هذه أسطرٌ أُسطِرُ فيها بعض ما أعتقد أنه نصيحة لكل ناظرٍ في النوازل، وفيها أضع اليد على جروحٍ تنزف في الجسد الفقهي؛ تسببت في أمراض في النظر الفقهي؛ أدى إلى تشوه في أهم المخرجات الفقهية؛ وهي فقه النوازل والتي عليها مدار الاجتهاد، والنظر، وهي ثمرته، ومواطن أسباب الخلل حين النظر في النازلة في منتهى الخطورة لمن غفل عنها، وهي من أهم أسباب النجاة لمن حاذر من الوقوع فيها، فوجدت أنه من النصيحة بيان أهمها ولا أزعم أني أحطت بها؛ ولكن لعل من أنار الله بصيرته للوقوف على مثل هذه الأخطاء – التي كانت سبباً في الانحراف بفقه النوازل – أن يكمل ما ابتدأناه؛ فإن هذه الأمة يكمل بعضها بعضاً فهي كالجسد الواحد.

من مواطن أسباب الخلل في فقه النوازل

تحدثنا في مقالات سابقة عن عدة مواطن لأسباب الخلل في فقه النوازل وهي: “أسباب اختلال فقه النوازل (1-4)”،

أسباب اختلال فقه النوازل (2-4)” و “أسباب اختلال فقه النوازل (3-4)” وفي هذا المقال نورد ما تبقى من المواطن الأخرى، ثم أهم النتائج والتوصيات.

الموطن التاسع: الحال العامة والسائدة التي تحيط بالفقيه

والتي لا يحسن غيرها، ولا يهتدي إلى سواها، وهذا عين ما كنّا نعتذر به للأفاضل الصالحين الكرام الأخيار؛ كالنووي وابن حجر وأمثالِهم، فعندما كنت أقرأ في فتح الباري وأنبهر من موسوعية ابن حجر وجمال منهجه في التعاطي مع الوحي، وما يقع في نفسي من إجلال وإكرام وتعظيم لهذا الرجل وفضل خاص علي حينما أطالع كتابه؛ بل وفضلٍ على الأمة عامة بما قدم لها وأتحفها به من هذا السفر العظيم، يمتلك قلبي حباً عظيماً له، وأقطع المطالعة وأشرع بالدعاء له حتى تطيب نفسي، ثم أعاود المطالعة، فإذا مررت بمسألةٍ عقدية، رجوت في نفسي ألا يبتعد فيها عن منهج السلف، حتى إذا اقترب كمسألة العمل في الإيمان فرحت فرحاً شديداً، وإذا تأول بعض الصفات شعرت بحزن على هذا الجبل العلمي الأشم، حتى إذا صدع في شأن ابن عربي وناقش شيخه ابن الملقن في حال ابن عربي لغيرة ابن حجر على التوحيد، فرحت فرحاً شديداً لهذه الغيرة منه على شأن التوحيد، وخلصت إلى نتيجة؛ وهي أن هذا الرجل بلا شك أشد تعظيماً وإجلالاً وإذعاناً للنصوص من كثيرٍ من منتقديه، ولكن البيئة، والمحيط الذي حوله كان له الأثر في اعتقاده.

تأثير حالة الأسر والاحتلال التي تعيشها الأمة على الفقيه

وكذلك الفقيه اليوم؛ فمنذ سقوط شوكة الإسلام، ودخول الشعوب تحت وصايات مقتسمي تركت الدولة الإسلامية، والفقه والفقيه يرزح تحت الأسر والاحتلال، والفقه إنما هو مخرج حي، والحي وهو الفقيه يتأثر بما يحيط به، ثم توالت السنون على هذه الحالة التي هي على خلاف الأصل، حتى تنشأ جيل من الفقهاء لا يحسنون إلا ما هو أمامهم من حال لم تكن هي حال للأمة.

إن من قرأ مقالة المؤرخ الجبرتي في رجل عين على بيت المال وتعوذه واستعجابه من حاله؛ وذلك لأنه حليق اللحية، كيف لو يرى الجبرتي مفتين هذه حالهم.

إذن لا بد للفقهاء اليوم من تجديد منهجي وشامل، وذلك بالعودة بالفقه إلى الحال الأولى؛ وهي حال الفرقة الناجية؛ وهي ما كان عليه محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يومئذٍ ، وإذا دأب الفقيه على النظر في النوازل من خلال عرضها على الحال الأولى التي فيها الجيل المزكى والمحصن من الزلل، والذي قد تربى في مدرسة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فسوف ينجو من انحرافات الأجيال التي جاءت بعد القرون المفضلة.

مقصود الولاية الصحيح في صدر الإسلام

وإليك مثالاً يوضح هذه المسألة : إن هذا المثال التوضيحي يدور حول مسألة دُخل على منهج السلف فيها، حتى أصبحت عنوانا لمن يدعي أنه على منهج السلف، ألا وهي مسألة ولاية الأمر.

وإليك تحليل حقيقي للمنهج الحق: إن العنوان الحقيقي لمنهج السف الصالح إنما هو المقصد الحقيقي من دعوة الأنبياء؛ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25] فالعنوان الأول، (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [هود:84]، فمدار دعوة الأنبياء توحيد الله، ومنهجهم كيف يُخلّص العبد من كل شوائب العبادة لغير الله، فالمكلف يجب أن ينقى من كل أنواع الشرك في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فيتحقق فيه مقصود الله من هذا الخلق، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات:56]؛ فمن تدبر الوحي وأحوال الرسالات وجد أن مدارها على هذا الشأن؛ وهو التوحيد، ووجد أن كل ما دونها إنما هو من باب الوسائل لها، ومن الوسائل لتحقيق التوحيد نصب من يقيم للناس هذا المقصد العظيم، من دعوة الناس إليه، والدفع عنه، والقتال في سبيل ذلك، والحفاظ على المصالح اللازمة للقيام بذلك، والقائم بذلك هو ما يسمى ولي الأمر؛ فإذن الولاية من باب الوسائل، ولقد بدأ شأن الولاية على هذه الاستقامة، فكانت ولاية الصديق رضي الله عنه قائمة على هذا الشأن فحارب الردة، وأنفذ جيش أسامة، فكان هذا مقصود الولاية الصحيح في صدر الإسلام، فهي على منهاج النبوة، ولم يكن دعوة الأمصار وجهادهم للإذعان لأبي بكر أو الدخول في طاعته، بل أبو بكر ومن معه رضي الله عنهم إنما هم جند للإسلام، وكان أمر الناس عائد إلى أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومضت الخلافة الراشدة على ذلك، حتى دخلت  المطامع في أمر الولاية، فنشأة الأثرة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر عليها، لكنَّ أمر الشريعة قائم، ومصالح الناس في الجملة قائمة، فالولاية وإن لم تكن على منهاج النبوة؛ إلا أن أمر الشريعة على استقامة، فاختلف الفقهاء، فذهب أبو حنيفة إلى منابذة هؤلاء الذين خرجوا عن منهج النبوة، ورأى مالك أن الولاية لا تكون بالإكراه، ورأى فريق أن المصالح والمفاسد هي الحاكمة، وأن الصبر أولى، وأن التجارب أدت إلى كوارث تحتم على الفقيه التروي وعدم المجازفة بالناس؛ حفاظاً على عباد الله من بطش الظلمة، لا إكراماً للظلمة.

وقوع الأمة تحت وصاية الصليبيين وافتقاد الفقيه لأرض لها شوكة منها ينشأ فقهاً حراً

ثم نزلت النازلة الأخيرة بالأمة واستباحها عباد الصليب، وانهارت شوكتها، فنشأت نازلة ليس لها شبيه في التاريخ الإسلامي، وهي أن تصبح الأمة من شرقها إلى غربها لا تملك من شأنها شيئا، ففي الماضي إذا استبيحت أرض بقي للأمة أرض، أما اليوم فأين يجد الفقيه أرض لها شوكة منها ينشأ فقهاً حراً، فنشأت الولايات التابعة، فالمغرب العربي يتبع السيد الفرنسي، والمشرق الإسلامي متشرذم بين دويلات الفتات الصليبي، وقلب العالم الإسلامي يتبع السيد الإنجليزي ثم ورثهم السيد الأمريكي، فأصبحت الأمة ترزح تحت وصاية الصليبيين الغزاة، فهل يعلم الفقهاء أنه حتى مجامع هذه الدول قد أسسها الغزاة لتوحيد القرار فجامعة الدول العربية قد أسسها الإنجليز، ومجلس التعاون قد أسسه الأمريكان، حتى عقيدة هذه الدول إنما ترسم لها من سفارات المحتلين، فهذه نازلة ومعضلة عظيمة، لا يمكن قياسها على حال الأثرة السابقة.

ولي الأمر من أجير  لدى الأمة إلى وكيل عن المحتل الصليبي

فإن الخلل في السابق الذين كان فيه الخلاف الفقهي1(1) وأكد على أنه خلاف اجتهادي فقهي قد صُيّر إلى خلاف عقدي. ، إنما هو في الأثرة في الدنيا التي ولي الأمر إنما هو أجير لدى الأمة عليها، أما اليوم فإن ما يسمى ولي أمر إنما هو وكيل عن قوى الهيمنة وقد تكفل لهم بالعمل تحت استراتيجياتهم حتى في مناهج التعليم؛ بل حتى فيما يدرس من آيات الله وما لا يصح تلاوته على النشأ، ثم تلبس على الجهلة بالواقع هذا الذي يعرفه أصغر المطالعين للصحف الغربية، وتنشأ الناس على أن هؤلاء الوكلاء ولاة أمور، وأن هذا العنوان الشرعي يتبعه لوازم، وتنشأ الناس على ذلك، وحمل فقهاء السوء على عواتقهم إخضاع الناس لهذا الواقع، ومن تأمل جل دعوتهم فكأن الخلق خلقوا لطاعة أولياء الأمور، وكأن مدار التوحيد على ذلك، ولو عاد الأمر في الأمة إلى نصابه لرأيت باب الولاية لا يجاوز باب المساقاة في الفقه، لأن الولاة في حقيقتهم إنما هم أجراء عند الأمة كما بين ذلك ابن القاسم من المالكية، وكذلك بينه ابن تيمية حيث يقول: ” وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه؛ فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا”2(2) مجموع الفتاوى (28/267)..

انكشفت عوراتهم: ولا زال الفقيه يدافع عن شرعية من يحاد الله ورسوله

وحينما تكشفت عورة الغرب للناس وكشر عن أنياب عداواته للأمة، ورأى الناس كذب الغرب وازدواجيته، كيف يشفق على كلبه وسنوره، ويبيد مدينة كالموصل، ويستدعي روسيا كي تجهز على من تبقى من الأحياء من بعد النصيرية والرافضة، فبدأ الناس يتساءلون ما هو دور الشريعة وأهلها وعلمائها، وبدأ الناس يرون من كان يؤمرون بإمضاء الحقوق لهم على أنهم ولاة أمور للمسلمين جزء أساس ممن يدير المذبحة مع الصليب والدول الباطنية، فإذا الأمة تذبح من الجميع، لكن بأنماط مختلفة، وإذا ولاة الأمور الذين ضُخم حالهم للعامة والخاصة وكأنك لن تدخل في عباد الرحمن حتى تذعن لهم بالولاء، إذا هم قد سخروا أنفسهم للطاغوت الأكبر وهو الأمم المتحدة التي تحكم حتى بيوت الله متى تفتح ومتى تغلق، فقد تكفل لهم هؤلاء بكل برامج التغيير والانسلاخ، والفقيه لا يزال يحاج بقاعدة لنا الظاهر، ولا نفتش عن الخبايا، هذه القاعدة استخدمها في شأنك الخاص أيها الفقيه ، لا في حال الصراع العام، وما يخص الأمة في عقيدتها وأعراضها ومقدراتها، إن المكلفين الذين تغيرت أحوالهم من عوام لا يدركون شيئاً، إلى مطلعي انترنت ووسائل التواصل حتى أصبح العامي يخبرك بالأحداث قبل وصولها للطبقة العلمية، إن هذا المكلف يمر بمرحلة خطيرة قد تؤدي إلى ارتداد جماعي عن المنهج الشرعي القويم، ولا أشك أن الإثم الأكبر في ذلك على من نصب نفسه مدافعاً عن شرعية من يحاد الله ورسوله، وأن النجاة في الدنيا والآخرة في تسليم الأمر لمن يريد خلع ربقة الإسلام من عواتق عباد الله.

إن فقهاء السوء يعرّضون عقيدة الناس لهزات وزلازل شديدة، والله إن كثير من طلاب العلم يتشوفون لحلول شرعية تزيل الحال المضطربة التي بين أيديهم، والمساكين ليس لهم من القدرة العلمية ولا البحثية ما يمكنهم من تحقيق الأمر ولم يتدربوا أصلاً للخروج من التقليد المبطن بالاجتهاد، وهذا مثال للانحراف التدريجي حتى يصبح المكلف لا يرى من العقائد إلا ما هو أمامه، ولا يهتدي إلا لما بين يديه.

حل هذه المعضلة

أولاً: لا بد من التفطن إلى أن ولاية الأمر اليوم نازلة، وتحتاج إلى نظر، فهي لا تشبه أي أنموذج عام مر على الأمة.

 ثانياً: العودة للكتاب والسنة وأعلم أن الرد إليهما قد جاء في سياق التنازع بين الحاكم والمحكوم.

ثالثاً: أن يوجه الفقهاء وطلبة العلم إلى دراسة حال الجيل النقي من الصحابة رضي الله عنهم والقرون المفضلة في مسألة ولاية الأمر.

رابعاً: أن ينشر الوعي الحقيقي عن شرك الطاعة وحقيقته وأسبابه، في مقابل الحملة الشعواء لتطويع الناس لإحلال الحرام، وتحريم الحلال.

خامساً: أن تعاد المسألة إلى موقعها الحقيقي من الشريعة فهي:

أ‌) من باب الاجتهاد الفقهي في أصل المسألة، ومن راجع ومارس هذه المسألة في فقه القرون المفضلة رأى العجب من انحرافٍ قد حل بهذه المسألة.

ب‌) أنها من باب الوسائل، فلا يمكن أن تعود الوسيلة على المقصد بالإبطال.

ولاة الأمر من أجراء إلى أرباب بفعل الفقهاء

من خلال ما سبق تعلم كيف أن الحال العامة والسائد خطيرة توهم بالفقه السائد، وعلمت كيف أن ولاية الأمر تحولت في بداية إنحرافها من وسيلة للحفاظ على أمر الله في الأرض وحمل الناس عليه، إلى أداة للتسلط على الدنيا، ثم لم يزل الانحراف بها حتى أصبحت تُضَاهِئُ حال الربوبية، فهو لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وتأمل الحال: الطاغوت الأكبر – وهي الأمم المتحدة – تقرر ، ووكيلها – ولي أمر المسلمين – ينفذ، وسحرته يبررون ويتلمسون الحكمة من القرار، والفوائد من نصه، كما يمارس ذلك الفقيه مع ربه.

ألا فليتق الله كل غيورٍ على شريعة الرحمن، وليعد البحث، والتأمل في نصوص الكتاب والسنة، فإن من أهم مقاصد التشريع الذب عن الكتاب والسنة، ومن أهمها الذب عن مفهومهما.

الموطن العاشر: عدم معرفة الواقع

إن غياب الفقيه عن واقع الناس، والوقائع الدولية، والحال العامة، يجعل منه خطر عظيم على الشريعة، والمكلف، والأمة،  وفي ذلك يقول ابن تيمية : “إن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح”3(3) جامع الرسائل لابن تيمية (2/305)..

“فلا يكفي المفتي مجرد معرفة حكم الله في المسألة، ومن أخل بجانب فقه الواقع فقد أضاع للناس حقوقهم، ونسب هذا إلى الشريعة التي تأبى كل هذا”4(4) فوضى الإفتاء ص (37)..

فمعرفة الواقع واجبٌ على المفتي حتى لا ينسب شريعة الله إلى العبث، ويهدر مصالح الخلق التي وضعت الشريعة لأجلها5(5) الموافقات واعلام الموقعين.، يقول الإمام الشافعي: “لا يحل لفقيه عاقل أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه”6(6) الرسالة ص (509)..

وجعل ابن القيم من جملة شروط من يتصدر للإفتاء معرفة حال الناس في زمانه ومكانه فقال: 

“معرفة الناس” فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيها فيه، فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه”7(7) إعلام الموقعين (4/157).. الله أكبر ما أجمل هذا الفقه.

ويقول ابن عابدين: ” إن جمود المفتي والقاضي على ظاهر المنقول مع ترك العرف، والقرائن الواضحة، والجهل بأحوال الناس، يلزم منه تضييع حقوق كثيرة، وظلم خلق كثيرين”8(8) مجموعة رسائل ابن عابدين (1/47)..

الحادي عشر: انهزامية الفقيه.

إن من تدبر القرآن علم أنه يربي في حامل الرسالة أن العزة لله جميعا، وألا يهن ولا يحزن فإن العلو على الباطل وأهله للمؤمنين، فيكون موطن نظر حامل الرسالة إلى الوحي ففيه الحكمة البالغة، والهدى، والسداد، فلا ينصرف نظره إلى غيره من المناهج، ولا إلى أوليائها، ( كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف:2-3] فالفقيه الذي يتخذ من الله ولياً ولا يتخذ من دونه أولياء، فلن يلتفت في نظره وفقهه لغير منهج ربه، ولن يتطلب الهداية في غيرها.

أما العالم صاحب النفس المهزومة فلا تسأل عما يتخذ من الأولياء، فكلما على طاغوت في الأرض نظر لمنهجه، وبدأ يؤلف بين منهجه والشريعة، فيخفت نجم هذا الطاغوت ويعلو طاغوت آخر فيبحث عن أوجه التشابه بينه وبين الشريعة.

أما الفقيه الذي تربى على المنهج الرباني: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية:18] فيكون ثمرة ذلك رسوخ عنوان كبير في النفسية الفقهية السليمة: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس:32].

إن المتأمل في الساحة يجد هذه معضلة كبيرة، فمن مهزومٍ للطاغوت الأكبر الذي أذعن له أهل الأرض – ممن لم يتخذ الله ولياً -، وهو الأمم المتحدة، التي تحكم العالم وتشرّع له ما تشاء من دون الله، فتجد من النفسيات المهزومة لهذا الطاغوت، والتي تؤسس فقهها على وفق أحكامه، وقس على ذلك ما دونه من طواغيت الأرض.

والسبيل الصحيح للتخلص من هذه المعضلة، هو اعتصام الفقيه بربه: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف:196]، ويعلم أنه خالق كل شيء ومليكه، (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف:54].

أهم النتائج والتوصيات

  1. أن الفقه عامة، وفقه النوازل خاصة يحتاج وبشدة حركة تجديدية، واعلم أن القصد بالتجديد – وهو الموافق للغة – هو إعادة الشيء لأصلة الأول.
  2. يجب على الغيورين من علماء الأمة أن يبينوا للناس براءة الشريعة مما ألصقه بها فقهاء السوء.
  3. يجب أن يقدم الفقه النقي الذين كان عليه الرعيل الأول لطلبة العلم والعوام من بعدهم، وذلك حفاظاً على ديانة المكلفين مما تتعرض له من زلازل وهزات رهيبة قد تودي بهم إلى الردة أحياناً.
  4. يجب أن يربى جيل من طلبة العلم على برامج بحثية مكثفة تربطهم بفقه الصحابة، مثل منهج الصحابة في تعظيم الوحي، ومنهجهم في الاستدلال، ومنجهم في التعامل في الفتوى، ومنهجهم في فقه النوازل، وأمثال ذلك.
  5. إن في الشريعة من العدل والجمال والجلال ما لا حصر له، لكن ذلك يحتاج إلى علماء يفجرون هذه الينابيع للناس.
  6. نشر منهج الرحمة والنصح لا منهج النقد والتشفي، وأن يعلم طالب العلم أن كثيراً من أهل الفضل قد يغفل عن أمور يراها طالب العلم من الواضحات، ولقد ناقشت من كنت أراه جبلا في العلم وعندما تبين له الحق سرعان ما عاد إليه بل إن بعض من يقع في الغفلة عن نوازل الأمة بسبب عدم معرفة سبيل المجرمين هم على خير وزهد وفضل وخشية يحقر أحدنا نفسه مع حالهم؛ لكن لله الحكمة البالغة، وهو يعلم السر وأخفى.
  7. لا بد من موقف حاسم من فقهاء السوء الذين يلبسون على الناس أمر الشريعة، وذلك إما أن نجاملهم لما لهم من مكانة عند العوام؛ وذلك على حساب شريعة الرحمن، وإما نبين الموقف الشرعي الحق ولو سقط من سقط.
  8. يجب أن يعلم الفقيه أنه اليوم لم يعد يتعامل مع العامي المسكين الذي تنطلي عليه الأمور، إنما يتعامل الفقيه اليوم مع مكلفين منهم علماء في السياسة، والاقتصاد، والإعلام، وغيره من التخصصات، فلابد من طرح فقهي في غاية الوضوح والمصداقية، حتى لا يتحول الفقيه إلى حالة مقززة من الدفاع عن حالة متهالكة من أحوال الدفاع والترقيع لحال الطغاة.
  9. يجب أن يعلم حملة الشريعة أنهم المسؤول الأول والأكبر عن حل معضلات الأمة، بل أهل الأرض كلهم؛ فخلاصهم من الشقاء إنما هو على أيدي حملة الوحي الذين يبلغونه؛ (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:38]، وقال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه:123].
  10. أن يربى طلبة العلم على الأصل الفقهي الصحيح، ثم إذا تنشأ طالب العلم على ذلك ورسخت قدمه، وعلم الفقه الأصل، ثم يدرس بعدها مراتب التكليف، وفقه الأعذار والاستثناءات التي تناسب الواقع، لا أن تجعل الحال الاستثنائية هي الأصل في الفقه، حتى لا ينشأ على خلاف الأصل فينكره إذا عرض عليه .
  11. البحث عن سبيل لتحرير الفقيه من المؤثرات التي تمنعه من الإنتاج العلمي الصحيح.
  12. اعتبار هذه الورقات سبب للتفكير والتأمل في الحال الفقهية السائدة، فلعل من يطلع عليها تكون سبب له في التأمل في الحال، ثم التدبر في الوحي، ثم قد يخرج الله على يديه خيرا مما قرأ.

13ـ لا يكفي في دراسة النازلة فقيه واحد بل ينبغي أن يشارك فيها أكثر من ذلك لا سيما إ ذا كانت النازلة عامة والأمة تحتاج إلى معرفة حكمها والموقف منها لدى فئام كثيرة منها.

14ـ الحذر من الهوى وحظوظ النفس وضغط الواقع وإرضاء الغير في دراسة النازلة وبذل الجهد في التجرد والإخلاص واللجوء إلى الله عز وجل وسؤاله التوفيق والسداد.

15ـ من ضرورات النظر في فقه النوازل أن يكون الفقيه عالما بالأدلة والقواعد الشرعية المتعلقة بالنازلة صحيحها وضعيفها  وأن يكون عالما بعلل الأحكام ومقاصدها  ومآلاتها وأن يكون ملما بالواقعة المراد إنزال الأحكام عليها من جميع جوانبها.

16ـ من متطلبات الفقه في النوازل سؤال أهل الاختصاص عن بعض الجوانب التي لا يعرفها إلا هم بحكم اختصاصهم فيسأل أهل الطب مثلا إذا كانت النازلة طبية  وأهل الاقتصاد إذا كانت النازلة مالية وهكذا.

17ـ على الفقيه في دراسته للنازلة أن يتمهل ولا يستعجل في الحكم على النازلة قبل البحث والتفكير العميق في الأدلة وفي جوانب الواقعة ومشاورة أهل العلم والخبرة واستخارة علام الغيوب الهادي النصير.

18ـ التعريف المختار لفقه النوازل هو: (ما استدعى حكما شرعيا من الوقائع المستجدة الملحة) ومن خلال هذا التعريف نخلص إلى أنه لا بد من اشتمال النازلة على ثلاث معان:

1ـ الوقوع  وهذا يخرج النوازل الافتراضية التي لم تقع .

2ـ الجدة  أي التي لم يسبق أن وقعت من قبل.

3ـ الشدة والإلحاح وهذا يخرج الوقائع الخفيقة غير الملحة.

هذا ما يسره الله عز وجل من كتابة في هذا الموضوع المهم  والحمد لله ورب العالمين

الهوامش

(1) وأكد على أنه خلاف اجتهادي فقهي قد صُيّر إلى خلاف عقدي.

(2) مجموع الفتاوى (28/267).

(3) جامع الرسائل لابن تيمية (2/305).

(4) فوضى الإفتاء ص (37).

(5) الموافقات واعلام الموقعين.

(6) الرسالة ص (509).

(7) إعلام الموقعين (4/157).

(8) مجموعة رسائل ابن عابدين (1/47).

اقرأ أيضا

أسباب اختلال فقه النوازل (1-4)

أسباب اختلال فقه النوازل (2-4)

أسباب اختلال فقه النوازل (3-4)

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

أسباب-إختلال-فقه-النوازل

التعليقات غير متاحة