتى يطمئن إلى إلهه وربه ووليه، الذي ليس له من دونه ولي ولا شفيع، ولا غنى له عنه طرفة عين)11(11) «إغاثة اللهفان» (1/ 118)، (2/ 283) ..

أفعال الله عز وجل مقتضى أسمائه وصفاته

رابعا: العالم بالله تعالى حقيقة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام

لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، وأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، كذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته، وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة ورحمة، وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه علیه لوضوحه.

وكيف يصح في الأذهان شيء        إذا احتاج النهار إلى دليل12(12) «إغاثة اللهفان» (1/10) بتصرف.

معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا أصلُ كل عبادة

خامسا: التلازم الوثيق بين صفات الله تعالى وما تقتضيه من العبادات الظاهرة والباطنة

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى -: (لكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح، فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء، والمنع، والخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة؛ يثمر له عبودية التوكل عليه باطنا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرا، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطئا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده، وكرمه وبره وإحسانه، ورحمته توجب له سعة الرجاء، وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته، تثمر له الخضوع والاستكانة، والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعا من العبودية الظاهرة هي موجباتها …، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات)13(13) «مفتاح دار السعادة » (2/90) باختصار..

سادسا: للتعبد بأسماء الله تعالى وصفاته آثار طيبة في سلامة القلوب، وسلامة الأخلاق والسلوك، كما أن في تعطيلها بابا إلى أمراض القلوب ومساوئ الأخلاق .

ثمرات التعبد بأسماء الله وصفاته

سابعا: في معرفة أسماء الله وصفاته، والتعبد له سبحانه بها ثمرات طيبة في الموقف من المصائب والمكروهات والشدائد، فإذا علم العبد أن ربه عليم حكيم عدل لا يظلم أحدا؛ رضي وصبر، وعلم أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يبلغها علمه؛ لكنها هي مقتضی علم الله تعالى وحكمته فيطمئن ويسكن إلى ربه، ويفوض أمره إليه.

من عرف الله عز وجل توجه إليه وأطاعه وأحبه

ثامنا: فهم معاني أسماء الله عز وجل وصفاته طريق إلى محبة الله، وتعظيمه ورجائه والخوف منه

 وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى -: (فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء، والمهابة، والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)14(14) «شجرة المعارف» (ص 1)..

معرفة أسماء الله الحسنى من أعظم الأسباب لتدبر کتاب الله تعالي

تاسعا: إن في تدبر معاني أسماء الله وصفاته أكبر عون على تدبر کتاب الله تعالي

حيث أمرنا الله عز وجل بتدبر القرآن في قوله سبحانه: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]. ونظرا لأن القرآن الكريم يكثر فيه ذكر الأسماء والصفات حسب متعلقاتها فإن في تدبرها بابا كبيرا من أبواب تدبر القرآن.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف، وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين، وأفكار المتكلفين: أشهدك ملكا قيوما فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهي، ويرسل الرسل وينزل الكتب، ويرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما یرید، موصوف بكل كمال، منزه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع)15(15) «الفوائد» (ص 82)..

معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا ترسخ في القلب الحياء من الله والأدب معه

عاشرا: العلم بأسماء الله عز وجل وصفاته يزرع في القلب الأدب مع الله تعالى والحياء منه.

يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (إن الأدب مع الله – تبارك وتعالی – هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا، ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء : معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره، ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق – علما وعملا وحالا- والله المستعان)16(16) «مدارج السالكين» (2/ 403)..

معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلا سبيل إلى إصلاح القلوب وتزكية النفوس

حادي عشر: المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته تبصر العبد بنقائص نفسه وعيوبها وآفاتها فتجهد في إصلاحها.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة …، ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال، ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر، ولم يغضب لها، ولم يحسد أحدا على ما آتاه الله. فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، وأحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته)17(17) «الفوائد» (177). .

ثاني عشر: الآثار السيئة والنتائج الوخيمة التي تنتج من فقد العبد لمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته، وعدم فهمه لها وتدبرها والتعبد لله تعالى بها.

ويجلي الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى- آثار هذا الفقد أو ضعفه فيقول:

(أي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله، وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة، وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة إليه، وماله بعد الوصول إليه)18(18) هداية الحيارى» (ص 591).، وقال أيضا: (إن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلب إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس بقربه، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض في الدنيا)19(19) «الجواب الكافي» (ص 132)..

ضرورة معرفة أسماء الله فهما وتدبرا وقياما بالحقوق

ثالث عشر: ومما يؤكد أهمية دراسة الأسماء والصفات، وأثرها في القلوب والأعمال هو أنه مع ما ذكر من الآثار السابقة؛ فإن الكتابة فيها ما زالت قليلة لا تكافئ أهميتها ولا تكفي للعناية بها؛ بل إن العناية بهذا ما زالت ضعيفة، وهذا ظاهر من طريق تدريس هذا العلم في كثير من المناهج وحلق العلم، حيث التركيز في دراسة هذا العلم على الجوانب الذهنية المجردة، وتصحيح التصور، والرد على المبتدعة فيه، وهذا حق ومطلوب، ولكنه ليس هو المقصود فحسب، وإنما المقصود أيضا من فهم الأسماء والصفات وصحة المعتقد فيها ما يظهر من ثمارها وآثارها في أعمال القلوب والجوارح والتعبد لله تعالى بها، والقليل منا اليوم من يعتني بأعمال القلوب، ويركز عليها، مع أنه باب عظيم لإصلاح القلوب وتخليصها من وساوسها وآفاتها، وعن أهمية عمل القلب يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى -: (ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما، وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه، وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح، وأكثر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت)20(20) «بدائع الفوائد» (3/ 193)..

الهوامش

(1) جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه (1359).

(2) «مفتاح دار السعادة» (1/ 312)، ط. دار ابن عفان.

(3) «مختصر الصواعق المرسلة » (1/ 47).

(4) «مجموع الفتاوی» (3/ 333).

(5) انظر: مقدمة كتاب «المنهج الأسنى»، للدكتور زين شحاته (ص 9).

(6) «بدائع الفوائد» (1/163).

(7) «الحجة في بيان المحجة» (1/ 122).

(8) «التوضيح والبيان لشجرة الإيمان» (ص41) باختصار .

(9) «تفسير السعدي» (1/ 24).

(10) «شرح قصيدة ابن القيم الشافية الكافية» (1/ 24).

(11) «إغاثة اللهفان» (1/ 118)، (2/ 283) .

(12) «إغاثة اللهفان» (1/10) بتصرف.

(13) «مفتاح دار السعادة » (2/90 ) باختصار.

(14) «شجرة المعارف» (ص 1).

(15) « الفوائد» (ص 82).

(16) « مدارج السالكين» (2/ 403).

(17) « الفوائد» (177).

(18) هداية الحيارى» (ص 591).

(19) «الجواب الكافي» (ص 132).

(20) « بدائع الفوائد» (3/ 193).

اقرأ أيضا

كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (1-7) علوم ضرورية، العلم بالأسماء والصفات

إن ربك حكيم عليم… لوازم ومقتضيات

 

التعليقات غير متاحة