تُحدث الزلازل في نفوس الناس -حتى الكفار منهم- الخوف من الله تعالى، وهذا مما لا يختلف عليه اثنان؛ فهو أمر واقع، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿… وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾. وأما أنها تُورث إنابة وإقلاعًا عن المعاصي وتضرعًا لله عزَّ وجلَّ وندمًا فهذا لا يكون إلا لعباد الله الصالحين…

جبر الله مصابكم يا أهلنا في المغرب وليبيا

إنا لله وإنا إليه راجعون، نعزي أنفسنا وإخواننا في المغرب وليبيا وعموم الأمة الإسلامية، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يتقبل القتلى في الشهداء وأن يغفر لهم ويرحمهم، كما نسأله سبحانه وتعالى أن يُعافي الجرحى والمصابين والمنكوبين، وأن يخلف عليهم خيرًا مما فقدوا..

زلزال عنيف ضرب جنوب مدينة مراكش المغربية اختفت على إثره عدة قرى، وقارب ضحاياه 5300 نفس حتى تاريخ كتابة هذا المقال -14/9/2023-، والعدد مرشح لزيادة كبيرة؛ لكثرة عدد المفقودين..

كما اجتاح إعصار ضخم مدينة درنة الليبية وما حولها مع سيول هائلة؛ يقول وزير الصحة في الحكومة المكلفة في البرلمان الليبي: يتوقع أن يتجاوز ضحايا السيول 10 آلاف قتيل.

ويقول وزير الطيران المدني: إن ربع مدينة درنة قد اختفى في البحر بساكنيه جراء تداعيات العاصفة الاستوائية التي دمرت حاجزين مائيين على مشارف المدينة.

الابتلاء بالشدائد والمصائب طريق إلى الجنة

وقد ثبت أن قتلى الهدم -سواء كان بتأثير الزلزال أو غيره-، وكذلك الغرقى في السيول -وغيرها- شهداء؛ عن أبي هريرة رضي الله عنـه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله»1(1) [رواه البخاري (2829)، ومسلم (1914)]..

وقد ثبت أن للغريق أجر شهيدين؛ عن أم حرام عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين»2(2) [رواه أبو داود (2495) وغيره، وحسنه الألباني]..

من حكم المصائب عدم الركون إلى الدنيا

والمصائب التي تصيب المسلمين يجب أن تذكرهم بأن الدنيا ليست دار مقر فلا يفرحوا بما أتاهم منها، ولا يحزنوا على ما فاتهم منها؛ قال الله تعالى: ﴿‌مَا ‌أَصَابَ ‌مِنْ ‌مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد:22-23].

قال الطبري: يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم، إلا في كتاب قد كتب ذلك فيه، من قبل أن نخلق نفوسكم. ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا﴾ يقول: لكيلا تحزنوا، ﴿عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ من الدنيا، فلم تدركوه منها، ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ منها.

وعن ابن زيد في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ قال: لا تأسوا على ما فاتكم من الدنيا، ولا تفرحوا بما أتاكم منها3(3) [رواه الطبري (23/198) بسند صحيح]..

من حكم الابتلاءات والشدائد التمحيص والتمييز

ومن صبر على المصائب واسترجع فله بشارة من الله عزَّ وجلَّ؛ قال تعالى: ﴿‌وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة:155-157].

قال السعدي: أخبر تعالى أنه لابد أن يبتلي عباده بالمحن، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده؛ لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر. هذه فائدة المحن…

﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾ وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية، وغرق، وضياع، وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة وقطاع الطريق وغير ذلك.

﴿وَالْأَنْفُسِ﴾ أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه…فهذه الأمور لا بد أن تقع…

البَلاءُ يكون مِنْحَةً، ويكون مِحْنَةً

فإذا وقعت انقسم الناس قسمين:

جازعين وصابرين، فالجازع، حصلت له المصيبتان: فوات المحبوب وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، ففاز بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.

وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط قولًا وفعلًا، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقًا لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.

فالصابرين هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة، والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.

﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد: علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي هو أرحم بعبده من نفسه فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره لما هو خير لعبده…

ودلت هذه الآية على أن من لم يصبر فله ضد ما لهم، فحصل له الذم من الله والعقوبة والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين، وأعظم عناء الجازعين..4(4) [تيسير الكريم الرحمن صـ(75)]..

وإنما الصبر عند الصدمة الأولى؛ عن ‌أنس بن مالك رضي الله عنـه قال: مر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري». قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فأتت باب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: «إنما الصبر ‌عند ‌الصدمة ‌الأولى»5(5) [رواه البخاري (1283)، ومسلم (926)]..

المصائب سبب لتكفير الذنوب ورفعة الدرجات

وهذه المصائب يكفِّر الله تعالى عن المسلمين بها ذنوبهم؛ عن عائشة رضي الله عنهـا زوج النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها»6(6) [رواه البخاري (5640)، ومسلم (2572)]..

وعن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يوعك فقلت: يا رسول الله إنك لتوعك وعكًا شديدًا. قال: «أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: «أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها»7(7) [رواه البخاري (5648)، ومسلم (2571)]..

وعن أبي هريرة رضي الله عنـه أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرْزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء»8(8) [رواه البخاري (7466)، ومسلم (2809)].. والأرْزة هي شجرة قوية عظيمة؛ قيل: هي شجرة الصنوبر.

قال النووي: قال العلماء: معنى الحديث أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفِّر لسيئاته ورافع لدرجاته، وأما الكافر فقليلها وإن وقع به شيء لم يكفِّر شيئًا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة9(9) [شرح مسلم (17/153)]..

في البلاء رحمة للمؤمنين وعظة وعبرة

والمؤمن يعتبر ويتعظ مما يحدث في الكون من أحداث، ويخاف من الله تعالى، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿‌…وَمَا ‌نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾.

قال الطبري: وأما قوله: ﴿‌وَمَا ‌نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ فإنه يقول: وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفًا للعباد… ثم ساق بسنده الحسن إلى قتادة قال: قوله: ﴿‌وَمَا ‌نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾: وإن الله يخوِّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه10(10) [جامع البيان (17/478)]..

وقد بين ابن القيم رحمه الله تعالى أن “الاستعتاب” هو: طلب الإعتاب؛ أي: طلب إزالة العتب؛ يقول رحمه الله تعالى: … ويقال: عتب عليه إذا أعرض عنه وغضب عليه…

ويقال: استعتب العبد سيده؛ أي: طلب منه أن يزيل غضبه وعتبه عنه، فأعتبه سيده؛ أي: فأزال عتب نفسه عنه. وعلى هذا فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ ‌مِنَ ‌الْمُعْتَبِينَ﴾ أي: وإن يطلبوا إعتابنا وهو إزالة عتبنا عنهم فما هم من المزال عتبهم؛ لأن الآخرة لا تُقال فيها عثراتهم، ولا يقبل فيها توبتهم..11(11) [بدائع الفوائد (4/181)]..

والزلازل والأعاصير الشديدة لا شك أنها من آيات الله تعالى المخوفة، فهي سبب للشر المستطير؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والتخويف إنما يكون بما يكون سببًا للشر؛ قال تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ ‌إِلَّا ‌تَخْوِيفًا﴾..12(12) [الرد على المنطقيين صـ(271)]..

وقال: وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببًا لعذاب ينزل كالرياح العاصفة الشديدة13(13) [مجموع الفتاوى (35/169)]..

تَبَلُّدٌ في الإحساس نحو هذه الآيات الكونية

والزلازل والأعاصير مما تُحدث في نفوس الناس -حتى الكفار منهم- الخوف الوقتي، وهذا مما لا يختلف عليه اثنان؛ فهي أمر واقع، وأما أنها تُحدث إنابة وإقلاعًا عن المعاصي وتضرعًا لله عزَّ وجلَّ وندمًا فهذا لا يكون إلا لعباد الله الصالحين، وأما غيرهم فما إن يستفيقوا من النازلة التي تنزل بهم حتى نرى الدنيا وشهواتها ما زالت تتلاعب بهم كأن لم يكن بهم شيء ولا نزلت بهم مصيبة نجوا منها قريبًا؛ كما قال تعالى: ﴿‌وَإِذَا ‌مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ‌كَذَلِكَ ‌زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وقال تعالى: ﴿‌قُلِ ‌انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾، وما زال الكفر -الأكبر والأصغر- متملكًا لقلوب الناس وألسنتهم وجوارحهم، وما زالت راية المعاصي خفاقة رغم الآيات المخوفة التي نراها في كل حين؛ قال الله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا ‌تَضَرَّعُوا ‌وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

يقول السعدي: ﴿‌وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي: استحجرت فلا تلين للحق. ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فظنوا أن ما هم عليه دين الحق، فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان14(14) [تيسير الكريم الرحمن صـ(256)]..

وفي الختام نهيب بجميع المسلمين أن يهبوا لنجدة إخوانهم في المغرب وليبيا وتقديم يد المساعدة والعون لهم، فالمسلم أخو المسلم، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

حفظ الله تعالى المسلمين جميعًا من كل سوء.

الهوامش

(1) [رواه البخاري (2829)، ومسلم (1914)].

(2) [رواه أبو داود (2495) وغيره، وحسنه الألباني].

(3) [رواه الطبري (23/198) بسند صحيح].

(4) [تيسير الكريم الرحمن صـ(75)].

(5) [رواه البخاري (1283)، ومسلم (926)].

(6) [رواه البخاري (5640)، ومسلم (2572)].

(7) [رواه البخاري (5648)، ومسلم (2571)].

(8) [رواه البخاري (7466)، ومسلم (2809)].

(9) [شرح مسلم (17/153)].

(10) [جامع البيان (17/478)].

(11) [بدائع الفوائد (4/181)].

(12) [الرد على المنطقيين صـ(271)].

(13) [مجموع الفتاوى (35/169)].

(14) [تيسير الكريم الرحمن صـ(256)].

اقرأ أيضا

بين المصائب والذنوب

فاجعة زلزال تركيا وسوريا

“لا تحسبوه شراً لكم” .. طمأنينة وسلامة قلب

فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا

تعزية وتسلية لأهلنا في تركيا وسوريا

التعليقات غير متاحة