الثقة في سنة الله بقوله ﴿لا تحسبوه شرا لكم﴾ يثمر ثمارا من التعرف على صفات الله والتعبد بها والنجاة من أمراض العصر، وعدم الانقطاع عن الطريق.

مقدمة

لما كانت سنة الله تعالى جارية بمقتضى حكمته ورحمته، كان هذا كافيا للمؤمن الذي يتعبد لله بأسمائه وصفاته ويثق في لطفه وحكمته ورحمته. فيتعبد بها لله تعالى، وهذا يثمر ثمارا من الخير والتعبد والطمأنينة وسلامة الصدر والتغلب على وساوس الإحباط والتراجع والقنوط.

من ثمرات هذه السنة

إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب، يظهر جليّاً في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء؛ فكان لزاماً على المسلم، وبخاصة الداعية المجاهد، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة، أذكر بعضها:

تحقيق العبودية لله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا

إن الله عز وجل لم يُعرّفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمائه عز وجل وصفاته: أن ندعوه بها، وأن نتعبد له سبحانه بها؛ قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180] إن في كل اسم من أسمائه سبحانه عبودية على العبد، يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف.

فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله عز وجل بها من خلال معرفة هذه السنة “الحكيم”، “العليم”، “البر”، “الرحيم”، “الودود”، “اللطيف”.. وغيرها. فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله عز وجل في كل أحكامه الكونية والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله عز وجل، والرضا بقضائه، وأنه بَرٌّ رحيم، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من لطفه سبحانه أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا من معاني اسمه سبحانه “اللطيف”.

يقول الشيخ السعدي رحمه الله:

“ومن معاني “اللطيف” أنّه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب، ويرقّيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنّه يذيقه المكاره، ليوصله إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة”. (1تفسير السعدي: ج5، ص279)

إن اليقين بلطف الله تعالى ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله ونصره، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره، كما أنه ينشيء في القلب الافتقار إلى الله عز وجل وتفويض الأمور إليه، وسؤاله عز وجل دائماً حُسْنَ العاقبة والاختيار.

وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة على ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين في ربطها بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان.

الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال

وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبده بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولا يخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور؛ هو الذي قدَّرها عليه، وأنه لم يقدّرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه.. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه، ويرضى بما يختار له مولاه سبحانه ، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة.

إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد؛ لقوة الرجاء في الله عز وجل، واليقين بفرَجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله عز وجل فيما أعده للصابرين؛ قال تعالى: ﴿إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: 104].

وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.

فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة؛ فإنه بذلك يقْوى صبره، واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله عز وجل، مع تفقّد النفس من الذنوب، وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.

سعادة القلب وطمأنينته وسكينته

عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله عز وجل هو عين الحكمة والرحمة، والخير، سواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حُرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم، نعم سوف لا يخيّم على نفسه ما يخيّم على النفوس اليائسة، من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجرّ وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.

إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله عز وجل باب إلى الهمّ، والغم، والحزن، وشتات القلب، وسوء الحال، والظن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، والتعبد له سبحانه بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولّد في النفس الرضى بما يختاره الله عز وجل، وأنه أرحم بعبده من نفسه ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 66].

سلامة القلب

عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله عز وجل ومعرفته سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسَل بها من القلب أمراضٌ كثيرة؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى في وصف إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام: ﴿إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الصافات: 84] وقال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: ﴿وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 87 89].

من مظاهر سلامة القلب

ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي:

السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء

وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله عز وجل ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية يعلم علم اليقين أن لله عز وجل الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء.

وهذا العلم لا بد أن يثمر الرضى بما يقدره الله عز وجل ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله عز وجل والتسخط لها.

السلامة من أمراض الخوف والطمع

إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما آتاه الله عز وجل، مطمئناً إلى اختيار الله سبحانه له؛ لأنه عز وجل أعلم بما يصلُح للعبد من نفسه. وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير؛ “داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها”؛ لأن القلب الراضي المفوِّض أمره إلى الله عز وجل قد امتلأ غنىً وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله سبحانه؛ فحريٌّ بقلبٍ هذه صفتُه ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة؛

منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آتٍ؛ قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22، 23].

والعبد المؤمن لا يدري أين يكون الخير، أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم، وهو علام الغيوب.

كما أنها تثمر أيضاً: الزهد في الدنيا، والحذر منها، فكم فرِح بالدنيا أناسٌ فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم؛ قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27].

وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حُكم ربه، وأحسن الظن به، وفوض أموره إليه..؟!

إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه عز وجل، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير.. معرفة حقيقية يتعبد لربه بها؛ فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً؛ فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم. ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظهر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري؟! فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة.

السلامة من أمراض الكبر والخيلاء

إن القلب لا يصْدُق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذُكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه عز وجل وتعبَّد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله عز وجل سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك: التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق، وعدم غمطهم وظلمهم، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله عز وجل في ابتلائه لعبده بالخير والشر.

ولأن أسباب الكِبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمةٍ دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس من هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك وهو لا يدري أين يكمن الخير أو الشر؟! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله عز وجل عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر..!

خاتمة

هكذا يثمر الإيمان بهذه الحقيقة في قلب المؤمن؛ فإن وجدته ثابتا رغم الفتن وتتابُعِها فاعلم أن ثمة عمق وجذور لهذا الثبات من أعظمها التسليم والإطمئنان لله تعالى.

……………………………..

هوامش:

  1. تفسير السعدي: ج5، ص279.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة